للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الرحلة السورية الثانية
(٥)

حال مسلمي بيروت الاجتماعية
قد أصاب مسلمي بيروت في سني الحرب ما أصاب سائر الطوائف في جميع
البلاد من تأثير مفاسدها التي أشرنا إليها في الفصول السابقة، ولكن حسنت حالهم
الاقتصادية فسبقوا غيرهم بمراحل، وهم وإن كانوا مع إخوانهم في الوطن فرسي
رهان في البراعة بالتجارة، قد امتازوا على النصارى واليهود في زمن الحرب بكون
نقودهم في صناديقهم، وجل نقود أولئك في المصارف الأوربية التي انقطعت المعاملة
بينها وبين البلاد العثمانية، وبكواتهم أجرأ على المجازفة، فاتسع علمهم وعظم
ربحهم، واشتروا أملاكًا عظيمة في بيروت ولبنان، وليس هذا ما نبغي من عقد هذا
الفصل، وإنما عقدناه للإلمام بحالهم العلمية والاجتماعية.
كانت بيروت في السنين الخالية دون دمشق وطرابلس في العناية بالعلوم
الغربية من شرعية وأدبية، وإنما كان يمتاز في الجيل والأجيال الواحد بعد الواحد
كالشيخ محمد الحوت الكبير الذي فاق علماء سورية المتأخرين بالعناية في علم
الحديث، والشيخ أحمد البربير في اللغة والأدب، وانتهت الشهرة في الجيل
الماضي إلى ثلاثة من فقهائهم وأدبائهم: الشيخ عبد الباسط الفاخوري المفتي، والشيخ
يوسف الأسير، والشيخ إبراهيم الأحدب، وهذا طرابلسي المولد والنشأة، واختار
الإقامة في بيروت بعد أن تخرج في طرابلس بالشيخ عبد الغني الرافعي الشهير،
وليست بيروت الآن بأقل من طرابلس في عدد طلبة العلوم الشرعية والعربية، ولا
في أضعفهم فيها، ولكن دمشق تفضلهما بما سنذكره بعد.
وأما الحال الاجتماعية، فقد تجدد فيها للمسلمين ثلاثة أمور ذات شأن كبير:
(أحدهما) في ترقي النساء المدني، و (الثاني) الاستعداد للاتفاق مع النصارى
والاتحاد الوطني معهم، و (الثالث) الميل إلى مجاراة من حولهم في التعليم
والتربية الملية، وإننا نقول في كل منها كلمة:
مسلمات بيروت
كانت المسلمات في بيروت أشد محافظة على التقاليد القومية من أمثالهن في
سائر المدن السورية، فلم تؤثر فيهن عوامل التفرنج الذي غلب على نساء
النصارى، لا النافع الصالح منها ولا الضار المفسد ولا عوامل التترك الذي سرى
إلى مسلمات دمشق، فكن أشد مسلمات سورية جمودًا، وكان رجالهن راضين بذلك،
ثم رغبوا في تعليم البنات، فأنشؤوا لهن مدارس ابتدائية، وأنشأت الحكومة العثمانية
مدرسة للبنات في بيروت، كان جميع تلميذاتها من المسلمات؛ لأن النصارى لا
يرغبون إلا في مدارس الإفرنج، ثم وجد في بعض شبان المسلمين الذين تعلموا في
المدارس الأوربية والأمريكية وأثَّر فيهم التفرنج ميل فَرْنَجَةِ النساء كان الرأي
الإسلامي العام يقاومهم فيه، وما زال صديقنا الأستاذ الشيخ مصطفى نجا مفتي
بيروت زعيم هؤلاء المقاومين على عنايته بتعليم البنات، وإشرافه عليه في عدة
مدارس، حتى إنه شديد الإنكار على تعليمهن العزف بآلة (البيانو) التي لا يكاد يخلو
منها بيت من بيوت الطبقات الوسطى في مصر، دع الطبقات العليا في الثروة،
ولما عني الاتحاديون من الترك بإفساد آداب مسلمات سورية جريًا على خطتهم التي
جعلوا من أوائل قواعدها أن الأمة لا يمكن تحولها من حال إلى حال إلا بهدم
عقائدها وأخلاقها وآدبها وتقاليدها، وجهوا كثيرًا من هذه العناية إلى مسلمات
بيروت، وحاولوا تعويدهن السكر والتهتك مع مخالطة الرجال، فكان الرأي العام
وتشدد المفتي وأنصاره مضعفًا لتأثير هذه العاصفة التي كان يخشى أن تدمر الدين
والآداب تدميرًا لا تقوم للأمة بعده قائمة إلا بإصلاح جيل جديد إذا تيسرت وسائل
الإصلاح.
لا شك في أن عاداتنا وتقاليدنا القومية في النساء والرجال؛ منها ما هو حسن،
وهو بقايا آداب الشرع وإصلاح الدين، ومنها ما هو قبيح ضار يجب تغييره
بالتدريج، وفي أن ما يراد من التغيير والتجديد في الأمة؛ منه ما هو حسن نافع لا
يمكن للأمة الإسلامية أن تجاري سائر الأمم في سعة العيش والعزة والاستقلال
بدونه، ومنه ما هو قبيح ضار مفسد لأمري الدين والدنيا جميعًا، ومن سنن
الاجتماع المطردة في البشر أن الإفراط في الأمور المتقابلة تظهر به مزية الوسط
المعتدل بينهما، وأن استعداد الجمهور الأعظم هو الذي يرجح أحد الطرفين
المذمومين، أو الوسط المحمود في العمل، والذي رأيته أن حظ بيروت في المسألة
النسائية كان أقرب في هذا الطور إلى الاعتدال.
في كل طبقة من المحافظين والمتفرنجين والمتوسطين إفراط وتفريط واعتدال
فغلاة الاتحاديين أمرهم فرط؛ إذ كانوا يرون التعجيل بإبطال جميع العقائد
والعبادات والعادات، وتكوين الأمة تكوينًا جديدًا في كل شأن، وزعيمهم الدكتور
ناظم وطلعت باشا، وكان من المعتدلين منهم أنور باشا؛ إذ كان يرى احترام الشعائر
الدينية والاستفادة من الرابطة الإسلامية، بدلاً من قطع روابطها، ويعتقد بعض
عارفي أمره أنه صار بمقامه في برقة صحيح العقيدة، محافظًا على الصلوات إيمانًا
واحتسابًا لا سياسة ورياء، وبذلك اتسعت مسافة الخلف بينه وبين أولئك الغلاة
وزعيميهم، ومن رجالهم المعتدلين عزمي بك الذي كان واليًا على بيروت في زمن
الحرب، وقد رأيت الناس فيها معجبين بما كان عليه من الحزم والعزم والعدل
والدقة في النظام، ويرون أنه لو كان عند الدول كثير من أمثاله لفاقت بها دول
أوربة.
وجه عزمي بك عنايته في بيروت إلى ترقية المسلمات في الحضارة العصرية
بالتدريج الذي تؤمن معه الفوضى الأدبية وتعويدهن حضور مجامع الرجال العلمية
والأدبية وسماع ما يلقون فيها من الخطب المفيدة والشعر العصري، وإسماعهم ما
تجود به قرائح المتلعمات منهن، ومشاركتهن لهم في الأمور الاجتماعية، ولولا أن
وجد في بيروت أحمد مختار بك بيهم يساعده على ذلك لضاع عزمه وخاب سعيه
على ما أوتي من قوة إرادة وسلطة كادت تكون مطلقةً.
كان لأحمد مختار بك بيهم جماعة من المرايا لم تجتمع في وطنه لغيره في
عصره، كان على كرامة بيته ومكانة عشيرته ذكي الفؤاد طلق اللسان جريء
الجنان صادق الوطنية والغيرة القومية عالي الهمة كبير المروءة حسن المعاشرة
عارفًا بزمانه وفيًّا لأصدقائه، فكان بذلك من زعماء مسلمي بيروت الذين يرجع
إليهم في المهمات، كما كان محترمًا عند سائر الطوائف بآدابه وحسن معاشرته،
فكان الناس يحبونه ويحترمونه ويحسنون الظن بإخلاصه حتى فيما ينكرونه من
شذوذ بعض أعماله وميله إلى التفرنج، فلم يكونوا يتهمونه بأنه يقصد بهذا إضعاف
مقومات أمته ومشخصاتها الملية ولا تقوية النفوذ الأجنبي فيها، فهذه المكانة التي
كان يعرفها لنفسه في قومه جرأته على مواتاة عزمي بك ومساعدته على ما قصد
إليه، بل استعان كل منهما بنفوذ الآخر على عمل يريانه نافعًا للمسلمين، بل لا بد
لهم منه في حياتهم المدنية العصرية، بل كانا يريان أن نساء المسلمين لا بد أن
يتركن الحجاب ويجارين غيرهن من نساء الملل في الحضارة العصرية، وأن
الخير لنا أن نبني ذلك على أساس متين؛ أي: جامع بين مصلحة الدنيا وصلاح
الدين، وإلا فعل التيار العصري فعله فينا بغير اختيار منا، فكان إثمه أكبر من
نفعه.
أنشأ الزعيمان ناديًا للنساء في سنة ١٣٣٥ (١٩١٧م) وألّفا له جمعيةً من
كرائم المتعلمات منهن باسم (جمعية الأمور الخيرية للفتيات المسلمات) ، ثم أسس
هؤلاء الكرائم مدرسةً لتعليم البنات، وكان النادي يعقد اجتماعات نسائية يحضرها
النساء والمستحسنون لهذا العمل من الأدباء والأطباء، ويلقون فيها الخطب
والدروس التي اصطلح كتاب العصر على تسميتها بالمحاضرات، ويسمون من
أعضاء النادي الكرائم ما يلقينه فيه ويتحدثون معهن في المسائل الأدبية والاقتصادية
والصحية وتدبير المنزل والتربية، وإنما يكن مع الرجال سادلات على وجوههن
النقاب الإسلامبولي الأسود، لا سافرات، ويجلسن في جانب والرجال في جانب،
فهن قد سبقن في بدايتهن نساء مصر إلى هذه المحافل والمجامع التي كان يتمناها
قاسم أمين وإخوانه من زهاء ربع قرن مع مبالغتهن في الحجاب وكثافة النقاب،
حتى إن بعض الأوانس من أعضائه حضرن حفلة ذكرى مرور قرن على المعلم
بطرس البستاني في الجامعة الأمريكانية ببيروت، وألقت فيها عنبرة سلام وعادلة
بيهم فيها ما جادت به قرائحهن في الموضوع على الجم الغفير من الرجال والنساء.
دعاني أحمد مختار بك - رحمه الله -[١] إلى زيارة هذا النادي وإلقاء النصائح
والحكم فيه تعضيدًا له وإرشادًا للسيدات المسلمات، فإنهن يتمنين الاستفادة مني
كالرجال، وقد جرت العادة بأن ألقي في بعض مساجد بيروت ومجامعها خطبًا
ودروسًا في كل زيارة من زياراتي لها، فأجبته إلى ذلك.
زرت النادي أولاً، ثم أجبت دعوته إلى إلقاء نصيحة عامة فيه، وكان هذا
في يوم مشهود حضره بالدعوة كثير من النساء والرجال، ومنهم من لم يكن يلم به،
ولا يسمح لأحد من أهل بيته بالإلمام به، وألقيت فيه خطابًا مطولاً ذكرت فيه
خلاصة وجيزة عن حال النساء في مصر، وفوائد نهضتهن وغوائلها، وما ينبغي
للمسلمات السوريات في بيروت وغيرها من الاعتبار بها، وبينت فيه حالة العصر
الاجتماعية، وما ينبغي للمرأة المسلمة فيه من الجمع بين فضائل دينها وآدابه
ومعرفة ما يجب عليها لبيتها ووطنها وأمتها، وما يجب من تقديم الأهم فالأهم،
وهو تدبير المنزل وتربية الأولاد وما يتوقفان عليه من العلوم الكثيرة، فنال هذا
الخطاب استحسان جميع الأحزاب المختلفة في هذا الموضوع، وإنني أنشر هنا ما
ألقته رئيسة (جمعية الأمور الخيرية للفتيات المسلمات) التي تدير المدرسة والنادي
السابق ذكرهما ترحيبًا بي، وسأنشر في فرصة أخرى بعض ما ألقي في حفلاته
السابقة؛ ليقف قراء المنار على أفكارهن ودرجة تقدمهن.
***
ترحيب الرئيسة الفاضلة
سيدات النبل وسادة الفضل
إن جمعية الأمور الخيرية للفتيات المسلمات ترحب اليوم بضيفها الكريم العالم
الفاضل صاحب السيادة الأستاذ رشيد رضا، فهو الخطيب البليغ الذي طالما لهجت
الألسن بذكر مناره الذي أضاء العالم الإسلامي بأبحاثه العلمية المفيدة، وقد رأيناه
عند اجتماعنا به للمرة الأولى في مدرستنا خير نصير للمرأة؛ إذ أفاض علينا من
بعض حكمه ما يجعلنا نزداد نشاطًا بأن نعيد مجد السلف الصالح، فنستمد منه تلك
القوة الأدبية والمعارف السامية التي طالما تاقت النفوس إليها، ونضم إلى ذلك ما
يلائم حالتنا وتقاليدنا من الرقي العصري، فحبًّا بالاستفادة من ينابيع علمه وفضله،
فقد قامت هيئة جمعيتنا بدعوة حضرته ليلقي على مسامعنا محاضرة علمية تكون
خير ذكرى يحفظها نادينا لسيادته.
فباسم جمعيتنا أقدم الشكر لسماحته، ولكل من يعاضد صروح العلم والأدب،
ونخص منهم بالشكر حضرة الوطني الغيور الوجيه الفاضل السيد عارف النعماني
الذي تبرع بمبلغ مائتي ليرة لمدرستنا لتصرف في سبيل تعليم الفتيات البائسات
اللواتي يدعين إلى الله بأن يديمه عضدًا للإحسان، فسلام على كل روح أوقفت
لإعلاء الوطن وأهله.
... ... ... ... ... ... بيروت ١٢ ربيع سنة ١٣٣٨
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... خديجة بربير
***
خطبة النابغة الفاضلة الآنسة عنبرة سلام
سيداتي الكريمات وساداتي الأفاضل
خلق الإنسان للجهاد في هذه الحياة، فهو لا يزال يكافح الخطوب وينازل
العثرات، فتارة يروح تحتها، وتارة تكون له الغلبة عليها، وهو دائمًا في نزاع
مستمر مع القوى المحيطة به، ولكنه إما أن يجاهد في كسب معاشه وموارد رزقه،
فيدل على أنه إنسان حي في جسم المجتمع البشري، وإما أن يقوم بالنصرة العامة
على طرق مختلفة، وأشد هذه الطرق صعوبة ما كان يقصد منها تغيير معتقدات
فاسدة كانت في نفوس الناس أجيالاً طويلة، حتى قيَّض الله نابغة يعالج هذه المعتقدات
ويكافحها بأحسن منها، فهو العالم الحكيم والمجاهد العظيم.
لقد مضى على الأمة الإسلامية حينٌ من الدهر كانت تكتنفها به الجهالات
وتعمل في أعضائها أيدي الفساد، فقد ابتلاها الله بمن أضاعوا رشدها وأضلوها
سواء السبيل، أولئك قوم نصبوا أنفسهم لهدي الأمة فضيقوا عليها المسالك،
وأفهموها الدين بصورة لا تنطبق على الدين الحنيف بشيء، فخدروا أعصابها،
وأضعفوا بنيانها، حتى جاد الله عليها بحكماء ينبهون أعصاب العامة، ويهدئون
روع العقلاء، فأنجبت الأفغان للأمة ركنًا وسندًا، ونفحتها مصر الكريمة عضدًا
ومرشدًا، ولم تكن سوريا بأقل منهما حظًّا، بل هي تفتخر بأن كان من أبنائها من
غدا للأمة هاديًا، ولضعفها مداويًا، تتجه نحوه آمال المسلمين في أقطار المعمورة
فيجدون به مضيء سبيلهم، والآخذ بأيديهم إلى محجة الصواب.
إن الأمة الإسلامية بحاجة إلى من يفهمها الدين المبين بأسهل الطرق وأقربها
تناولاً، إننا بحاجة شديدة إلى علماء يوفقون بين الدينيات ومبادئ العمران التي
وضعت عليها أساسات الدين، فلا يجعلون الدين بمعزل عن كل ما من شأنه أن يدعو
إلى الحضارة والتقدم حتى يخال للناظر البعيد كاللورد كرومر مثلاً، ذلك الرجل العظيم
الذي لم يكلف نفسه مؤنة البحث، بل اكتفى أن حكم على الإسلام بالمسلمين أنه ينافي
روح العصر والمدنية، وهو الدين الكريم الذي ملأ الأرجاء نورًا، ونفخ في العالم
روح حياة مدنت الأمصار.
ولن تنسى الأمة الإسلامية ما أحدثتها في نفسها تعاليم المرحوم السيد جمال
الدين الأفغاني الذي نسميه بحق المصلح الكبير وفيلسوف القرن الأخير، والذي جدد
للإسلام رونقه وبهاءه، وقد لاقى في حياته الإصلاحية من العثرات ما يثني عزم
الضعيف ويشحذ همة العظيم، فمر عليها جميعًا معليًا شأن الدين، ومثبتًا فلسفته
الدينية على أمتن الأركان حتى شهد له فلاسفة العالم الأوربي بمقدرته الفائقة، وعلو
كعبه في مباحثه الدقيقة، فأحلوه من الإكرام المقام الأسمى، وكان من النوابغ الذين لا
تجود بهم الطبيعة في كل حين.
ثم داوم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ذلك الجهاد بتعاليم تروق للنفوس
فتغذيها بأبدع الأساليب، ففسر آيات الكتاب المجيد بصورة سهلة رائقة وعبارات
بسيطة واضحة لم يسبق لها مثيل اهتز لها العالم الإسلامي إجلالاً وإعجابًا، وإن من
فتاويه الكثيرة لما يأخذ بالألباب، ولست بالمحدثة الشهيرة، فأحدثكم عن تعاليمه
ومباديه، أو أروي فلسفته وفتاويه، بل يروق لي أن أذكر هنا قصة صغيرة تدل على
الأساليب البسيطة التي سار عليها الأستاذ الإمام، ويمشي في سبيلها الآن سماحة
خلفه الأستاذ الكبير: أسلم أحدهم مرة، فجاء الأستاذ الإمام يطلب إليه فقيهًا يعلمه
أصول الدين، فمضى عليه عدة أيام وهو يعلمه الشروح عن الماء الطاهر منه
وغير الطاهر أو المطهر، فجاء بعدها يشكو أمر هذه الشروح الطويلة إلى
الأستاذ - رحمه الله - فأجابه: اذهب يا بني فالماء الذي تشرب منه توضأ به.
على هذه الطريقة السهلة الفنية يثبت في أذهان القوم الدين القويم، ويسار بهم إلى
الإصلاح على صراط مستقيم، وقد جاهد - رحمه الله - في إصلاح شأن الأمة في
عدة سنين ما أفسده عليها غيره في قرون، فقال عنه السيد الأفغاني: إنه لمصر
أعز من جيش وأقوى من أسطول. وكان للأمة بأجمعها معزز جيوش عمرانها وقائد
أساطيل تجدد بنيانها.
ولم تحرم الأمة بعدهما يدًا قوية على الإصلاح، ولا عدمت همة عالية تلم
شعثها وتقوم معوجها، فكان من فضيلة الأستاذ الكريم الذي نتشرف بالاحتفال به
اليوم ومن مناره الأغر أمتن رابطة بين المسلمين في أنحاء الأرض المترامية
الأطراف، يؤثر في نفوسهم بجهاد متواصل عرفه له الخاص والعام، فقام أهل
الهند يحتفلون به ذاك الاحتفال الكبير، يظهرون به مشاعرهم نحو المجاهد العظيم،
وقامت البلاد الإسلامية تردد صدى آرائه السامية، وتقدم لجهاده ألوية شكرها وثنائها،
وأقر له بالفضل كثيرون، وشهد بجهاده العظيم الطبيعيون، فذكر الدكتور شميل
في كتابه فلسفة النشوء والارتقاء ما يعانيه أستاذنا الكريم في سبيل إفهام جهلة
المسلمين وعامتهم وإصلاح أحوال دينهم ودنياهم، وإننا جميعًا نعقد على إصلاحاته
آمالنا؛ لما له في القلوب من المقام الرفيع، ولأن لعلماء الدين من المقدرة على السير
بالأمة إلى أحسن سبيل، والأخذ بها في معارج الرقي ما ليس بقدرة غيرهم القيام به،
فعلى علماء الأمة تعلق الأمة الرجاء، يتقدمهم نبراسها المضيء بمناره الواضح.
وإن لي أخيرًا رجاءً أقدمه لسماحة صاحب الفضيلة والفضل، وهو توجيه
عامة المسلمين إلى حالة المرأة وحثهم على الاهتمام العظيم بأمر رقيها وإصلاح
شأنها؛ لأنها أم الأمة وبيدها تغرس شجيرات الخير والصلاح، فليأخذوا بها في سبيل
الفلاح بطريقة مثلى، وليعدوها للسير إلى ما تتطلبه طبيعة الأيام مع المحافظة
التامة على أخلاقنا الأساسية، فيكون لها في رقي الأمة شأن، وتكون في إصلاحها
العون والمساعد، وإنني أرجو الله أن يبقي لهذه الأمة عالمها الكبير يحمل لواء
جهاده العظيم، في رأسه قبس تستضيء به الأمة جمعاء في مشارق الأرض
ومغاربها.
... ... ... ... ... ... ... ... ٤ ديسمبر سنة ١٩١٩
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عنبرة سلام
((يتبع بمقال تالٍ))