بقلم صاحب السماحة السيد الشيخ محمد توفيق البكري شيخ مشايخ الصوفية [١]
(الفصل الأول في رأس مال الإسلام) (المكان والسكان) إن مستقبل الأمم يتوقف في الحقيقة على أمرين طبيعيين هما كثرة السكان وخصب المكان، فإذا استوفت الأمة حظها من هذين الأمرين عظم مستقبلها بقدر ذلك مهما حرمت في الحال من الأسباب الأخرى الكسبية كالعلم والأخلاق والقوانين والحكومة وغير ذلك، فإن هذه جميعها يأتي بها دور الزمان وإن أخرتها آونة طوارق الحدثان، ولذلك قال (مونتورو) و (تين) وغيرهما: إن مستقبل الصين أكبر من مستقبل أية دولة أخرى، ومَن شَاهد رُقِيَّ اليابان وما كانت عليه الروسيا منذ ثلاثة قرون، وما هي عليه الآن من ضخامة السلطان لا يشك في صواب ذلك القول المتقدم. وقد أشار ابن خلدون إلى شيء من هذا حيث قال: إن اتساع نطاق الدولة يكون بقدر اتساع عصبيتها في الأصل. وقال الشاعر: (وإنما العزة للكاثر) . فإذا تقرر ذلك علمنا أن مستقبل الإسلام كبير، وشأنه خطير. فإن حظه من هذين الأمرين وافر، وقسطه متكاثر، وإليك البيان. إذا تأمل المسلم في مصوّر الجغرافية يجد ثلاثة عوالم قد تقسمت الأرض وهي: العالم الإسلامي في الوسط، والعالم المسيحي عن يساره، والعالم الوثني عن يمينه على هيئة قلب وجناحين. ويرى أن قسط العالم الإسلامي من هذا الاقتسام عظيم، ونصيبه جسيم، فهو يمتد في فسحة من الأرض بدؤها بحر الأطلنطيق، ونهايتها رسيف الباسيفيك آخذة من حواشي سيبريا شمالاً إلى جزر المحيط جنوبًا، أقاليم متصلة، وأقطار غير منفصلة، وأمصار متتاخمة، وأخياف متلاحمة، وبين ذلك قصور وخيام، ودور وآطام، ووبر ومدر، وبدو وحضر، بقاعٌ هي أطيب المعمور رقعة، وأمرعه نجعة، فيها النيل والفرات، وسيحون وجيحون، فيها أوداء مصر، وسهول الهند وميطان الصين وسواد العراقين، وبطاح الأناضول وجبالها، وريف فارس ورمالها، فيها مرقد النبي العربي الهاشمي، ووطن المسيح ابن مريم، ومبعث موسى الكليم، ومهبط الوحي على جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلى غير ذلك من هواء طلق، وماء عذب، وجوٍّ صحو، حسنات وراء حسنات، تقصر دونها الأمصار، وتموت حسرة عليها الأقطار، ذهب بعض مجوس الهند إلى لوندرة فقال له بعض أهلها: كيف أنتم تعبدون الشمس. فقال المجوس: وأنتم لو رأيتموها لعبدتموها. ثم إن هذه السعة في الأرض والبسطة في الخصب التي رزقها العالم الإٍسلامي أصل كبير في نموّ أفراده وحسن حالهم إذ ارتباط المكان بالمكين في السعادة والشقاء والقلة والكثرة أمر مقرَّرٌ في علم الاجتماع الإنساني. قال (لوبون) : ما دامت الأرض القابلة للزراعة كافية للسكان يتأتّى لهؤلاء أن يزيدوا عدًّا فيكثرون وينمون بالفعل فإن تعادلت موارد الأرض وعدد السكان بقي هؤلاء على حالتهم لا يزيدون ولا ينقصون، فإن زاد عديدهم عن موارد الأرض وقعوا في إفرة الشدائد والضيق وتواترت عليهم المصائب والأزمات إلى أن تأتي حروب جارفة أو أوبئة قاشرة فتعدل الكفتين. هذه حقائق بسيطة ومع ذلك قد تغيب من أفهام كبار الخواص وأشهر الكتاب فلا يفتأون يطلبون كل يوم زيادة السكان بأية وسيلة كانت بلا مراعاة لما تقدم وقد وقع في مثل هذا الخطأ (جول سيمون) وزير معارف فرنسا السابق على سعة علمه حيث قال في خطاب ألقاه على مجمع المعارف سنة ١٨٦٨: (إن من يمكنه أن يزيد سكان) فرنسا مليونًا من النفوس يفيدها أكثر مّمن يزيد حدودها بعض فراسخ من الأرض بواسطة الحرب والدم بألف ضعف، وهذا كلام يخلو من الصواب؛ لأن من يزيد مساحة فرنسا يكثر مواردها فيجعل الزيادة في السكان محتمة. ومن شك في هذه الحقيقة أحلناه على قول أستاذ لا يشق له غبار في هذا المضمار وهو (يبليج) الشهير قال: (قد اقتضت الحال زيادة السكان في بلدان أوربا زيادة كثيرة غير طبيعية حتى اختلت النسبة بين عديدهم وبين غلاّت تلك البلاد، فلا يمضي غير حقبة من الزمن حتى تعجز الأرض عما يفي بحاجاتهم مهما أنهكوا قواها يختلف الأسمدة، وعندها لا يحتاج إلى نظريات علمية أو قياسات فنية لإيضَاح الناموس الطبيعي الذي يأمر الإنسان بأن لا يغفل عن المحافظة على أبواب رزقه ويعاقبه العقاب الأليم عند مخالفة ذلك. ولا يكون ثمة للأمم الأوربية من حيلة ولا مخلص إلا أن تتفانى لتبقى فترى إذن أمثال مجاعات سنة ١٣١٦ وسنة ١٣١٧ وحروب بعد ذلك تليها حتى يحمل الأمهات جيف القتلى لإطعام أطفالهم كما وقع ذلك في (حروب الثلاثين سنة) المعروفة، فكل ذي دُرية ورويّة دَقَّقَ النظر في أمر ممالك أوربا ومستقبلها يجدها غير قائمة على أسس متينة بل على أسنة الإبر) . اهـ هذا، وربما ذهب بعض العرافين إلى أن طبيعة أرض الشرق مفسدة للهمم، مقعدة للأمم، في تكون إذن هذه الأرضون من النعم بل من النقم، وهذا رأي تفنده الأقيسة الصحيحة، والآراء النافذة، قال (فوليتر) في دحضه ما نصه: (نسأل من يذهب إلى أن طبيعة الأجواء يتوقف عليها حالة الأمة وأخلاقها لما قال الإمبراطور (جوليان) : إن الذي أعجبه من أهل باريس هو متانة أخلاقهم وأخذهم بالجد والصلابة والسكون في طباعهم. وها هي أجواء باريس كما هي وأهلها فيها الآن أخف أحلامًا وطباعًا من فراشة. أطفال في زيّ رجال، وصغار وإن كانوا كبارًا، وهؤلاء المصريون الذين يصفهم لنا المؤرخون بقوة العزائم ومتانة الطباع وعظم الفتوح أصبحوا الآن أمة رخوة ضعيفة العزائم، طعمة لكل آكل، ولِمَ لا يوجد الآن في أثينا مثل (أناقريون) و (أرستطاليس) و (زوقسيس) ، ولِمَ استعاضت روما عن (شيشيرون) وعن (قاطون) وعن (تتليف) قومًا بها لا يحسنون أن يقولوا ولا أن يعملوا. أعظم أمانيهم ينحصر في أن يكون الزيت رخيص الثمن لديهم. وقد كان من عادة (شيشيرون) الخطيب الروماني أن يهزأ بالإنكليز ويتنادر عليهم حتى إنه كتب مرة في رسالة لأخيه (أقانتوس) الذي كان ضابطًا مع قيصر في غزوته التي غزاها بإنكلترا يسأله مستهزءًا إن كان وجد ثمة فلاسفة كبارًا أو رياضيين عظامًا. فهلا علم (شيشيرون) أنه نشأ بعده فيها أعظم فلاسفة العالم ورياضيه تحت تلك السماء المظلمة بعينها. هذه كلها أمثلة تدل أن ليس للإقليم أثر يذكر في ارتفاع الأمم وانخفاضها، بل العوامل الأخرى مثل الحكومة أو الدين تفعل في ذلك أكثر منها بمائة ضعف. كأن الله سبحانه وسعدانه، أراد أن لا تنزع هذه البلاد الجميلة من أيدي المسلمين إذا أعجزهم الضعف يومًا ما عن صونها حتى يئوبوا إلى القدرة على حفظها فجعلها شبه وقف عليهم، وذلك أن جعل وسطها الطبيعي غير صالح؛ لأن تعيش فيه الأمم المتغلبة الآن وهي الأمم الأوربية، ولبيان هذا نقول: قد تقرر في الطبيعيات أن الحيوان أو النبات أو الإنسان إذا نشأ في وسط طبيعي لا يعيش في وسط آخر غير مماثل له، وأقيم على ذلك هناك البرهان. وعندهم أنه كما لا يمكن للسمك أن يعيش في البيداء، ولا للناقة أن تدوم في الماء، ولا للنخلة أن تنبت بين صخور الجليد، لا يمكن للإنكليزي أن يستوطن الهند، ولا لابن للألمان، أن ينبت في السودان، قال (لوبون) في كتاب الفسيولوجي: (ذكر بعض المؤلفين أن الإنسان يمتاز عن الحيوان بكونه يعيش في كل جوّ وعلى كل أرض. وهذا خطأ عظيم، ووهم كبير، فقد أثبت التاريخ مرارًا أن أهل الشمال لا يمكنهم العيش في أرض الجنوب. انظر إلى البربر من أهل الشمال وبلاد الجليد الذين فتحوا أرض الرومان وسكنوا أقاليمها الحارة كيف لم يمضِ قرن واحد حتى أفناهم الموت وأتى عليهم الفناء فلم يبق من الغوطيين واحد في إيطاليا، وهذه مصر حكمتها عشرون أمة فأكلتهم وبقي الفلاح المصري كما هو على أرضه. وكذلك عجز الرومان عن أن يستوطنوا أفريقية مع أنهم استوطنوا أسبانيا وأرض الجول حتى جعلوهما بلادًا لاتينية بحتة. ولا ريب أننا سنلاقي في الجزائر ما لاقاه فيها الرومان في سابق الزمان، فتهلك هذه الأرض ذراري فاتحيها ما لم يفعلوا كما يفعل الإنكليز في الهند من إرسال أبنائهم ليتربوا في أوربا. وبالجملة: إن الإنسان إذا اختلف وسطه الطبيعي هلك وخصوصًا إذا جاء من الشمال إلى الجنوب) . اهـ جميع ما تقدم متعلق بالمكان أي مواطن الإسلام وبلاده. أما السكان وهم الأمم المسلمة فحدث ولله الحمد عن حصى البطحاء، ورمال الدهناء، أو نجوم السماء، كثرة آحاد، ووفرة أعداد، فَمِن هؤلاء في أفريقية ما ترى: ٩٠٠٠٠٠٠ في مُراكش ٤٥٠٠٠٠٠ في الجزائر ١٥٠٠٠٠٠ في تونس ١٤٠٠٠٠٠ في طرابلس ١٠٠٠٠٠٠٠ في مصر ٦٠٠٠٠٠٠ في السودان المصري ٤٠٠٠٠٠٠ في الصحراء الكبرى ١٣٠٠٠٠٠٠ في السودان الذي تحت حماية فرنسا ٩٠٠٠٠٠٠ في السودان الذي تحت حماية إنكلترا وفي النيجر ٥٠٠٠٠٠٠ في السودان الأوسط كواداي وباجرمي ونحوهما ١٥٠٠٠٠٠ في الكونغو ٤٠٠٠٠٠٠ في توبو وقامرون ٣٠٠٠٠٠٠ في الأوغندة ٣٥٠٠٠٠٠ في الأريطرا والحبشة ٣٠٠٠٠٠٠٠ في موزمبيق ومدغشقر والكاب والزنجبار وأوبوك وأفريقيا الوسطى ١٠٥٤٠٠٠٠٠ مجموع ما في أفريقيا وفي أوربا ما ترى: ٢٥٠٠٠٠٠ في تركية أوربا ٧٠٠٠٠٠ في البوسنة والهرسك ١٠٠٠٠٠٠ في البلغار والرومللي الشرقي ٦٠٠٠٠ في رومانيا