للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمود سامي


عجائب أمريكا
لحضرة الفاضل صاحب الإمضاء

حقًّا، إن بلاد الأمريكان جديرة بأن تسمى بلاد الغرائب والعجائب، إذ هي
ميدان الصناعة والأعمال، ومهد التفنن والاختراع، قد امتاز أهلها بعدم الوقوف عند
أوساط الأمور في أعمالهم وصنائعهم، بل يميلون في كل أشغالهم إلى التناهي إما في
الضخامة والعظم، وإما في الدقة والصغر، حتى إن الإنسان ليجد عندهم ما بلغ حد
الضخامة المتناهية، وحد الصغر المدهش الغريب.
فالقادم على هذه الديار الآهلة العامرة بالسكان المجدين في العلوم والصنائع يجد
القناطر الهائلة المريعة، والعمارات المرتفعة المنيعة , مع الضخامة والاتساع الفائق،
مما يدل على مهارة القوم ودرجة تقدمهم، ومقدار ثروتهم ونعيمهم، فقد بلغ عدد
طبقات بعض دورهم زيادة عن العشرين عدًّا، وذلك مثل عمارة (سان بول بلدنج)
الشهيرة في نيويورك بحسن نظامها وإتقان بنيانها واتساع أرجائها.
ومع هذا فإن الأمريكانيين الذين هم أصحاب هذه الأعمال الهائلة هم أيضًا
أصحاب الأعمال الدقيقة العجيبة، ومخترعي الآلات الصغيرة الغريبة التي تنبئ عن
اقتدارهم وقوتهم الفائقة.
فقد عمل المسيو (ج. هـ. شريفر) الصائغ بمدينة (دنفر) من أعمال
كلورادو الأمريكية آلة بخارية (وابورًا) يجر قطارًا مركبًا من ٨ عربات تقل ثمانية
عشر مسافرًا ذات ثقل خفيف، بحيث يتيسر لكل إنسان رفعها بيده. وقد جعل قطر
أسطوانة الوابور المحركة له ثلاثة سنتمترات ونصف، وقطر عجلاته عشرين
سنتمترًا، وطوله مترين وعشرين سنتمترًا، وجعل عرض عرباته الثمانية ٣٦
سنتمترًا، وطول كل واحدة من ستة منها مترًا واحدًا، ولا تُقِل غير رجلين فقط
وأما العربتان الباقيتان، فطول كل واحدة منهما متر وعشرون سنتمترًا، ولا تسع
غير ثلاثة ركاب.
وطول القضبان الحديدية التي يسير عليها القطار لا تزيد عن ١٣٥ مترًا،
والمسافة الفاصلة بينهما عشرون سنتمترًا.
ولم يحتج المعلم شريفر صاحب هذا القطار لمساعد في تسييره، بل باشر كل
ما يلزم له بنفسه، فكان يؤدي وظيفة ناظر وسائق ومساح، وبالجملة كل ما
يستلزمه حسن سير وانتظام القطارات العادية.
وقد عاد عليه هذا الاختراع بالفوائد الجمة والأرباح الطائلة، إذ قلما يجد
الإنسان قطاره خاليًا من المسافرين، وإن شئت فقل من المتفرجين.
وأغرب من ذلك ما أتاه المعلمان (يانج وماك شي) في مدينة (أطلانطق
ستي) التابعة لولاية نيوجرسي الأمريكية، فإنهما صنعا قطارًا يمكن الإنسان وضع
وابوره في جيبه، كل عربة من عرباته تُقِل ولدين يدفع كل واحد منهما خمسة
صلديات (مليم تقريبًا) أجرة المسافة بين كل محطتين، ويقال: إن هذا القطار
أصغر قطار وجد إلى يومنا هذا.
وكذلك عمل الخواجات (و. س. بانيول) قطارًا لطيفًا أعدوه للتنزه في
أملاكهم الواسعة، وجعلوه على منوال القطار السريع السير (اكسبرس) الذي
يخترق طريق جريت نورثرن الأمريكية الشهيرة إيابًا وذهابًا بين المحيط
الأطلانطيقي والأقيانوس الأعظم، وقُطر أسطواناته المُحركة له نحو عشرة
سنتمترات، وأما عجلاته فمحيطها أربعة وسبعون سنتمترًا، وزنة الوابور بلغت
٢٥٠٠ كيلو جرام، ويسير خمسة وعشرين ميلاً في الساعة الواحدة.
ومما يوقف نظر الغريب عن هذه البلاد ويوجب التأمل والاستغراب ما يشاهده
من الضخامة البالغة حد التناهي المفرط مثل الأدوار التي ذكرناها في ابتداء كلامنا،
ومثل النظارة الفلكية (تلسكوب) العجيبة التي صنعها المسيو (سارلس بركيس)
في مدينة سنتياغو؛ إذ جعل مقاس زجاجتها ١٩٤٥ مترًا.
ومما لا يُصدَّق لغرابته لولا إجماع الجرائد على ذكره وإخبار بعض المشاهدين
له ما عمله المسيو يردنج، إذ تيسر له بعد ٦ سنوات أن يوجد مركبًا بخاريًّا لا يزيد
طوله عن خمسة وسبعين سنتمترًا.
فتأمل ما وصل إليه القوم من البراعة الفائقة والتقدم العظيم، ولتعلم أن لا
شيء يصعب على المُجِد المجتهد مع الإرادة الصادقة والعزيمة الثابتة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود سامي
... ... ... ... ... ... ... ... بمدرسة الحقوق الخديوية