للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حركة الأمة الهندية الشرقية
والحكومة الهولندية

أردت بالأمة الهندية الشرقية سكان جزائر الهند الشرقية (جاوة. سومطرة.
بورنيو. سليبس، وغيرها من الجزائر المجاورة لها) .
سكان تلك الجزائر أجناس متعددة، وشعوب مختلفة متفرقة، أعظمها
وأشهرها جاوية فملاوية ثم باتاكية ثم مكاسرية ثم بوقيسية ثم سداوية. فكلها من
أصل واحد، وهو الملايو.
هذه الأمم متأخرة عن بقية الأمم مدنية وحضارة ولم تزل إلى السنوات الأخيرة
في انحطاطها ورقدتها.
وقد كانت نهضة اليابان أيقظتها بعض اليقظة؛ إذ قام رجالها وشبانها
المستنيرون بالدعوة إلى الاقتداء باليابان والأمم الغربية، وبعبارة أخرى قاموا
بالدعوة إلى المدنية والحضارة، وإلى إقامة المدارس، ونشر العلوم والمعارف في
جميع البلاد الجاوية الملاوية. فكتب كتابهم في جرائدهم ومجلاتهم شيئًا كثيرًا من
هذا القبيل، وطلبوا من الحكومة زيادة المدارس، وكان القارئ لا يقرأ في الجرائد
الملاوية والجاوية إلا كلمات التقدم والتعليم والمدنية والحضارة.. إلخ.
وبعد أن كثرت الأصوات والصيحات ولم يفتر كتابها عن الطلب والإلحاح
على الحكومة، اضطرت الحكومة إلى قبول مطالبهم رغبة في تقدمهم وارتقائهم
(أي بعد ظهور هذه الحركة خوف أن ... وما كانت راغبة في ... ) وبذلك أصبح
عدد المدارس الهندية الشرقية الهولندية زهاء ستة آلاف مدرسة ما بين الابتدائي
والثانوي والعالي، وما بين مدارس الحكومة ومدارس الأهالي، أما الآن فلا أبالغ
إذا قلت: إن عددها ثمانية آلاف مدرسة.
قام الصينيون بعد قيام اليابان وقلبوا حكومتهم الاستبدادية إلى الجمهورية
الدستورية، وأرسلوا شبانهم إلى بلاد اليابان والبلاد الغربية؛ لتلقي العلوم والفنون
العصرية، فكان نهوضهم هذا سببًا لقيام الأمة الهندية الشرقية بالسعي والاجتهاد،
وبترك الخمول والرقاد، فظهرت حركاتها الوطنية الحية ونهضتها الحديثة في كل
البلاد، أكثر مما كانت عليها حين بدو النهضة اليابانية، وتأسست بعد الانقلاب
الصيني عدة من الجمعيات والشركات التي تقوم بالأعمال التي تعود منافعها
ومصالحها على الأمة والوطن.
أما أنواع تلك الشركات والجمعيات فأشهرها ما ترى:
(١) شركة الإسلام، هذه الشركة أسست منذ سنة، وقد بلغ عدد أعضائها
والمشتركين فيها الآن زهاء ٩٠٠.٠٠٠.
وغرضها الوحيد الوصول إلى الدرجة الراقية وإعلاء شأن الوطن والوطنيين
معًا، وقد فتحت الشركة متاجر عديدة، كما أنها أقامت مدارس كثيرة.
ومن قانونها أن لا يجوز لأعضائها والمشتركين فيها أن يشتروا شيئًا من
البضائع الأجنبية ما دام ذلك الشيء موجودًا عند تجارها أو غيرهم من أصحاب
التجارة الوطنية، وفوق ذلك تلح دائمًا على الوطنيين أن يفضلوا التجارة الوطنية
على التجارة الأجنبية، وقد ظفرت بذلك بعض الظفر.
(٢) حزب النابتة (الشبيبة) أو الحزب الوطني، هذا الحزب تأسس
حديثًا وغرضه إنقاذ الوطن والوطنيين من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن
هاوية الانحطاط إلى ميدان الحضارة والارتقاء.
ومن وظيفته النظر في شئونهم وأمورهم الاجتماعية والاقتصادية وفي
المصالح العمومية، وبالجملة إنه يقوم دائمًا بالواجب الوطني.
(٣) جمعية المحبة وغرضها الاتحاد والتضامن، والاتفاق والتعاون،
وعلى الأخص مساعدة أبناء الفقراء واليتامى في تعليمهم وتهذيبهم.
(٤) الشركات التجارية الوطنية، وهي الآن كثيرة الشيوع.
وما عدا ذلك فإنه توجد نهضتان عظيمتان ربما تعجبان من لم يعلم حركة تلك
الأمة من قبل:
أولاهما: أنه قد تأسست هناك مدرسة الجامعة الجاوية، وغرضها ترقية
العلوم والمعارف، وهي تضاهي الجامعة المصرية في الغاية والمقاصد، ومركزها
في بناوي، وقد انتهت من إعداد المعدات اللازمة لها، وللتدريس، وستبتدئ
الدراسة فيها في أوائل سنة ١٩١٤.
ولا يمكن أن يلتحق بهذه الجامعة لتلقي العلوم إلا من تخرج في إحدى
المدارس العالية، وكان يحمل الشهادة النهائية، ومؤسسو هذه الجامعة هم من
أعضاء وكبار حزب النابتة.
أما الثانية: فهي حركة أعظم من الكل، بل هي حادثة معجبة فإن حصولها ما
كان ينتظر في هذه الأيام، وقد علم الكاتب علم اليقين أن مثل هذه الحادثة لا بد أن
تحصل بيد أن حصولها ليس في هذه الأيام.
وتفصيل ذلك أنه في شهر أغسطس الجاري أقامت الحكومة الهولاندية
والشعب الهولاندي في البلاد الجاوية والملاوية احتفالاً بعيد الاستقلال الهولندي
والحرية الهولندية، كما احتفلت الحكومة والأمة الهولندية في بلادها.
وقبل يوم الاحتفال بأيام اجتمع الشبان الجاويون في مجتمعهم للنظر في أمر
هذا الاحتفال، وكان زعماؤهم أربعة هم الدكتور جيفتو ماغون كسوما المحرر
بجريدة دي إكسبرس الهولندية، وعبد المويس رئيس تحرير جريدة (هنديا شريكت)
الملاوية، وسواردي سوريا نيغرت، وويجنادي سنسترا المحررين (قوم مودا)
الملاوية فهؤلاء كلهم من الوطنيين المسلمين المخلصين، ومن عقلاء حزب النابتة.
وكان من رأيهم - بل رأي الأكثرين - أن لا يجوز للأهالي ألبتة أن يشتركوا
مع الحكومة في الاحتفال، ويفرحوا بذلك الاستقلال، بدعوى أن الحكومة إذا
احتفلت بعيد الاستقلال الهولندي ودعت الأهالي إلى أن يشتركوا فيه ويفرحوا
بسرورها فليس ذلك إلا إهانة واحتقارًا للوطنيين أجمعين؛ ذلك لأن الاستقلال هو
الاستقلال الهولندي لا استقلال الأهالي، والأهالي لا يزالون عبيدًا لها، فإذا اشترك
الوطنيون في ذلك الاحتفال كان في الحقيقة احتفالين: احتفالاً بالحرية الهولندية
والاستقلال الهولندي، واحتفالا بعبودية الوطنيين والأهالي، إن ذلك لعيب كبير
وعار عظيم.
وبعد أن اتفقت آراء المؤتمرين كل الاتفاق كتب زعماؤهم الأربعة صور
المنشورات فطبعوها ثم وزعوها بين الأهالي خواصّهم وعوامهم، وكان من ضمن
تلك المنشورات:
(١) نهي الأهالي أن يشتركوا في الاحتفال ألبتة، وبيَّن المنشور سبب ذلك
بيانًا وافيًا.
(٢) الدعوة إلى الاتحاد، والاتفاق معهم في المطالب التي أرادوا تقديمها إلى
جلالة ملكة هولانده، وإلى الحكومة الهولاندية، وتلك المطالب مبيَّنة في تلك
المنشورات.
(٣) الرجاء ممن يرغب في هذا المشروع أن يرسل إليهم بطاقة أو خطابًا؛
اعترافًا برضائه واستحسانه ذلك المشروع ويجب عليه أن يوقع إمضاءه عليه.
أما مشروعهم فهو:
اتفقوا على أن يرسلوا ويقدموا إلى ملكة هولانده تهنئة بالتلغراف يهنئونها بعيد
الاستقلال الهولندي بدلاً عن الاشتراك مع الحكومة في الاحتفال، وفي الوقت نفسه
يفدون إلى الحاكم العام للهند الشرقية الهولندية يهنئونه بذلك العيد من جهة ويقدمون
له مذكرة مطالبهم من جهة أخرى.
وأما مطالبهم فكثيرة، أهمها وأعظمها ما يأتي:
الأول: إلغاء المادة الثالثة من قوانين الهند الشرقية الهولندية، أي امتياز
الهولانديين خاصة والأوربيين عامة في الحكم والقضاء.
الثاني: إعطاء الوطنيين حقوقهم في مجلس شورى القوانين الهندية الشرقية
الهولندية Kamer Tweede الذي مركزه في عاصمة هولانده، أي أن يكون
رجال ذلك المجلس من الوطنيين أكثر من الهولانديين، أو يكون نصف الأعضاء
منهم على الأقل.
الثالث: طلب المساواة والحرية التامة؛ سواء كانت في الأمور السياسية أو
الدينية أو التجارية أو غير ذلك.
هذا هو أهم مطالبهم وبعد نشر تلك المنشورات نشر سواردي رئيس تحرير
جريدة قوم مودا (حزب النابتة) منشورات أخرى ذكر فيها بلهجة شديدة أن من
الواجب أن يطلبوا برلمانًا (مجلس نواب) ، ولكن من الأسف أنه قبل أن يتموا
أعمالهم ومشروعهم الجليل وبعد أن نشروا زهاء خمسة آلاف نسخة من تلك
المنشورات أصدرت الحكومة أوامرها بالقبض على هؤلاء الأربعة، فألقي عليه
القبض، وأدخلوا السجن.
وكان الدكتور جيفتو المحرر بجريدة دي إكسبرس الهولندية قبض عليه
البوليس في إدارة الجريدة كما أن عبد المويس المحرر بجريدة (هنديا شريكت)
قبض عليه وهو في إدارة جريدته أيضًا، وأما سواردي المحرر بجريدة قوم مودا
وويجنادي سترا رئيس تحرير تلك الجريدة فقبض عليها في بيتيهما.
والتحقيق جرى بينهم وبين قاضي التحقيق، وربما أترجم إلى العربية بعض
التحقيقات إذا سنحت لي الفرصة.
فيرى القراء الكرام أن ما كتبه هؤلاء الأربعة لم يخرج ولم يتجاوز حقوقهم
ولا حقوق الحكومة، بل ذلك من مصالح الأمة والوطنيين.
أما امتناعهم عن الاشتراك في الاحتفال فما كان إلا دفاعًا عن كرامتهم وكرامة
الأهالي، وأما دعوتهم إلى الاتفاق والاتحاد معهم في تلك المطالب فذلك من حقهم
وواجباتهم فليس للحكومة حق في القبض عليهم، وإلقائهم في السجن بوجه من
الوجوه.
وبمناسبة هذه المقالة أدعو إخواني الجاويين والملاويين إلى تأييد تلك المطالب
وضم أصواتنا إلى أصواتهم، فكلنا نريد الحرية ولا نريد العبودية.
كفانا أيها الإخوان الكرام نومنا السابق، وذلنا الفائت، فلا يجوز لنا أن نديم
رقدتنا وذلنا؛ فإننا الآن في عصر الحضارة والتقدم لا في عصر الانحطاط والذل.
يجب علينا جميعا أيها الإخوان الكرام أن نلح على حكومتنا بأن تعترف
بحقوقنا، وأن تقبل مطالبنا من غير تردد ولا عمه.
يجب علينا أن نعلم أن بلادنا ليست ملكا لهولنده؛ فإن دخولها فيها كان
بمعاهدات تجارية ثم بمعاهدات ودية عقدتها مع أمرائنا، أما معاهدتا سنة ١٨١٤
وسنة ١٨٢٤ اللتان ضمتاها إلى أملاكها فليستا باعترافنا.
ولسلامة الحكومة الهولندية وسلامة الوطن والوطنيين ولبقائها محبوبة من
الأهالي يجب عليها أن تقبل مطالبنا وتراعي مصالحنا، وفوق ذلك يجب عليها أن
تعترف بأننا أصدقاء وإخوان لها لا عبيد لها.
فإذا اعترفت الحكومة بذلك فلا ريب أنها تبقى في تلك الأصقاع الآمنة مطمئنة،
فإن الأهالي حينئذ يحبونها ويساعدونها لا يريدون الفراق والانفصال عنها أبدًا.
وبمناسبة هذه الحركة المجيدة أقول لكم أيها الإخوان الكرام كلمة في أمر التعلم
وهي: أنه قد اعتاد آباؤنا الكرام وإخواننا الأعزاء أن يقتصروا على إرسال أبنائهم
وشبانهم إلى مكة المشرفة ومصر المحروسة وإلى البلاد الهولندية وحدهن، وأرى
أن ذلك من الخطأ العظيم، والتقصير المبين، ولست في حاجة إلى الحجج
والبراهين لإثبات قولي وتأييده أكثر مما نرى ونشاهد، وهو تقدم اليابان والصينيين،
أليست سرعة تقدمهم ورقيهم بفضل إرسال أبنائهم وشبانهم النجباء إلى بلاد
وعواصم أوربا وأمريكا؟ فإذا علمنا ذلك فلماذا نقتصر على تلك البلاد فقط؟
إذًا يجب علينا أن نبذل غاية جهدنا في احتذاء مثال هاتين الأمتين لنكون في
صف الأمم الراقية في أقرب وقت، هدانا الله لصالح الأعمال ونجانا من هاوية
الجهل والانحطاط والسلام.
... ... أغسطس ... ... ... ... ... ... د. ي
(المنار)
يظهر أن الكاتب لا يزال يغلو في سوء الظن بهولنده المستولية على
وطنه، ولكن بلغنا من الثقات في تلك البلاد أن الحكومة الهولندية كانت مؤيدة لهذه
الحركة الجديدة، إن لم تكن هي المحرك الأول لها، ومن الثابت أنها صارت
تتساهل مع الأهالي في أمر التعليم الديني واللغة العربية، وكانت تتشدد في ذلك كل
التشديد، وسبب ذلك أن وزارة الحزب الديني قد سقطت من عاصمة هولنده وخلفتها
وزارة حزب الأحرار، فيجب على مسلمي تلك البلاد الحزم واغتنام الفرصة؛ وأن
يشكروا لوزارة الأحرار تساهلها ولا ينفروها بالغلو لعل ذلك يكون مدعاة المزيد،
وأن يثنوا عليها بقدر ما كانوا يقدحون في الوزارة السابقة وزارة التعصب الديني
الفاضح وسلب الحرية الدينية وغيرها؛ لا ردَّها الله تعالى.