للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محيي الدين رضا


فقيد العرب والإسلام
المرحوم السيد محمد رشيد رضا
كلمة سريعة [١] بقلم ابن أخيه الحزين
(١)

سألَنا كثير من الأصدقاء والمحبين من مريدي فقيدنا الكبير أسئلة شتى،
فرأيت أن أكتب ما يلي ردًّا على ما حضرني من تلك الأسئلة حتى يطلع عليه
الجميع، ولا يزال القلب كسيرًا والحزن عامًّا، فمعذرة من القراء الكرام إذا وجدوا
شيئًا غير ممحص، والله يتولانا برحمته ويحسن عافيتنا جميعًا، إنه خير مسئول
وأكرم مجيب.
كيف بُلِّغت الخبر؟
قرع باب مسكني في نحو الساعة الثالثة والنصف بعد ظهر يوم الخميس ٢٢
أغسطس الماضي، وكنت ممددًا في سريري بعد ما تغديت ففتحته القرينة،
وسرعان ما دخلت علي تقول: (قم حالاً وكلِّم عبده) فظننت أنها تقصد ابن
عمي السيد عبد الغني رضا، فقلت: (ولماذا لم تدعيه للدخول عليَّ؟) . فقالت:
(قم فكلمه) . فنهضت مسرعًا إلى الباب فوجدت عبده بواب دار المنار، فأخذتني
رعشة الوجل؛ لأنه حضر في ساعة غير مألوف حضوره فيها، وقد سبق أن
حضر في مثلها يوم أخبرني بوفاة جدتي. فقلت: (ماذا تريد يا عبده؟) . قال:
(السيد عبد الغني عاوزك) ورأيت دموعه تترقرق في مقلتيه، وصوته يتهدج،
فقلت له: (قل، أسرع، ما الذي حصل؟) . فقال: (مات السيد!) .
وهنا انهمرت دموعه، وأصبت أنا بذهول، فدخلت غرفة النوم لألبس،
فقالت القرينة: (ماذا حدث؟) . قلت: (مات عمي) . وصرت لا أعرف ماذا
أصنع، فأردت التوضؤ، فصرت أبحث عن القبقاب وهو أمامي فلا أجده، وبعد ما
توضأت صرت أنتقل في المنزل مفتشًا فيه عن الذي ألبس وأين أجد البذلة والحذاء
وما إليهما، ولقد لقيت في ذلك عناء كبيرًا.
وفي أثناء ذلك كانت القرينة قد فهمت من عبده أن الوفاة حدثت وهو عائد من
السويس، وأنه لا يزال في مصر الجديدة. سرت في الشارع وأنا أحس أني على
وشك السقوط أتهادى يمينًا وشمالاً.
في دار المنار
صعدت إلى الدور العلوي في المنزل فقابلت قرينة عمي وقلت لها: (نحن
إخوتك وأولادك فصبِّري نفسك) . وأرسلت على إثر ذلك تلغرافات للسيد محمد
شفيع نجل الفقيد - وكان لا يزال في سورية - بوجوب حضوره حالاً، وأخبرته
الخبر، وأرسلت تلغرافًا لصهري محمد أفندي السيد بالإسماعيلية ليحضر للمساعدة
في الأمر، وأرسلت رسولاً إلى الأستاذ عبد السميع أفندي البطل فسرعان ما حضر،
وحضر صهري في الليل ومعه الصديق مصطفى أفندي إبراهيم أحمد، وانتشر
الخبر بسرعة مدهشة في القطر المصري فحضر بعض الأصدقاء من طنطا وغيرها
وانهالت علينا البرقيات.
وفي الساعة ٧.٣٠ أذاع الراديو النعي في العالم كله، فقوبل الخبر بذهول
ولم يستطع الناس تصديقه بسرعة فشرعوا يستفهمون تلفونيًّا من دار المنار.
في مصر الجديدة
عندما حضرت إلى دار المنار كان ابن عمي السيد عبد الغني لا يزال في
مصر الجديدة متنقلاً ما بين الإسعاف والقسم؛ لإجراء اللازم بنقل جثمان الفقيد،
وحضر فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية إلى دار
المنار فجلس منتظرًا - وأمارات الحزن بادية عليه - وهمَّ بالذهاب إلى مصر
الجديدة ولكننا لما اتصلنا تليفونيًّا بمصر الجديدة فهمنا أن كل الإجراءات تمت ولم
يبق على الحضور إلا القليل من الزمن.
وصول الجثمان
جلسنا نتكلم في وقع المصيبة واستغراب ما حدث إلى أن وقفت أمام دار
المنار سيارة من سيارات نقل الموتى، وحمل الناس نعشًا فيه جثمان ذلك العالم
الكبير الذي طبقت شهرته العالم أجمع، فانهمرت الدموع من العيون، وكان يرافق
النعش جمهور من المحبين وبمقدمتهم فضيلة السيد محمد الغنيمي التفتازاني -
وكانت دموعه قد بللت لحيته وعيونه قد احمرت من شدة البكاء والنحيب - واشتد
البكاء من جميع الحاضرين ولا سيما فضيلة المفتى.
فضل التفتازاني
وللسيد التفتازاتي أفضال كثيرة؛ فهو الذي حمل معظم المصاب على أكتافه،
فقد أسرع إلى دار الإسعاف وإلى القسم وبذل مجهودًا عظيمًا في كل منهما، ولما
وصل إلى دار المنار عمل كل ما في قدرته للحصول على الإذن من ورثة المرحوم
الشيخ محمد عبده بدفن عمي بجواره ففاز، وسرعان ما أحضر التُّرَبية والحانوتية
واتفق معهم على بناء التربة في الليل حسب الشريعة الإسلامية، وفاز أعظم فوز،
وبالجملة فالسيد التفتازاني أسدى لصديقه الراحل أعظم خدمة بعد وفاته ولا يزال
يعمل لخدمة أولاده بصدق وقوة مما يسجل له بمداد الشكر الجزيل، حفظه الله
وأبقاه عونا للملهوف فهو أهل خير وفضل ومعدن معروف [٢] .
الأستاذ الطاهر
وفي أثناء ذلك كانت حديقة الدار قد امتلأت بالكراسي وازدحمت بالزوار،
وحضر الأستاذ محمد علي الطاهر على غير علم بالذي حصل، فظن نفسه أخطأ
المنزل، ولمَّا أخبره بعضهم كاد يصعق وأخذ يقول: (لقد جئت لأزور رب الدار
محدثًا نفسي أنه إذا قدَّم إليَّ الشاي فإنني سأعتذر عن شربه، وأنه على إثر ذلك
سيقوم إلى الثلاجة فيحضر لي فاكهة من التي تعود أن يتعشى منها) .
وبعد ذلك أخذ يحوقل ويتأسف، ثم انصرف إلى التليفون يخبر الذين يرى
أنه يحسن إخبارهم بالفجيعة، فجزاه الله خيرًا.
الميت المجهول! !
ومما يصح التنويه به هنا أن المرحوم كان يركب سيارة مع تركيين - في
عودته من السويس - لا يجيدان العربية، وفي الطريق كان يحمل مصحفًا صغيرًا
يتلو آيات الله طوال الطريق، إلى أن أحس بتعب فطلب من السائق أن يوقف
السيارة فأوقفها، وقاء بعدما وضع المصحف في جيبه، واستسمح اللذين معه
بالاضطجاع قليلاً؛ لأنه متعب فاضطجع، ولمَّا وصلت السيارة إلى مصر الجديدة
حاولا إيقاظه فوجدا جسمه لا حياة فيه وكانت روحه صعدت إلى الملأ الأعلى
فعاجلا به على الإسعاف، ثم ذهبا إلى دائرة البوليس فكتب البوليس محضرًا بوفاة
(شخص مجهول) في أول الأمر ثم تدارك الخطأ.
ماذا وُجد معه؟
وكتب البوليس محضرًا بالذي كان معه وسلموه إلى حسين رضوان الموظف
في مطبعة المنار، وقد حضر وسلمني ما أمضى على تسلمه وهو محفظة فيها جنيه
واحد ونظارتان ونظارة كبيرة مقرِّبة وعمامته ومصحف وفك أسنانه، ولم تصل يد
البوليس إلى كيس نقوده ولا إلى قلمه ففقدا ولسنا ندري أين كان فقدهما؟
وقع المصيبة على حرمه
ويظهر أنني كنت سريعًا في إخبار حرم عمي بالمصاب - وكنت أظنها علمت
به من ابن عمي قبل وصولي - وكان غرضي أن أصبِّرها، وبعدما كلمتها بما
قدَّمت نزلت لإرسال التلغرافات ولتدبير ما يلزم، فحضر إليَّ الخادم وقال: (إن
الست أغمي عليها) فوقعت في مشكلتين، ولما صعدت وجدتها في حالة حزن
شديد وبكاء وليس ثمة إغماء - والحمد لله - فهدأت نفسها بما حضرني من كلمات -
وكانت عندها الغسالة وقد تركت الغسيل وهي تنتحب، وعلى إثر ذلك
حضرت قرينتي فاشتد البكاء منهما فزجرت قرينتي وقلت لها: (يجب أن تتحملا
المصيبة بصبر عملاً بوصايا الفقيد) وتركتهما ونزلت لعمل ما يلزم.

سمو الأمير سعود
وكان عمي - رحمه الله - قد دعا سمو الأمير سعود إلى دار المنار في مساء
يوم الأربعاء ٢١ أغسطس الماضي لشرب شيء من المثلجات لما لم يتيسر أن يقبل
الأمير دعوة للغداء أو العشاء لارتباطه بمواعيد سابقة. وقد خاطبه في ذلك عند
سفره إلى أوربا ويوم حضر منها - وكان في طريقه إلى فلسطين والشرق العربي -
فوعده بالقبول وترك التدبير لسيادة الشيخ فوزان السابق معتمد المملكة العربية
السعودية في مصر.
ولقد عني - رحمه الله - بإصلاح مكتبه ومدخل داره استعدادًا لاستقبال الأمير،
وألحَّ على أولاده بسرعة الحضور من سورية لاستقبال الأمير؛ ولكن مرض ابنه
المعتصم أخَّر حضورهم، وقد عاد من سورية قريبًا وهو في دور النقه، والحمد لله.
وحب عمي لآل سعود يعرفه كل الذين يترددون على دار المنار، وحبه
للأمير سعود عظيم جدًّا فقد كنت كلما أزوره يحدثني عن مقابلته للأمير وشغفه بأدبه
وخلقه وحيائه وصلاحه وتقواه وجمال وجهه، وإذا سمعته يتحدث عن كل ذلك
أحسست بأن لعابه يسيل متحركًا بالشهد ولا سيما إذا حدثك عن الحفاوة التي لقيها
الأمير في أوربا وأجوبته لملوك أوربا ورؤساء جمهورياتها وكبار رجالها، وكيف
كان يفاخر بالإسلام وما امتاز به من المزايا.
يود الانفراد بالأمير
وكان - رحمه الله - يود الانفراد بالأمير للتحدث معه في بعض الشؤون؛
ولكن الأمير اعتذر بضيق وقته وبأنه يود سرعة العودة لتغيير ثيابه والوضوء
والصلاة، ثم هو يود حضور حفلة وفاء النيل تلبية لدعوة سعادة المحافظ، وعلى
ذلك قال للسيد: (إذا بقيت مصممًا على السفر غدًا فتحضر إلى الذهبية في الساعة
الرابعة صباحًا ونجلس معًا في تلك الساعة الهادئة، وسأرسل إليك سيارة خاصة) .
لم يذق طعامًا
وقد جرت عادة المرحوم أن يستيقظ قبل الفجر للتهجد ثم يصلي الصبح في
أول وقته وينام بعد ذلك قليلاً؛ ولكنه في صباح الخميس انتظر السيارة بعد الصلاة
فحضر الشيخ فوزان السابق فركب معه إلى الذهبية، وخرج ولم يذق طعامًا في
داره.
ولما اختلى بالأمير وأفضى إليه بما رآه لازمًا طلب منه الأمير بأن لا يسافر
معه إلى السويس وطلب مثل ذلك من السيد محمد الغنيمي التفتازاني وألحَّ في طلبه
حتى كاد - رحمه الله - يغضب منه؛ ولكن ذلك كله لم ينفع وركب السيارة إلى
السويس، وفي السويس اختلى مع الأمير مرة ثانية مدة طويلة، وبعد تحرك
الباخرة فضَّل الرجوع حالاً إلى عمله في دار المنار، وفعلاً ركب السيارة عائدًا
فوصل إلى داره محمولاً على النعش - ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

استأذن القرينة
ولا يفوتني أن أقول أنه أستأذن قرينته بالسفر فأذنت له في ذلك، ولو استأذن
طبيبه الدكتور أحمد عيسى بك لما أذن له؛ لأنه يعلم أنه مصاب بتصلب الشرايين
والروماتيزم وضعف القلب وكان قد نهاه عن إجهاد نفسه مدة طويلة؛ ولكنه سمح له
بالعمل بعد ذلك، وأما السفر بالسيارة عن طريق السويس فإنه ما كان يأذن له به
ولكن هكذا شاء الله ولا رادَّ لمشيئته.
كيف قضى ليلته؟
ولما حضر إلى الدار جثة هامدة وأنزلناه من النعش في الدور العلوي، رأيته
كأنه لا يزال حيًّا، ومدَّدناه في غرفة الاستقبال وكنت أظن أنه ربما يستيقظ قريبًا؛
لأن شكله لم يتغير مطلقًا، وفي الليل دعوت حضرتي الدكتورين الفاضلين الدكتور
شهبندر والدكتور حسني أحمد لفحصه، ولمَّا فحصاه نصحا لنا بوضع الثلج حول
جثته خشية الحر ورفع السجاجيد التي تحته وحوله، فصدعنا بالأمر حالاً، ويا
سبحان الله، لقد كتب له أن يحاط بالثلج وهو الذي كان يحب الثلج في الشتاء.

الديون باهظة
ولقد تبين أن الديون التي عليه باهظة وكان الناس يظنون أنه غني جدًّا
وكنت أنا أيضًا أظن فيه ذلك، ومجال الظن متسع فكتبه رائجة، وهذا كتاب
(الوحي المحمدي) طبع ثلاث مرات في عام واحد ولقد نفد من طبعته الأخيرة نحو
ألفي نسخة في زمن وجيز، وهكذا الحال في كتبه وكتب الأستاذ الإمام رحمهما
الله. وإذا راجت الكتب فإن دخلها لا يستهان به؛ ولكن يظهر أن عدم توفقه في
الإدارة وكثرة كرمه أفضى به إلى هذه الحالة، هذا إذا لم نقل غير ذلك. فاللهم
وفقنا لوفاء دَينه، وألهم الذين له عليهم ديون وفاءها سريعًا.
دعاء مستجاب
ولقد أتم - رحمه الله - تفسير سورة يوسف إلى نهاية الآية ١٠١ التي هي
خاتمة القصة، وهي قوله تعالى على لسان سيدنا يوسف - عليه السلام -: {رَبِّ
قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ
وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: ١٠١)
فقال رحمه الله:
(تحول - عليه السلام - عن خطاب والده في بيان هذه العاقبة المثلى في
مقام الشكر لربه وحمده، وبما يناسب المقام من صفاته، إلى مناجاة ربه في
الاعتراف بها والشكر عليها، وسؤاله حسن الخاتمة في الدنيا الرافعة إلى منتهى
السعادة في الآخرة؛ لشعوره بأن ما خلقه له من الخير والنعمة قد تم كما فهمه أبوه،
وكل شيء بلغ حده في هذه الحياة انتهى، فقال:] رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ [
أقصى ما ينبغي لمثلي ويصلح له في غير قومه ووطنه، فجعلتني متصرفًا في ملك
مصر العظيم بالفعل، وإن كان لغيري بالاسم والرسم، فكان تصرفي مرضيًا له
ولقومه، ولم يُثر عليَّ حسد حاسد ولا بغي باغٍ مما ذقت مرارته بمجرد تصور وقوعه
على تقدير صدق الرؤيا الدالة عليه] وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [ما أعبر به عن
مآل الحوادث ومصداق الرؤى الصحيحة فتقع كما قلت] أَنْتَ وَلِيِّي [الذي توليت
ولا تزال تتولى أموري كلها في الدنيا وفي الآخرة لا حول لي في شيء ولا قوة
] تَوَفَّنِي مُسْلِمًا [لك إذ تتوفاني بما تتم لي وصية آبائي وأجدادي، وهي المشار إليها
بقوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ
تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (البقرة: ١٣٢) ] وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [منهم واحشرني
معهم. فهذا الدعاء العظيم، بمعنى قوله تعالى في فاتحة القرآن: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ
المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: ٦ - ٧) ، أي من النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين، فنسأله - تعالى - أن يجعل لنا خير حظ منه
بالموت على الإسلام.
انتهى كلامه - رحمه الله - وأجيبت دعوته، فظل يتلو القرآن إلى آخر نسمة
تنسمها من الحياة.
(المنار)
وهذا آخر ما نشره في الملازم التي طبعت من الجزء الثاني من المجلد
الخامس والثلاثين من مجلة المنار التي نرجو الله أن يوفقنا لإصدارها ثانية ذكرى
لعلمه وآثاره.