المؤتمر المصري إن بركات هذا المؤتمر قد سبقت وجوده فإن القبط لما علموا بالعزم عليه اضطروا إلى سلوك سبيل الأدب في التعبير، وتنكب السبيل التي سار عليها كتابهم في الجرائد، وهي سبيل الغميزة والتعيير، ولكنهم لم يرجعوا عن مقصد من مقاصدهم، وأهمها إنكار كون حكومة مصر إسلامية، وادعاء أنهم أعلى كفاءة من المسلمين، وأنهم أخذوا معظم وظائف الحكومة بحق الكفاءة، ويطلبون ما يطلبون من سائرها بحق الكفاءة. غرهم اتحادهم وتخاذل المسلمين، وطعن بعض أفرادهم وأحزابهم ببعض ولا سيما بالنابغين منهم في الحكومة، فادعوا ما هو بديهي البطلان في مسألة الكفاءة الشخصية، وما يكاد يكون حقًّا ظاهرًا في كفاءة العصبية الملية لولا أن انبرى أولئك الأكفاء الفضلاء إلى تأليف هذا المؤتمر الإسلامي المصري، وكل ما هو مصري فهو إسلامي إذا عرف المسلمون أنفسهم، وتعاونوا على القيام بمصالح قطرهم؛ لأن غيرهم قليل، فيكون بالضرورة مدغمًا فيهم، وليس له وجود مدني خاص بدونهم، ولكن وجودهم المدني وقد اجتمعوا وتعاونوا لا يتوقف على وجود غيرهم. لولا غرور القبط باتحادهم، وتخاذل المسلمين وتفرقهم لما طلبوا الرياسة الإدارية بدعوى الكفاءة. وكيف تعرف كفاءة المرء في أمر ليس له فيه عمل، ولم تسبق له فيه تجربة، ومن ذا الذي يشهد لهم بهذه الكفاءة وشهادة المرء لنفسه باطلة ولم يشهد بها المسلمون ولا المحتلون وهم أبناء دينهم، فإذا كانوا يعتدون بشهادة أولياء الأمور فليتركوا الأمر إليهم، وإلا فليأتوا بشهدائهم إن كانوا صادقين. أما أنا فأقول: إن هذا المؤتمر هو الذي يشهد لهم أو عليهم. ولا أعني بشهادته ما يأتي به خطباؤه من البينات والحجج فقط، وإنما أعني شهادة الحال دون شهادة المقال، فإن لسان المقال قد يكذب وقد يختلب لب السامع بالشعريات المتخيلة، فيبرزها في صور الحقائق المقررة، كما فعل خطباء القبط في مؤتمرهم. وأما لسان الحال فهو الصدوق الذي لا يعرف الكذب، والمحق الذي لا يأتيه الباطل فنجاح المؤتمر المصري بالثبات والنظام والعدل والإنصاف والاتحاد والتعاون هو الذي يشهد للمسلمين على القبط، وشهادته لا تكون بذلك إلا حقًّا؛ لأن تلك الصفات هي روح الحق. أبطأ مسلمو مصر في هذا المؤتمر، كما أبطأ إخوانهم مسلمو الهند في مثله من قبل، سبق وثنيو الهند مسلميها في عقد المؤتمر السنوي والجمعية الملية، والمسلمون هنالك أقل من الوثنيين عددًا، وسبق قبط مصر مسلميها في إنشاء المجلس الملي وفي عقد مؤتمر قبطي، والمسلمون في مصر هم الأكثرون عددًا، فما هو سبب ذلك، ههنا وهنالك. كان المسلمون هم أصحاب العزة والسلطان الغالب في الهند كمصر، فعاش الفريقان الزمن الطويل بعد دخول الأجانب في بلادهم، مغرورين بسابق عزهم وسلطانهم، ولم يشعروا بحاجتهم إلى حياة اجتماعية جديدة في هذا العصر الجديد كما شعر الهندوس هناك والقبط هنا لعدم غرورهما، وإنما استيقظ مسلمو الهند قبل مسلمي مصر؛ لأن الغرور بالحكومة الإسلامية قد زال من نفوسهم من قبل، وإن أبقت لهم إنكلترة بعض النواب الأمراء كالتماثيل الأثرية أو المومياء في متاحف العاديّات، وبقي مسلمو مصر مغرورين متكلين على حكومتهم مشغولين بسلطة الاحتلال المسيطرة عليها، حتى زلزلت القبط هذا الغرور باتحادها وتكافلها، وفغر أفواهها لابتلاع الحكومة كلها، كما أيقظ مسلمي الهند اتحاد الهندوس وتكافلهم وتقدمهم عليهم بعد أن كانوا دونهم، فليس لقلة المسلمين النسبية في الهند ولا لكثرتهم في مصر دخل في هذه المسألة الاجتماعية، وإنما هي فتنة السياسة والغرور بشكل الحكومة، قد أذهلا الأمة عن نفسها، وصرفاها عن استعمال مواهبها، حتى كادت تفقد نفسها ومواهبها. إن الأمم الأوربية التي يجب أن تعتبر بحالها هي التي أصلحت حكوماتها، ولم تكن حكوماتها هي التي أصلحتها، فإذا ارتقت الأمة ترتقي الحكومة بالضرورة، وقد قال السيد الأفغاني الحكيم: العاقل لا يُظلم ولا سيما إذا كان أمة. يجب على زعماء الأمم أن يوجهوها إلى قواها الذاتية، وثروتها الطبيعية، وأن ينموا هذه القوى والثروة، حتى تكون مصدر سعادة الأمة، وأن يحولوا دون افتتان العامة بالسياسة، والاشتغال بأمر الحكومة، فإن ذلك يشغلها عما تحسنه وتقدر عليه بما لا تحسنه ولا قبل لها به، وقد ورد في الحديث الشريف: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) رواه الشيخان في صحيحيهما. يعني أنه ينبغي للإنسان أن يعمل ويشتغل بما يميل إليه استعداده، فإنه هو الذي يرجى أن يتقنه، ومن حكمة الله في اختلاف الاستعداد أن يتقن مجموع البشر جميع الأعمال، فمسألة الحكومة والسياسة فتنة عظيمة في كل الشعوب ولا سيما في دور الانقلاب الاجتماعي والانقلاب السياسي. إن للأمة حقوقًا على العلماء والكتاب والأغنياء الذين يهتمون بالأمور العامة ويتصدون لها. منها خدمة مصلحتها الدينية والأدبية، ومنها خدمة مصلحتها الاجتماعية، ومنها خدمة مصلحتها الاقتصادية، فإذا حصروا عملهم في السياسة أو جعلوه كله باسم السياسة أضاعوا عليها هذه المصالح والمنافع التي لا قوام لها ولا بقاء إلا بها، ولا سيما في مثل هذه البلاد التي ليس لها من أمر سياسة نفسها إلا الكلام بقدر ما تسمح به حرية الحكومة. وإني أعتقد أن الأمة لا ترتقي إذا كان همها كلها موجهًا إلى شيء واحد، وناهيكم إذا كان ذلك الشيء هو السياسة التي لا يشتغل بها في كل الأمم إلا القليلون، ولا يحسنها ممن يشتغل بها إلا الأقلون. أمرنا الكتاب العزيز أن نسير في الأرض ونعتبر بأحوال الأمم، فإذا نحن بلونا أخبار الشعوب الغربية وسبرنا غور ترقيهم، نرى أنهم ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من العزة والثروة إلا باهتمام النابغين منهم بترقية الأمة، والاستعانة على ذلك بالجمعيات والشركات وتوزيع الأعمال بحيث يشتغل بكل نوع منها طائفة لا تشتغل بغيرها حتى تحسنها. إذا اختبرنا حالهم في التربية وخدمة الدين نظن أنه لا هم لهم من الحياة غير دينهم، ذلك بأن لهم جمعيات دينية كثيرة قد تبرعوا لها بالأموال، ووقفوا لها الأوقاف حتى صارت تملك الملايين من الجنيهات، وقد عمت التربية الدينية عندهم ثم فاض طوفانها على جميع شعوب الأرض، فأنشأوا فيها المدارس والملاجئ والمستشفيات، وطفقوا يبثون فيها دينهم وينشرون كتبهم مترجمة بجميع اللغات، وإن الفقراء منهم ليساعدون هذه الجمعيات على قدر حالهم، حتى إن منهم من يحرم نفسه من شرب الشاي أو من سكره أو من اللحم شهرًا أو شهورًا أو سنة، ويجعل ما كان ينفقه في ذلك للجمعيات الدينية، كما يعلم ذلك من كتبهم وجرائدهم. أذكر مثالاً صغيرًا من ذلك وقع في هذه البلاد: كتب قسيس إنكليزي يقيم في شبين الكوم في جريدة دينية؛ أنه يريد أن يطوف القرى في الأرياف للتبشير بالإنجيل، وأنه يحتاج إلى دراجة (بيسكلت) لذلك ولا يملكها. فما لبث أن أمطرت عليه بلاده الدراجات الجيدة، حتى صار بيته مخزنًا لها لا يكاد يسعها، وتبع هذا من الدراهم والهدايا ما لا حاجة بنا إلى عده. وإذا دققنا النظر في أعمالهم المالية نظن أنه لا هم لهم من الدنيا إلا المال والاحتيال على جمعه، وتصريف أمور العالم كله به، وناهيكم بمصنوعاتهم التي يعيش العالم كله بها، ولا تكاد تقع عين أحد منا إلا عليها. وإذا بحثنا في العلوم والفنون كل منها على حدته، فإنه يسبق على أذهاننا عند الوقوف على عنايتهم بكل علم وحده أنهم لم يشتغلوا بغيره، ولا يحفلون إلا ببلوغ الغاية منه، حتى إنهم جعلوا لكل فرع من فروع العلم الواحد جمعيات خاصة لأجل إتقانه. فإذا أردنا الاعتبار بحالهم مع الاستضاءة بنور العقل، فعلينا أن ننظر في حاجات أمتنا ومصالحها العامة، ونختص بكل منها طائفة تشتغل بها دون غيرها؛ لأن إتقان العمل الذي هو سلم الترقي لا يكون إلا بذلك. عندنا جمعيات خيرية وتعليمية ودينية ونقابات مالية وزراعية وشركات تجارية وصناعية، وتألفت عندنا مجالس المديريات لأجل تعميم التعليم، وهذه المصالح كلها لا تزال ضعيفة ونفعها محصورًا في دائرة ضيقة، فهي الآن كالأعضاء المتفرقة يجب اتصالها؛ ليكون عمل كل منها متممًا لعمل الآخر، أو كالشرايين المنفصلة يجب اتصالها بالقلب لتستمد منه وتمده، أو كالأسلاك البرقية التي يصل كل منها بين بلدين أو أكثر من المملكة، ولا تتصل بالمركز العام الذي يصل بعضها ببعض، وما دامت مصالحنا متفرقة على هذا النحو لا نكون أمة متحدة، فيجب أن يكون لجميع مصالح الأمة العامة سمط واحد تنتظم فيه حباتها ويزاد عليها، حتى تكون عقدًا كاملاً، يجب أن تتصل هذه الأعضاء العاملة فتكون جسمًا واحدًا، يعمل كل عضو منها عمله الخاص به؛ لأجل منفعة سائر الأعضاء. فالسمط الذي نحتاج إليه لتكوين عقدنا الاجتماعي، بل الدماغ أو القلب الذي نحتاج إليه ليمد جميع أعضاء الأمة بالحياة هو هذا المؤتمر. ما سرني شيء في مصر كما سرني تأليف هذا المؤتمر، وإنما يتم السرور- إن شاء الله تعالى - بنجاحه ودوامه، وإني أقترح عليه ما يغلب على ظني أن غيري يقترحه، والحق يزيد قيمته ويعلو شرفه بكثرة طلابه، ولكن لا ينقص شرفه بقلتهم، فإن الحق كالجوهر الخالص، شرفه ذاتي له، وإنما يعلو ويغلو بمعرفة الناس لهذا الشرف وتنافسهم فيه أي: بأمر عارض غير ذاتي. كفاني قانون المؤتمر أمر اقتراح سلبي لابد منه، ولا يرجى بقاء المؤتمر ونفعه إلا به، وهو عدم الاشتغال بالسياسة؛ فالسياسة ما دخلت في شيء إلا أفسدته كما قال الأستاذ الإمام، فيجب أن تترك لنفسها ويفوض أمرها على أحزابها، وأن يشتغل المؤتمر بما دونها من مصالح الأمة فيجمع متفرقها، ويكمل ناقصها، ويوحد وجهتها؛ ليكون عمل الكل موجهًا إلى غاية واحدة. للمؤتمر عمل عارض مؤقت وأعمال دائمة مقصودة لذاتها، فالعمل العارض الموقت هو تمحيص مطالب المؤتمر القبطي، وبيان حقه من باطله. يقول الله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: ٤٦) الآية. ولا أحسن من بيان الوقائع وإثبات الحق بالإحصاء الصحيح، وبذلك يثبت المؤتمر أنهم طلبوا من أعمال الحكومة ما لو أعطوه لأضحت الحكومة قبطية خالصة، ويسهل على المؤتمر أن يثبت ما يعترف به بعض القبط من تعصب رؤسائهم لهم في جميع المصالح، وتقديمهم على المسلمين، ومن كان هذا شأنهم فإسناد الوظائف الرئيسية إليهم يخشى أن يفضي إلى ما لا تحمد عقباه من التعصب والغلو في الخلاف، حيث تكون الحكومة كلها في أيديهم. وليس فيما قاله القبط في مؤتمرهم وما يكررونه كثيرًا في جرائدهم أمر ذو بال إلا تصريحهم بأن هذه البلاد ليست إسلامية وحكومتها ليست حكومة إسلامية. إن القبط على احتراسهم في مؤتمرهم وتحاميهم الألفاظ التي تكبر المؤاخذة عليها، صرحوا بأنه لا يقول: إن هذه البلاد إسلامية، للمسلمين فيها ما ليس لغيرهم إلا أفراد لا يجاوزون عدد الأصابع، صرح بذلك خطيبهم توفيق بك دوس المحامي، ولجريدتيهم كلام كثير في ذلك، أوضح مما قاله خطيب مؤتمرهم. وعلى هذا بنوا وجوب تعليم الدين المسيحي في مدارس الحكومة وبطالة يوم الأحد. فيجب على المؤتمر أن يبين ما يترتب على هذه الدعوى، وهو أنه إذا كانت الحكومة الخديوية تعترف من نفسها أنها غير إسلامية أو يكرهها المحتلون على ذلك فإن المسلمين لا يرضون أن تكون محاكمهم الشرعية تابعة لها، ولا أوقافهم ومدارسهم الدينية تحت إدارتها، ولا وضع تركات من يموت منهم عن غير وارث في خزينتها، بل يطلبون حينئذ أن يستقلوا بجميع أمورهم الدينية كالقبط وغيرهم. فأما الحكومة فلا تعترف بهذا، وأما المحتلون فلا يتحملون تبعته. لا أحب أن أطيل في المسألة القبطية أصولها وفروعها، وإنما كتبت ما كتبته من قبل لتنبيه المسلمين إلى ما هم في أشد الحاجة إليه، وهو أن يعرفوا أنفسهم ممن معهم، ويعرفوا ما لهم وما عليهم، وأنا واثق بأنه يسهل على المؤتمر المصري أن يبين للمنصفين من شعوب المدنية وغيرهم أن القبط غابنون لا مغبونون، وأن المسلمين مغلوبون بتساهلهم لا غالبون، وأن الخير للقبط أن يقنعوا بما هم فيه من النعم، وأن لا يطلبوا شيئًا باسم القبط، ولا ينازعوا في صبغة الحكومة الإسلامية، وأن يعودوا عما تجرءوا عليه من تهمة المسلمين بالتعصب الديني عليهم لنصرانيتهم ومن تحريض أوربة عليهم، وعن اللهجة البذيئة التي سنتها لهم جرائدهم. كل هذا مما يسهل على المؤتمر بالبراهين، ولكن القبط لا تذعن له إلا إذا رأت من المسلمين الحزم، ومجاراتها في توثيق الرابطة الملية والتعاون الديني على الترقي. فإذا هم عرفوا حدهم واعترفوا بحق غيرهم، فإني أحب للمسلمين أن يستوصوا بهم خيرًا، ويعطوهم أكثر مما يستحقون، كما كانوا من قبل يفعلون، ولا أحب للمسلمين أن يرجعوا بصفقة المغبون الذي لا هو محمود ولا هو مأجور. *** (أعمال المؤتمر الدائمة) أما أعمال المؤتمر الدائمة فكثيرة، لا يمكن شرحها في هذا المقال، وإنما نشير فيما نقترحه في خاتمته إلى أصولها وقواعدها. وأما فائدته فأكبرها عندي ما أشرت إليه آنفًا؛ من توحيد المصالح والأعمال العامة التي تقوم بها الأمة دون الحكومة ومساعدتها عليها وتوجيهها إلى المقصد الصحيح الذي ترتقي به الأمة في معارج الكمال المادي والمعنوي، ويدور ذلك كله على أربعة أقطاب (١) التربية الملية والتعليم. (٢) إرشاد العوام إلى تحسين معيشتهم في آدابهم وأعمالهم وصحتهم ومعاملتهم لمن يعيش معهم من موافق ومخالف. (٣) حفظ ثروة الأمة وتنميتها بالوسائل الحديثة، والتوقي من الغوائل التي تغتالها. (٤) مواساة العاجزين والبائسين وإعانة المنكوبين والغارمين. سيشرح خطباء المؤتمر هذه المقاصد كلها أو بعضها، ويبينون وجه الحاجة على ما يتكلمون فيه، وما ينبغي أن يقرره المؤتمر ويقوم به، وإنما يقرر المؤتمر المطالب العامة بالإجمال. وأما التفصيل الذي يترتب عليه التنفيذ، فيتوقف على تأليف لجان تختص كل لجنة بعمل من الأعمال، ويكون روح الأعمال كلها تكوين الأمة وتوحيد وجهتها في حياتها الاجتماعية. فإذا بحثنا في مقصد التربية والتعليم، نرى أن تربية أبنائنا وبناتنا مفرقة لأجزاء أمتنا، ممزقة لأعضائها، حائلة دون أن نكون أمة متحدة، لا مكونة للأمة. أي أن التربية والتعليم اللذين نتنافس فيهما، ونبذل النفيس لأجلهما، ونظن أن فيهما عزتنا وارتقاءنا، هما حائلان دون كل ما نطلبه من وحدة الأمة وارتقائها. *** المدارس والتربية والتعليم ما هو المقصد العام من المدارس، ومن يدير هذه المدارس ويحقق لنا ما نقصد منها، وهل الذين تخرجوا في هذه المدارس متحدون في أفكارهم ومقاصدهم، متوجهون إلى توحيد الأمة وجعلها مثلهم. لا بقاء للأمة إلا بالمحافظة على عقائدها وآدابها وشعائرها الدينية وأخلاقها وعاداتها ولغتها، وهي مقوماتها ومشخصاتها التي تكونت بها بالوارثة وفعل القرون كما تتكون المعادن في الأرض، فإذا طرأ على هذه المقومات والمشخصات بفعل الزمن ما يعيبها ويشوهها، ويجعل الاستفادة منها قليلة، كان الواجب على المربين والمعلمين أن يزيلوا تلك العيوب كما يزال الصدأ عن الحديد، لا أن يزيلوا الجوهر نفسه ويضعوا مكانه جوهرًا آخر. قال صلى الله عليه وسلم: (تجدون الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) رواه الشيخان. والأمم معادن كالأفراد، وعمل المربين فيها كعمل الصنّاع في المعادن، وبعملهم تظهر مزاياها ومنافعها، فمهرة الصناع يصقلون الحديد الأسود؛ حتى يكون أبيض لامعًا كالمرآة، حتى تفضله بلونه على الفضة المهملة في المكان الرطب، يتغير لونها ويزول بهاؤها. كذلك الأمم تظهر محاسنها ومنافعها في زمن دون زمن بالتربية والعلم، وجوهرها هو جوهرها، لا يتغير في نفسه إلا بزواله وفنائه أو إدخاله في جوهر آخر، كما يمزج قليل من المائع في غيره، فيغيب عن العين ويزول ذلك الوجود الخاص به. فقد كان كل من الشعبين الإنكليزي والفرنسي جاهلاً لا مزية في عالم المدنية ثم تعلما وارتقيا، وبقي كل منهما ممتازًا بمقوماته ومشخصاته، فمنها في الأول الرصانة والثبات والبطء في التحول عن الشيء ولو قبيحًا، وفي الثاني الذكاء والخفة وسرعة التحول، ولكل من الخلقين المتضادين منافع ومضار، ولكن المنافع هي التي تغلب على طور الحياة والارتقاء، والمضار هي التي تغلب في طور الضعف والانحطاط. غرضنا من هذا المثل أننا محتاجون إلى تربية تزيل الصدأ الذي طرأ على جوهر أمتنا حتى يظهر جوهرها نقيًّا ويسهل الانتفاع به، وإلى تعليم نعرف به طرق استعمال مواهبنا الفطرية وخيرات بلادنا فيما يرقينا ويرفع شأننا، ولكن أمر تربيتنا وتعليمنا ليس في أيدينا، فلا رأي لسراتنا ولا لأهل العلم والبصيرة منا في أكثره. نلقي بناتنا في مدارس الراهبات ومدارس الأمريكان، فهل يتعلمن فيها آداب ديننا وأحكامه، ويتربين على عبادته وأخلاقه؟ ألا إننا نعلم أنهن لا يتعلمنها ولكن يتعلمن ما ينفر منها، ويبعد عنها، فيخرجن لا نصرانيات على آداب النصرانية، ولا مسلمات على الآداب والفضائل الإسلامية، وهل يرجى صلاح بيوت هذا شأن رباتها؟ أم يرجى أن تكون الأمة المكونة من هذه البيوت أمة متحدة مرتقية؟ عندنا مدارس أهلية ابتدائية للبنات، فهل نجد فيها من الفضيلة وآداب الإسلام وعباداته ما نفقده في مدارس الإفرنج؟ لا لا. إن أمثل المدارس مدارس الحكومة ولا غناء فيها، فجميع مدارس البنات في هذا القطر غير صالحة للتربية التي نحن في أشد الحاجة إليها، ولا يرجى أن توجد المدارس الصالحة، ونحن في هذه الفوضى بالمصادفة، ولكننا إذا خرجنا بهذا المؤتمر من هذه الفوضى، فإننا نجد ما نرجو كما نحب؛ لأنه يكون برأي الأمة وتدبيرها. إن جميع المدارس المصرية من إفرنجية وأهلية وأميرية غير صالحة للتربية الملية التي ترتقي بها الأمة بتزكية جوهرها الفطري وحفظ مقوماتها الملية، كل هذه المدارس تجذب المتعلمين والمتعلمات فيها إلى التفرنج، فتفتنهم بلغة غير لغتهم، وآداب غير آدابهم، وعادات غير عاداتهم، كما تخفض مقام ملتهم وقومهم في أنفسهم، وتعلي فيها مقام أقوام آخرين، كلها آلات محللة بل سيوف مقطعة لمقومات الأمة ومشخصاتها، لا همّ للمتخرجين والمتخرجات فيها إلا أن يجدوا مالاً يبذلونه للأجانب ثمنًا لما عندهم من الملذات والزينة، بل يبذلون القناطير منه في القمار والمضاربات، وما لا لذة فيه إلا الهوس والخبل وفنون الجنون. فعلى المؤتمر أن يتدارك هذا الفساد قبل أن يعم، ويتعذر تداركه بفشوه في كل الطبقات والإجماع على استحسانه. تلك إشارة على وجه الحاجة إلى المؤتمر في أحد تلك المقاصد العامة والأقطاب التي تدور عليها مقاصد الأمة، فقس عليه سائرها. وجملة القول أن المرجو من المؤتمر أن يكون سلك النظام للأعمال الحرة التي تقوم بها الأمة من الجمعيات والنقابات والشركات، يوحد وجهتها ويساعد كلاًّ منها بقدر الطاقة. ليس المراد من ذلك أن تكون الجمعيات جمعية واحدة، ولا الشركات شركة واحدة، ولا النقابات كذلك، ولا أن تتغير قوانينها ونظاماتها، ولا أن يكون المؤتمر مسيطرًا عليها، فإن ذلك ينافي توزيع الأعمال، ومباراة العاملين، ولا ترتقي الأمم إلا بهذا التوزيع الذي هو وسيلة الإتقان. وإنما المراد أن هذه المصالح كأعضاء البدن: العينان تبصران، والأذنان تسمعان، واليدان تعملان، والرجلان تسعيان، وكذلك الأعضاء الباطنة كالمعدة والكبد تعمل أعمالها، كل هذه الأعمال الاختيارية وغير الاختيارية تجري على نظام واحد غايته حفظ البدن كله، والقلب يمدها كلها بالدم الذي يعينها على أعمالها، وبالنظام المقدر، والقدر المعين، والنظام قوام الوجود، ومعيار الأعمال، ووسيلة الكمال.