للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


(دعوة اليابان إلى الإسلام)
خواطر وآراء

كان أُشِيعَ منذ سنين أن أولي الأمر في اليابان قد عرفوا بارتقائهم في العلم
والسياسة أن دينهم الوثني باطل، وأنهم يبحثون في غيره من الأديان؛ ليختاروا لهم
منها ما يظهر لهم أنه أهداها سبيلاً وأقومها قيلاً وأقواها دليلاً، وأقربها من صداقة
المدنية وأبعدها عن عداوة العلوم الكونية، وأنهم لاحت لهم بوارق، فراجعت
حكومتهم في ذلك سلطان العثمانيين، لأنه أكبر سلاطين المسلمين، شاع ذلك أيام
أرسل السلطان عبد الحميد تلك السفينة الحربية (أرطغول) إلى بلاد اليابان لتزور
حكومتها وأرسل معها وفدًا دينيًّا ليبين لها حقيقة الإسلام كما قيل، ولكن السفينة
غرقت قبل أن تصل إلى حيث تقصد، ثم سكت الناس عن الكلام في إسلام تلك الأمة
ونسوه، ولم يكن قد ظهر لهم حقيقة أمرها في القوة والمدنية.
ولما ظهر من أمرها في الحرب الأخيرة في هاتين السنتين ما ظهر، وغلب
نور فضلها - وهي دولة الشمس - على نور القمر، عاد المسلمون إلى حديثهم
الأول في إسلامها فتحدث به المصري، والسوري، والهندي، والروسي
والجزائري، والتونسي، والأفغاني، والصيني، من غير مواطأة بين مسلمي هذه
الأقطار، ولا تقليد أحد منهم للآخر في الأفكار، وإنما هو شعور بعثه في نفوس هذه
الشعوب القصية ما يعلمونه من الخطر على بقايا السلطة الإسلامية بما جلب عليهم
حكامهم من الجهل والاستبداد مع وقوف دول أوروبا لهم بالمرصاد، وبما اعتادوا
عليه - أعني المسلمين - من الاتكال على الحكام في الأعمال، والاستعاذة بهم من
خواطر التكافل والاستقلال والنهوض بجلائل الأعمال.
إسلام هذه الأمة العزيزة ذات الدولة القوية قد صار من الأماني التي يتخيلها
كثير من المسلمين المتفكرين الذين يألمون من سلطة المخالف لهم في الدين، فمنهم
من يلهو بتخيلها في خلوته، ويتمثل بما قال ذلك الشاعر في معشوقته:
أماني من سُعدى عذاب كأنما ... سقتنا بها سُعدى على ظمأ بردا
مُنى إن تكن حقًّا تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمنًا رغدا
ومنهم من يتحدث بها في الأندية والسمار، ويشرح ما يكون لها من الفوائد
والآثار، ويقول: إن أسلم (الميكادو) فأنا أول المبايعين، وأضمن له ذلك في جميع
شعوب المسلمين، ومنهم من ارتقى عن الأماني ووهم أحلام المستيقظين، وعن لغو
الحديث وهو فاكهة الكسالى والعاجزين إلى حث من يظن فيهم كمال العلم بحقيقة
الإسلام على تأليف رسالة أو كتاب لدعوة أولئك الأقوام، ومنهم من يقترح أن يجمع
شيء من المال يجهز به دعاة من فضلاء الرجال ليأتوا البيوت من الأبواب وينشر
الدعوة بالقول والكتاب ومنهم من ارتقى إلى الاستعداد للدعوة بالفعل ويقال: إنه قد
انتدب إلى ذلك أفراد من الشيعة في الهند.
رأينا بعض أولئك المتمنين، وتحدثنا مع بعض المقترحين فرأينا أن السياسة
هي ولدت في نفوسهم هذه الرغبة، وقلما تجد فيهم من يود إسلام تلك الأمة لباعث
ديني خالص من شوائب السياسة، وإني ليحزنني أن لا أرى في قومي كثيرًا ممن
بهتم بنشر الإسلام لذاته رغبة في سعادة من يدخل فيه وفوزه برضوان الله تعالى
ويعزيني عن حزني أن أرى الاهتمام بحفظ السلطة الإسلامية عظيمًا في نفوس كثير
من المسلمين، فإن للإسلام ركنين أحدهما للآخرة، وثانيها للدنيا وإن ضعف أحدهما
أهون من ضعفها كليهما وإن كان القوي لا يغني عن الضعيف إلا أن يستند إليه
المصلحون في إقامة الآخر وإرجاعه إلى أصله.
قلت لبعض المتكلمين معي في هذه الأمنية: إن اليابانيين مستعدون لقبول دين
يتفق مع العلم، والمدنية، والقوة، وإنا نحن وإياكم لعلى اعتقاد بأن الإسلام الذي
عليه المسلمون ليس كذلك وإلا لما حرموا من العلم والمدنية والقوة ما اعتز به غيرهم،
وأن الإسلام الذي جاء به القرآن الكريم وبينته السنة السنية، وكان عليه أهل
الصدر الأول هو كذلك، ثم إن ما تطلبونه بدعوة هذه الأمة إلى الإسلام هو الاعتزاز
السياسي بهم والتمتع العاجل بحمايتهم، وإنما يرجى هذا إذا وجهت الدعوة أولاً إلى
ملكهم ورجال حكومته، هؤلاء قوم سياسيون يوشك أن لا يعتدُّوا بقول أمثالنا في بيان
دين له ملوك وأمراء بدون استفتائهم فيه، فإذا نحن كتبنا رسالة الدعوة وبينا فيها
أصول العقائد والأحكام في الإسلام وأهمها عند هؤلاء شكل الحكومة وهو كونها
وسطًا بين الديمقراطية والدسقراطية المتطرفتين، مشروطًا فيها مشاورة أولي الأمر
في الشؤون السياسية واستنباط الأحكام، وهم أهل الحل والعقد وأصحاب المكانة
والرأي. فما يشعركم أنهم يراجعون في ذلك السلطان الذي يرون المسلمين يلقبونه
بخليفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعترفون له بالرياسة الدينية، وإذا هم فعلوا
فماذا تتوقعون من جواب السلطان، ومن مفتي الدولة الأكبر الملقب بشيخ الإسلام؟
قيل: ننتظر أن يكون الجواب تكذيب الرسالة، ولكننا نقول: إن هؤلاء العقلاء لا
يستفتون حكومة شخصية مطلقة في شأن حكومة شورية مقيدة، بل يعتمدون على
الدليل والبرهان، والاستشهاد على ما يدعون إليه بما مضت به السنة ونطق به
القرآن، قلت: المسألة فيها نظر، تجب فيه إجالة الفكر.
وهنا خاطر آخر، إذا قلنا لهؤلاء القوم: إن هذا الدين هو الدين الوحيد الذي
حفظ أصله، وضبط تاريخه؛ فكتابه المنزل نقل بالتواتر الصحيح فهو يقرأ في
مشارق الأرض ومغاربها كما كان يقرأه النبي وأصحابه، ويكتب في بلاد العرب
والعجم كما كتبه حفظة الوحي وكتَّابه، وأن ما فسره وبينه من السنة العملية قد تواتر
كذلك تواترًا حقيقيًّا لم تنقطع سلسلته في يوم من الأيام، وما يؤثر عن النبي
وأصحابه من الأقوال، قد ضبط ضبطًا لم يعهد مثله في جيل من الأجيال، ومع هذا
كله نفرض عليكم ما رضيه جماهيرنا لأنفسهم وهو أن تتبعوا في الدين رأي عالم من
المجتهدين الذين أفتوا وعلموا بعد النبي وأصحابه بعشرات أو مئات السنين، ولا
نبيح لكم أن تأخذوا الدين من كتابه المنزل وسنة نبيه المرسل، وتردوا الشريعة من
ينبوعها الأول، فإن رضيتم بذلك عددناكم من المسلمين، وإلا كنتم في نظرنا من
الضالين المضلين، إذا فصلنا لهم هذا القول أفتراهم يرضون بأن نكون لهم هداة
مرشدين على رضانا بحرمان أنفسنا من الاستقلال بفهم الدين؟ أتراهم يتركون لنا
ونحن دونهم في العلم ما نجحوا به من الاجتهاد والاستقلال، والاعتماد في قبول أي
شيء أو رفضه على قواعد الاستدلال؟ أتراهم يرون من الخير لدولتهم وأمتهم،
ولمسابقة الأوروبيين في ثروتهم وقوتهم، أن يتعبدوا في أعمالهم السياسية والمالية
والمدنية، بأقوال التتارخانية والشرنبلالية والولوالجية، أو أمثالهم من كتب
المالكية والشافعية، كلا إن البداهة لتقضي بأن أمثال هؤلاء المستقلين في كل شيء
لا يقبلون إلا دينًا معقولاً مساعدًا على مسابقتهم للأمم الراقية في كل شيء فيستحيل
أن يقيدوا أنفسهم بفهم رجال غير معصومين وجدوا في زمان كانت سياسته وحروبه
ومدنيته ومعاملاته التجارية وغيرها مباينة لما عليه أهل هذا العصر مباينة تقضي
باختلاف الأحكام، أو أن يدينوا باعتقاد العصمة لأئمة آل البيت عليهم السلام،
ويأخذون ما يرويه عنهم الشيعة بالاستسلام؟
نحن نجزم بأن الإسلام دين الارتقاء الذي يناسب كل عصر فليس في كتابه
العزيز ولا في سنته الثابتة التي لا خلاف فيها بين المسلمين ما يبطئ، بسير أمة
مستقلة ومسابقتها لسائر الأمم ولكن في الأحكام الخلافية التي هي محل الاجتهاد بين
الفقهاء ما لا يوافق مصالح الناس في كل عصر فالتزام أقوال بعض المجتهدين
وأتباعهم في أحكام المعاملات والسياسات والأخذ بكتب أي طائفة من الفقهاء هو
عائق لأمة تلتزمه عن مجاراة أمم لا تلتزم إلا ما ترى فيه في مصلحتها التي تختلف
باختلاف ما يستحدث الناس آنًا بعد آن من ضروب التفنن في الكسب واستعمار الأرض. فمن يدعو اليابانيين إلى الإسلام يجب أن يكون عالمًا بالكتاب والسنة وما في هذا العصر من طرق مدنية الأمم والدول، وأن لا يلتزم الدعوة إلى
مذهب معين وإلا كان من الخائبين، والويل لهذه الدعوة إذا جاءت من قبل
شيوخ الرسوم المقلدين، وأين نجد هؤلاء الدعاة الهداة المهديين؟
ومن المسائل التي يجب إجالة الفكر فيها عند البحث في هذه الدعوة (مسألة
الوطنية) التي يدعو إليها بعض الأحداث المتسممين بغواية أوروبا، أو إغوائها
للمسلمين، ومن مقتضاها على ما يعرف القراء أن المسلم الياباني إذا جاء بلادًا
إسلامية غير بلاده، وأراد الإقامة فيها يجب أن يُعَدَّ دخيلاً، وأن يسعى الوطنيون
في مقاومته وعرقلة أعماله؛ لئلا يربح من بلادهم ما هم أحق به في شريعة
الوطنية، وإن كانت أعماله خدمة لهم حتى في دينهم أو ترقية بلادهم، وإن كان لا
يوجد في البلاد من يغني عنه فيها.
إذا سرى سم هذا الضرب من الوطنية في كل قطر من الأقطار الإسلامية ألا
يكون مانعًا من استفادة بعضهم بما يفضلهم به الآخرون من علم وعمل؟ إذا كان
اليابانيون أنفسهم على هذه الطريقة فهل يهمهم من أمر المصري والسوري والمغربي
ما يحملهم على إفادة إخوانهم في هذه البلاد بما أُوتوه من عزة وقوة وعلم وصناعة؟
ماذا ينتظر أهل مذهب الوطنية الكاذبة من دخول اليابانيين في الإسلام، ومن أصول
مذهبهم أن الرابطة الجامعة بين الناس هي عصبية البقعة لا الدين ولا اللغة!! بل ولا
السياسة فإن أحداث الوطنية في مصر لا يعدون العثماني السوري شريكًا لهم في
وطنيتهم، ولكن الشعور بميل المسلمين في مصر إلى إسلام اليابانيين وباستفادتهم
منه يدلنا على أن الرابطة الإسلامية لا تزال أقوى من الرابطة الوطنية التي يدعو
إليها الأحداث الجاهلون.
ولا ينسين المتمني لو يسلم اليابانيون، والباحث في دعوتهم ليعتز بإسلامهم
في بلاده، وإن بعدت عنهم أنهم إذا قصدوا إلى الدخول في سياسة بلاد غير بلادهم
فإن حكومتها إذا كانت إسلامية تناهضهم باسم الدين وعلماء الرسوم المقلدون يؤيدون
حكوماتهم في أمثال هذه الأمور، بل هم عضد الحكام وأنصارهم في كل شيء فهم
يفتون لهم بكفر اليابانيين لا سيما إذا كانوا لا يلتزمون في إسلامهم إتباع مذهب من
المذاهب الأربعة في الأحكام واتباع الأشاعرة أو الماتريدية في تقرير العقائد، هذا إذا
كانت الحكومة التي تقاومهم تنتسب إلى أهل السنة كالدولة العثمانية أو إتباع مذهب
الشيعة إذا أرادوا الدخول في سياسة الدولة الإيرانية. وبذلك يكون دخولهم في
الإسلام لأجل السياسة فتنة للمسلمين لا يستهان بها، ولا يسهل الحكم بنتيجتها.
وقد يقال: لو لم تستفد البلاد الإسلامية البعيدة عن اليابان من إسلامهم إلا
الاستفادة المعنوية لكفى وأدنى هذه الفائدة أن تخفف أوروبا وطأتها عن المسلمين في
مستعمراتها بل وفي الممالك الإسلامية المستقلة التي يعبث الدول باستقلالها كل يوم
حتى صار مهددًا بالزوال والعياذ بالله تعالى، ولا يبعد أن يلهم الله ملوك المسلمين
رشدهم فيخالفون هذه الدولة العزيزة إذا قضت حكمته بأن لا تنازعها على لقب
(الخلافة) الذي كان بركان كل بلاء وعلة كل شقاء أصاب هؤلاء المسلمين ماضيهم
وحاضرهم. أقول: وإن أمام هذه المخالفات ووراءها من مقاومة أوربا ما لا ينكره
بصير، ولا فائدة لنا في الخوض فيه وإنما نودع هذا المبحث الجديد (تمني إسلام
اليابانيين) من المسائل والخواطر ما يذكر الناسي وينبه الغافل إلى المسائل التي يفيد
تذكرها والفكر فيها.
لتجدن أجدر المسلمين بالاستفادة من إسلام اليابانيين- لو حصل - مسلمي
الصين وأن استفادة الدولة اليابانية منهم لأكبر من استفادتهم منها، ذلك أن مسلمي
الصين لا يقل عددهم عن عدد اليابانيين، وهم أشد أهل الصين بأسًا وأعز نفرًا،
وأبرع في الجندية، وأحسن أثرًا، فيسهل على الدولة اليابانية على قربها منهم، ومعرفة كثير من رجالها بلغتهم أن تستعين بهم على ما تريد مملكة الصين فتسود في
الشرق الأقصى سيادة يمتد شعاعها إلى الشرق الأدنى، فيحييه حياة جديدة تكون مبدأ
لدخول العالم كله في المدنية الفضلى، واستقامته على الطريقة المثلى، بالجمع بين
الدنيا والدين بين مطالب الجسد والروح بين سعادة العاجلة والآخرة، وذلك هو الفوز المبين.
تلك الخواطر التي عارضت الفكر وهو يجول في رياض هذه الأمنية هي من
أهم مسائل الإصلاح التي تذكرنا بمواضع ضعفنا، وناهيك بمسألة فقد العلماء
المستعدين للدعوة الصحيحة إلى الإسلام التي يقدر أصحابها على التأسي بالأنبياء
عليهم السلام في مخاطبتهم الناس على قدر عقولهم، وبما يناسب استعدادهم. إنك
لتدخل بيوت بعض علمائنا فتجد فيها ألواحًا معلقة على الجدر مكتوبًا عليها بخط يلفت
جماله النظر (العلماء ورثة الأنبياء) وألواحًا أخرى مثلها في الجمال والبهاء كتب
عليها (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) [*] علقت لتوهم الزائر أن صاحب الدار
من هؤلاء الورثة، لكن الخبير الذي لا تخدعه الأزياء ولا تغره الرسوم يعلم أن
واحدًا من هؤلاء العلماء الرسميين لا يقدر على إقناع أحد من أهل هذا العصر بدعوة
الإسلام بل يخشى أن يكون حديث الواحد منهم في الدين مع أهل العلوم الاجتماعية
والسياسية حجابًا كثيفًا دونه بل شبهات قوية تصد عنه. وإذا كانوا يعجزون عن
كشف شبهة تعرض لتلميذ يتلقى العلوم العصرية وهو مؤمن بالله ورسوله وكتابه
ولكنه جرى في التعلم بالدليل فأَنَّى يقدرون على تمثيل الدين لفلاسفة العصر وساسته
معقول العقائد سامي الآداب منطبق الأحكام على منافع الأمم في ثروتها ومدنيتها
ومصالح الدول في إدارتها وسياستها ويقنعونهم بأن الإسلام لا يعيد العقل إلى وثاقه
ولا يكبل الفكر بأوهاقه فيقيد العلم بعد إطلاقه ثم يدحضون بالآيات البينات ما
يوردونه عليه من الشبهات؟ أين يوجد هؤلاء العلماء في المسلمين؟ وإذا عطس
الصبح فظهر واحد منهم أيعترف له الرسميون بالعلم والدين؟ وهل الحكام والعوام
إلا تبع لهؤلاء الرسميين الضخام وهم مجموع المسلمين؟ ودين الناس مما يقرره
علماؤهم الرسميون لحكامهم وعامتهم. ناظر مُناظر بعض العلماء الغربيين في كثير
من مسائل الإسلام التي يشتبهون فيها فنهض بالحاجة فقال له مرة إن ما تقوله
صحيح ومعقول ولكنه فلسفة وعقل لا دين وإنما دين الناس ما هم عليه. وقال مرة
أخرى أرأيت إذا سألت علماء الأزهر ما عدا الشيخ محمد عبده عن هذه المسائل
أيجيبونني بمثل هذه الأجوبة؟ قال: لا أدري بماذا يجيبون وحسبك أن تعلم هذا هو
الإسلام من إسنادي إياه إلى القرآن والسنة.
الدعوة إلى الدين لا يقوم بها في هذا العصر كل من قرأ السنوسية والعقائد
النسفية، ولو وقف مع ذلك على المواقف العضدية، وكل ما يقرأ في الأزهر من
الكتب الفقهية. للدعوة معارف أخرى، منها فهم الكتاب العزيز والاطلاع على السنة
ومعرفة ما فيها من حكم التشريع، ومنها معرفة السيرة النبوية وتاريخ الإسلام،
والبصيرة في علم الاجتماع والتاريخ العام، والإلمام بسائر العلوم العصرية،
والاطلاع على ضروب الأساليب المدنية، ومنها غير ذلك مما يتعلق
بالدعاة ومن تراد دعوتهم، وقد فصلنا القول فيها من قبل فليراجعه في المجلد الرابع
من شاء. وقد كان الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - يحاول إعداد فريق من
طلاب العلم في الأزهر للدعوة، ولكن السياسة ما زالت تعارضه في عمله وتغري
بذلك أهل الجمود من الشيوخ حتى جاءه الأجل قبل أن يتحقق له الأمل.
الاستعداد للدعوة يسير على أهل الأزهر إذا سلكوا سبيل الإصلاح التي كان
يريدها الأستاذ الإمام، ولكن أنَّى لهم بمثل الزعيم الذي فقدوا. وإن في فضلاء
المسلمين من غير أهل هذا المكان من هم أقدر على هذا العمل إذا حاولوه وإنما
يحتاجون فيه مع الهمة والعزيمة إلى المال وأغنياء المسلمين لا يزال أكثرهم حليف
الجهل وأسير البخل. وقد يتوهم الكثيرون منهم أن دعاة النصرانية المنتشرين
كالجراد في جميع البلاد تنفق عليهم دولهم من خزائنها والصواب أن جميع نفقات
جمعياتهم ومدارسهم مما يتبرع به أولو الطول منهم وهي نفقات تبلغ الملايين من
الجنيهات. فأين هذا السخاء الذي يؤيد به هؤلاء الناس دينهم من شح قومنا وقبض
أيديهم عن كل ما يؤيد الدين وينفع جمهور المسلمين، وأعجب منهم أننا نفتخر
عليهم بأننا أشد غيرة على ديننا منهم على دينهم، فما أجهلنا بحالنا وحالهم.