للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أصل الشيعة وأصولها

قرظنا في الجزء السابق هذه الرسالة التي ألفها علامة الشيعة ومجتهدها الشيخ
محمد آل كاشف الغطاء الشهير؛ لدعوة أهل السنة إلى مذهبه ونشرها الأستاذ
اللبيب الأريب زميلنا صاحب مجلة العرفان، ورأينا من الواجب علينا أن نكتب
مقالاً آخر نبين به بعض ما انتقدناه عليها من جهة الغلو الذي اعتاده علماء الشيعة
حتى صارت العادة عندهم عبادة، ومن ناحية ضعفهم في علم الحديث ولا سيما
روايته وما يصح منه وما لا يصح بحسب أصول العلم وقد نشير إلى ناحية ثانية
هي ناحية التاريخ، ولا نعرض للخوض في مسألة الإمامة ولا مسألة عصمة الاثني
عشر التي هي أساس المذهب؛ لأنها مفروغ منها في المؤلفات القديمة وليست
عملية في هذا الزمان، وما كان الجدال في أصول المذاهب إلا ضررًا لأهله في
دينهم ودنياهم في كل زمان، وشر ضرره تفريق الكلمة وتمزيق نسيج الوحدة؛ لأنه
مبني على عصبية المذاهب، ولن تكون إلا تقليدية وما أضيع البرهان عند المقلد،
وأبدأ بكلمة في الغلو فأقول:
من هذا الغلو إطراء أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه المتضمن لاحتقار
الإسلام وما يستلزمه مما لا يحسن التصريح به، بما أنكرناه على السيد عبد الحسين
نور الدين العاملي من قبل فلم يمنع ذلك الأستاذ كاشف الغطاء أن يعيده مُقِرًّا له من
بعد؛ إذ قال في أول ص ٢١ بعد ذكر من سمى من الصحابة في الشيعة ما نصه:
(ولكن ما أدري أهؤلاء الذين أرادوا هدم الإسلام أم إمام الشيعة علي بن أبي طالب
الذي يشهد الثقلان أنه لولا سيفه ومواقفه في بدر وأحد وحنين والأحزاب
ونظائرها لما اخضر للإسلام عود وما قام له عمود حتى كان أقل ما قيل في ذلك
عنه المعتزلي أحد علماء السنة (! !) :
ألا إنما الإسلام لولا سهامه ... كعفطة عنز أو قلامة ظفر
هذا ما كتبه مجتهد النجف الأكبر وعلامته الأشهر ثم فسره بمختصر مما فسره
به عبد الحسين نور الدين العاملي وضرب له هذا المثل الشعري الإلحادي.
الله أكبر ودينه الإسلام أعلى وأظهر وأذكى وأطهر وأعز وأقهر من تشبيه هذا
المعتزلي الرافضي - لا السني - له بضرطة أنثى المعز وقلامة الظفر.
نعم إن دينًا سماه الله دينه وأتمه وأكمله ووصفه بما وصفه ووعد بإظهاره
على الدين كله وإتمام نوره بقدرته وفضله، وبعث به خير خلقه محمدًا رسول الله
وخاتم النبيين ورحمته للعالمين، وجعل ملته هي الباقية إلى يوم الدين وأيده
بملائكته فوق تأييده بالمؤمنين، وإن دينًا هذا شأنه يجب على كل مؤمن به أن يوقن
أنه أجل وأكبر وأعظم وأعلى وأسمى وأرفع وأمنع من أن يتوقف ظهوره ونوره
ونصره وبقاؤه على جهاد أي فرد من أفراد المؤمنين، وأن يكون من امتهنه بأنه
لولا فلان من أتباعه لكان كضرطة أنثى المعز أو قلامة الظفر التي تلقى وتداس
بالنعال جديرًا بأن يكون من أجهل الناس به وأبعدهم عن الإيمان به واتباعه، وإن
وصفه مجتهد الشيعة بأنه من المعتزلة علماء السنة، ومتى كان المعتزلة من علماء
السنة , فأين علم هذا المجتهد الكبير بالمذهب والتاريخ؟
لو كنا نريد أن نتكلم في أصول المذاهب لبينا للقارئ أي الفريقين تبعت
المعتزلة فيما خالفوا فيه السنة من تحكيم عقولهم في تأويل كلام الله وكلام رسوله
وغير ذلك.
وشر من قول هذا المعتزلي بل الزنديق المحتقر للإسلام قول من جعل ذمه
وإهانته له أقل ما يقال فيه , فأي شيء أقل من ضرطة العنز وقلامة الظفر؟ ! أهذا
هو مذهب الشيعة الذي يدعي العلامة كاشف الغطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم
هو الواضع له فهذا مثل من غلو القوم اللاشعوري.
نعم إنه ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وضع أصل مذهب
الشيعة وأن خيار أصحابه تلقوه عنه، ثم كان أئمة الإسلام من مدوني كتب السنة
حفاظ الحديث والمفسرين وسائر علماء الملة منهم إلخ.
من الغريب أن يحتج على هذا الأصل بروايات يعزوها إلى الكتب المعتمدة
عند أهل السنة، وما أدري أعلمه بالروايات المعتمدة عند أهل السنة كعلمه بكون
المعتزلة منهم؟ أم هو يتعمد التدليس والإيهام؟ كل ذلك جائز، وهو ما تراه في
أول ص ٤١ وما بعدها جوابًا عن سؤال أورده:
قال: (إن أول من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام هو نفس صاحب
الشريعة الإسلامية - يعني أن بذرة التشيع وضعت مع بذرة الإسلام جنبًا إلى جنب
وسواء بسواء، ولم يزل غارسها يتعاهدها بالسقي والعناية حتى نمت وأزهرت في
حياته، ثم أثمرت بعد وفاته. وشاهدي على ذلك نفس أحاديثه الشريفة لا من طريق
الشيعة ورواة الإمامية حتى يقال: إنهم ساقطون؛ لأنهم يقولون بالرجعة أو أن
راويهم (يجر إلى قرصه) بل من نفس أحاديث علماء السنة وأعلامهم، ومن
طرقهم الوثيقة التي لا يظن ذو مسكة فيها الكذب والوضع. وأنا أذكر جملة ما علق
بذهني من المراجعات الغابرة، والتي عثرت عليها عفوًا من غير قصد ولا عناية:
(فمنها ما رواه السيوطي في كتاب (الدر المنثور، في تفسير كتاب الله
بالمأثور) في تفسير قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ} (البينة: ٧) قال:
أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه
وسلم فأقبل علي عليه السلام فقال: (والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون
يوم القيامة) ونزلت {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ} (البينة: ٧)
وأخرج ابن عدي عن ابن عباس قال: لما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ} (البينة: ٧) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: (أنت
وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين) (؟)
وأخرج ابن مردويه عن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى
الله عليه وسلم (ألم تسمع قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ
خَيْرُ البَرِيَّةِ} (البينة: ٧) هم أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت
الأمم للحساب تدعون غرًّا محجلين) انتهى حديث السيوطي، وروى بعض هذه
الأحاديث ابن حجر في صواعقه عن الدارقطني وحدَّث أيضًا عن أم سلمة أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (يا علي أنت وأصحابك في الجنة، أنت وشيعتك في
الجنة) .
(وفي نهاية ابن الأثير ما نصه في قمح: وفي حديث علي عليه السلام قال
له النبي صلى الله عليه وسلم: (ستقدم على الله أنت وشيعتك راضين مرضيين
ويقدم عليه عدوك غضابًا مقمحين، ثم جمع يده إلى عنقه يريهم كيف الإقماح)
انتهى وببالي أن هذا الحديث أيضًا رواه ابن حجر في صواعقه وجماعة آخرون من
طرق أخرى تدل على شهرته عند أرباب الحديث.
(والزمخشري في (ربيع الأبرار) يروي عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال: (يا علي إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة الله تعالى وأخذت أنت
بحجزتي، وأخذ ولدك بحجزتك، وأخذ شيعة ولدك بحجزهم فترى أين يؤمر بنا) .
ولو أراد المتتبع كتب الحديث مثل مسند الإمام أحمد بن حنبل وخصائص
النسائي وأمثالهما أن يجمع أضعاف هذا القدر لكان سهلاً عليه. وإذا كان نفس
صاحب الشريعة الإسلامية يكرر ذكر شيعة علي ويُنَوِّهُ عنهم بأنهم هم الآمنون يوم
القيامة وهم الفائزون، والراضون والمرضيون، ولا شك أن كل معتقد بنبوته
يصدقه فيما يقول، وأنه لا ينقل عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فإذا لم يصر
كل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شيعة لعلي رضي الله عنه فبالطبع والضرورة
تلفت تلك الكلمات نظر جماعة منهم أن يكونوا ممن ينطبق عليه ذلك الوصف بحقيقة
معناه لا بضرب من التوسع والتأويل.
تعليقنا الوجيز على هذه الدعوى وأدلتها:
أقول: (أولا) إن هذه الأحاديث التي اعتمد عليها في بيان أصل الشيعة لا
تصح رواية لشيء منها ألبتة، ولذلك لم يخرج شيئًا منها مصنفو الصحاح كالإمام
مالك والبخاري ومسلم ولا من بعدهما - ولا أحد من أصحاب كتب السنن كالأربعة
المشهورة، ولا مما قبلها من المسانيد كمسند الإمام أحمد ومسند إسحاق بن راهويه
ومسند ابن أبي شيبة ومسند الطيالسي، على ما في هذه السنن والمسانيد من
الأحاديث الضعيفة، بل لم يخرجها الحاكم في مستدركه ولا عبد الرزاق في مسنده
ولا مصنفه على ما فيها من الأحاديث الموضوعة وشدة عنايتهما بجمع مناقب علي
وآل بيته عليهم السلام، وإنما خرَّجها بعض الذين عنوا بجمع كل ما روي من
الشواذ والمناكير والموضوعات أيضًا، ولا سيما رواة التفسير المأثور التي عني
السيوطي بجمعها في كتابه الدر المنثور ويكثر إيراد مثلها المصنفون في المناقب
والفضائل بغير تمييز، ولا سيما الجاهلين بعلم الرواية ومنهم الواحدي والزمخشري
الذين أوردوا في تفاسيرهم الأحاديث الموضوعة في فضائل السور سورة سورة
ونقلها عنه البيضاوي. وكلها موضوعة، اعترف واضعوها بوضعها عند سؤالهم
عنها كما نقله السيوطي في الإتقان (ص ١٥٥ ج ٢) وقد اشتهر عن الإمام أحمد
أنه قال: ثلاثة ليس لها أصل التفسير والملاحم والمغازي - يعني من الأحاديث
المرفوعة - وذلك أن أكثر ما روي فيها مراسيل لا يعلم الساقط من سندها وتكثر
فيها الإسرائيليات وأقوال أهل الأهواء.
ثانيًا: إن ما نقله السيوطي منها في تفسيره (الدر المنثور) من الروايات عن
ابن عساكر وابن عدي وابن مردويه هو حديث واحد في موضوعه، وهو سبب
نزول آية البينة، وهو لم يذكره في كتابه (الباب المنقول في أسباب النزول) لأنه
من القشور الواهية لا من اللباب، ولهذا لم يروها الإمام الطبري ولم ينقلها الحافظان
البغوي وابن كثير وأمثالهما في تفاسيرهم ولا مفسرو المعقول.
(ثالثًا) إن ما ينقله السيوطي في هذه الكتب لا يقال: إنه هو الذي رواه كما
يقول الاستاذ كاشف الغطاء فيه وفي الزمخشري وابن حجر الهيتمي ويقول مثله
غيره من علمائهم في كل ما ينقلونه عن أي كتاب ألفه أحد المنسوبين إلى مذهب
السنة ليحتجوا به على أهل السنة كما بيناه في الرد على الأستاذ السيد عبد الحسين
نور الدين العاملي فالفرق بين الراوي والناقل معروف عند جميع أهل الحديث
وجميع أهل العلم، وأكثر الذين رووا الأحاديث بأسانيدهم لم يلتزموا الصحيح منها
بل منهم من تعمد رواية كل ما سمعه حتى الموضوع المفترى اعتمادًا على التفرقة
بينهما بمعرفة رجال أسانيدها، ومنهم من اجتنب الموضوع دون الضعيف، وأكثر
الغافلين عنهم من غير المحدثين كالرمخشري والرازي لا يميزون بين الصحيح
وغيره، وما كل المميزين يلتزمون نقل ما يصح أو يبينون درجته إلا قليلاً، ولا
سيما أحاديث المناقب والفضائل حتى مناقب النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل
نبوته ومناقب آله وأصحابه ومن دونهم فأكثر روايات دلائل النبوة للحافظ أبي نعيم
وحلية الأولياء ضعيفة وفيها موضوعات كثيرة.
(رابعًا) أن الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي وهو من مثل الفقهاء غير المحدثين
نقل في كتابه الصواعق ما رآه من هذه الروايات التي فيها ذكر الشيعة وصرَّح
بضعف بعضها وكذب بعض. و (قال) في ص ٩٤: إن المراد بشيعته أهل السنة
والجماعة لا مبتدعة الروافض والشيعة فإنهم من أعدائه لا من شيعته وأورد عنه
كرم الله وجهه ما استدل به على ذلك، وأعاد هذا في ص ٩٥ ثم قال في ٩٨ بعد
الإحالة على ما تقدم فيهم، وفي رواية أحمد في المناقب التي ذكر فيها اللفظ إنما هم
شيعة إبليس، ثم قال: فاحذر من غرور الضالين وتمويه الجاحدين الرافضة
والشيعة، ثم ذكر حديث الدارقطني عن علي وأم سلمة، وهو حجة له على
الشيعة ولذلك يذكر كاشف الغطاء نصه، بل كشف عن بعضه وغطى بعضًا، فنص
الأول: (يا أبا الحسن أما أنت وشيعتك ففي الجنة، وإن قومًا يزعمون أنهم يحبونك
يصغرون الإسلام ثم يلفظونه، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة يقال لهم
الرافضة، فإن أدركتهم فقاتلهم إنهم مشركون) وفي رواية أم سلمة زيادة في
علامتهم من ترك الجمعة والجماعة والطعن على السلف (قال) : وشيعته هم أهل
السنة؛ لأنهم هم الذين أحبوه كما أمر الله ورسوله، وأما غيرهم فأعداؤه في الحقيقة
إلخ.
(خامسًا) علم من هذا أن قوله: إنه ينقل الأحاديث الشريفة في أصل مذهب
الشيعة من نفس أحاديث علماء السنة وأعلامهم ومن طرقهم الوثيقة إلخ غير صحيح
فإنه لم يذكر شيئًا من طرق الأحاديث التي نقلها، وإنما نقلها من غير كتب رواتها،
بل لا يعرف تلك الطرق ولا رآها، ولو رآها لما عرف صحيحها من سقيمها، فإن
ادعى أنه يعرف هذا وذاك، وأنه قال ما قال عن معرفة، فإننا نسأله: لِمَ لَمْ يذكرها؟
ثم نتحداه بأن يبين لنا هذه الطرق، وينقل لنا أقوال علماء الجرح والتعديل في
رجال أسانيدها، ومن المعلوم بالبداهة أن نقل هذا بعد تحدينا إياه به لا يدل على أنه
كان يعلمه قبله، وهو على كل حال لن يكون إلا حجة عليه.
(سادسًا) قوله: إنه لا ينقل من طريق الشيعة؛ لئلا يقال ما ذكره - فيه:
إن أئمة أهل الحديث لا يقولون مثل هذا القول فيهم كلهم، وقد عدلوا كثيرًا من
رجال الشيعة في الرواية فليأتنا بما شاء من رواياتهم بطرقهم المتصلة إن وجدت.
(سابعًا) إن ما نقله عن ربيع الأبرار للزمخشرى المعتزلي هو باطل المتن
على حسب أصول المعتزلة والشيعة الذين يُحَكِّمُون عقولهم في الروايات الصحيحة
فيردونها أو يؤولونها بل يؤولون آيات القرآن التي توهم التشبيه بزعمهم، فكيف
يقبلون حديثا لا يصح له سند، ولا يظهر له تأويل تقبله اللغة، وهو جعل الشيعة
كقطار آخذ كل واحد منهم بحجزة الآخر، وهي معقد إزاره يكون أوله رب العالمين
له حجزة يأخذ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا
يَصِفُونَ} (الصافات: ١٨٠)
وجملة القول: أن هذه الروايات التي أوردها الأستاذ كاشف الغطاء لا يصح
منها شيء ألبتة، ولا يعتد بإيهامه لقارئ كلامه أنها أقرب ما علق بذهنه عرضًا من
روايات المحدثين الكثيرة المعتمدة أو المتواترة عند أهل الحديث، وأنه لو شاء
لأورد أضعافها وجعلها في معنى الوحي الواجب اتباعه، فلو كان في كتب الصحاح
أو السنن شيء منها، ولو واحدًا لكان أولى منها كلها. ولو رجعنا إلى أسانيدها
وبيَّنا علة كل منها لطال الكلام في غير طائل، وإنما البينة على المدعي وإنا نتحداه
ونتحدى غيره أن يأتونا بسند حديث واحد (منها) رجاله رجال الصحيح.
ثم نقول (ثامنًا) إن فرضنا أنه صح حديث مرفوع في ذكر شيعة علي فإننا
ننقل الكلام إلى المراد منه في اللغة، وقوله تعالى في موسى عليه السلام: {هَذَا
مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} (القصص: ١٥) فنقول: إنهم هم الذين اعتقدوا أنه
هو الذي كان على الحق فنصروه على من عادوه وتبرءوا منه وحاربوه من
الخوارج، وكذا معاوية وأتباعه خلافًا لابن حجر الهيتمي وأمثاله الذي يخرجون
هؤلاء منهم بحجة أنهم كانوا مجتهدين متأولين فلهم أجر واحد، ولعلي وأتباعه
أجران، فإن متبع الحق مستقل الفكر فيه بلا هوى ولا تعصب لمذهب يجزم بأن
معاوية نفسه كان باغيًا خارجًا على الإمام الحق كالخوارج، وأنه طالب ملك،
ويؤيد ذلك إكراه الناس على جعل هذا الملك لولده يزيد المشتهر بالفسق، وأن بعض
الخوارج كانوا متأولين كبعض أصحاب معاوية الذين اعتقدوا أنه كان على حق في
مطالبته بدم عثمان، فمجموع كل من الفريقين بغاة خارجون على إمامهم الحق،
وأفرادهم يتفاوتون في النية والقصد، كتفاوتهم في العلم والجهل، وحكمه كرم الله
تعالى وجهه عليهم في جملتهم هو الحق، وهو أن بغيهم لا يُخْرِجهم من الإسلام،
وإن كلمته عليه السلام: (إخواننا بغوا علينا) لكلمة لو وزنت بالقناطير المقنطرة
من اللؤلؤ والمرجان، لكانت ذات الرجحان في هذا الميزان.
هذا ما يصح به تفسير شيعته في عهده، فإن صح إطلاق هذا اللقب على أحد
من بعده فيجب إطلاقه على كل من يقولون: إنه كان هو الإمام الحق في زمن
خلافته كما كان على الحق في مبايعة الأئمة الثلاثة من قبله، وجميع أهل السنة
يقولون بهذا حتى الذي يعذرون بعض المخالفين له بالتأويل على قاعدتهم فيمن
يخالف بعض ظواهر القرآن والسنة الصحيحة عندهم متأولاً.
ولا يصح بوجه من الوجوه أن يفسر لفظ الشيعة في الحديث على فرض
صحته بمذهب ديني فإن أساس الدين الإلهي الوحدة والاتفاق في جميع العقائد
والمقاصد والأصول القطعية، والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: ١٥٩) الآية، فالشِّيَع
في الدين باطلة، والرسول صلى الله عليه وسلم بريء منها بنص القرآن فكيف
يكون هو الواضع لأصولها.
كذلك لا يصح أن يكون الغلاة في علي وأولاده وأحفاده عليهم السلام من
شيعته، ولو بالمعنى الأعم؛ لأن الغلو في دين الله مذموم في كتاب الله وعلى لسان
رسوله صلى الله عليه وسلم وقد روي عنه في نهج البلاغة وغيره أنه قال: (هلك
فيَّ رجلان: مُحِبٌّ غالٍ، ومبغض قَالٍ) ، ولا شك في أن من أقبح الغلو فيه أن
يقول: إن دين الله الإسلام لم يكن لولا سيفه إلا...... ولا نحب أن نتوسع في بيان
غلو من يبرءون أنفسهم من الغلو ويخصون به من اتخذوه إلهًا، على أن الشيعة
الإمامية يعدون منهم خلفاء مصر العبيديين كما شهد لهم عميدها الشريف الرضي،
وهم الذين يقول شاعر المعز منهم فيه:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار
دع دعايتهم الإلحادية التي فصَّلها المقريزي في خططه. وقال فيهم حجة
الإسلام الغزالي: ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض، فهل هذا كله مما
وضعه النبي صلى الله عليه وسلم من أصول الشيعة؟
وخلاصة الخلاصة أن ما نقله مجتهدهم من الروايات لإثبات أصل مذهب
الشيعة لا يصح أن يثبت بها أي مسألة من الفروع العملية كالطهارة والنجاسة والبيع
والإجارة، وأنها لا تدل على شيء من أصول هذا المذهب، في عصمة الأئمة وفي
الإمامة وفي تحكيم الآراء العقلية في العقائد الدينية ولا من فروعه، كذلك لا يصح
شيء مما قاله في عدِّ بعض الصحابة وغيرهم من أتباع هذا المذهب، وليس من
غرضنا أن نتكلم في المذهب نفسه، ولا في فرق الشيعة من غلاة، وهم درجات
من باطنية وظاهرية ومن معتدلين كالزيدية. فإن الخوض في هذا كان أكبر
المصائب الممزقة للأمة الإسلامية. ولا يزال الذين يثيرونها لأجل المحافظة على
جاههم ومنافعهم أشد الناس جناية عليها، وإن سخر بعضهم منها بزعمه الدعوة إلى
التأليف بين فرقها، وجمع كلمتها. وما هو إلا داع إلى مذهبه، مضلل لمتبعي
غيره، وهذا هو التفريق بعينه:
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل