للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نتيجة ما تقدم في حقيقة ربا القرآن
أو الربا المحرم القطعي المراد بالوعيد الشديد

إن هؤلاء العلماء الأعلام من محققي المفسرين والمحدِّثين والأصوليين
والفقهاء قد صرحوا بأن الربا الذي حرمه الله تعالى بنص كتابه العزيز، وتوعد
آكليه أشد الوعيد، هو الربا الذي كان فاشيًا في الجاهلية ومعروفًا عند المخاطبين
في زمن التنزيل، وهو أخذ مال في مقابلة تأجيل دَيْن مستَحَقّ في الذمة من قبل،
وهو المسمى (ربا النسيئة) لأن أخذ الزيادة على رأس المال إنما سببه إنساء
أجل الدين المستحق - أي تأخيره - لا في مقابلة منفعة ما لمعطيها. وهو قول الحبر
ابن عباس في تفسير آيات سورة البقرة وتدل عليه نصوص الآيات بإباحة ما سلف
منه وإيجاب الاكتفاء برأس المال على مَن تاب كما تقدم عنه رضي الله عنه.
ويؤيد هذا أمران: (أحدهما) الاستعمال اللغوي، ووجهه: أن هذا اللفظ كان
مستعملاً عند عرب الجاهلية من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم وذكر في بعض
السور المكية، فهو ليس من الألفاظ التي وضعت وضعًا جديدًا في الشريعة
فكانت مجملة ثم فسرت بعد ذلك بالأحاديث عند الحاجة إليها في التشريع العملي،
بل اللام في (الربا) للعهد كما صرح به بعضهم.
(ثانيهما) أن الله توعد على أكل الربا بضروب من الوعيد لم تُعهد في
التنزيل ولا في السنة ولا ما يماثلها إلا في الترهيب والزجر عما عظم إثمه وفحش
ضرره من الكبائر، ويؤكده الوعيد الوارد في الأحاديث النبوية، وهاك الإشارة
إليها بالإيجاز:
(١) قوله تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ} (البقرة: ٢٧٥) أي
من قبورهم يوم البعث والنشور {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} (البقرة: ٢٧٥) وهو الجنون، وقد ورد أن المرء يبعث على ما مات عليه، فإذا
كان هذا حال آكل الربا عند البعث وقبل الحساب، فكيف يكون حاله بعد ذلك في
النار؟ وهو:
(٢) قوله تعالى فيمن عاد إلى أكل الربا بعد تحريمه {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: ٨١) وقد حملوه على المستحِلِّ له لأن استحلاله
كفر.
(٣) قوله تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} (البقرة: ٢٧٦) أي يمحق بركته.
(٤) قوله تعالى بعد ذلك {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ} (البقرة: ٢٧٦) وحرمانه من محبة الله تعالى يستلزم بغضه ومقته عز وجل.
(٥) تسميته كفَّارًا أي مبالغًا في كفر النعمة بقسوته على العاجز عن القضاء
واستغلاله لما يعرض له من الضرورة بدلاً من انتظاره وتأخير دينه إلى الميسرة، أو
إسعافه بالصدقة.
(٦) تسميته أثيمًا، وهي صيغة مبالغة من الإثم وهو كل ما فيه ضرر في
النفس أو المال أو غيرهما وأشدها المضار والمفاسد الاجتماعية.
(٧) إعلامه بحرب من الله ورسوله لأنه عدو لهما، في قوله تعالى بعد الأمر
بترك ما بقي للمرابين من الربا بعد التحريم {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ} (البقرة: ٢٧٩) .
(٨) وصفه بالظلم في قوله {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ
تُظْلَمُونَ} (البقرة: ٢٧٩) .
(٩) عَدّ النبي صلى الله عليه وسلم إياه من أهل الموبقات وهي أكبر
الكبائر ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (اجتنبوا السبع
الموبقات) أي المهلكات قالوا وما هن يا رسول الله؟ قال: (الشرك بالله والسحر
وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم
الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) .
(١٠) ورود عدة أحاديث صحيحة في لعنه صلى الله عليه وسلم لآكل الربا
وموكله، وفي بعضها زيادة كاتبه وشاهديه.
(١١) في غير الصحاح أحاديث كثيرة في الوعيد الشديد عليه منها أن
درهم ربا أشد من ثلاث وثلاثين زنية في الإسلام وفي بعضها ٣٦ زنية، وفي
بعضها بضع وثلاثين زنية وفي بعضها (الربا اثنان وسبعون بابًا أدناها مثل إتيان
الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عِرض أخيه) رواه الطبراني في
الأوسط من طريق عمرو بن راشد وقد وثقه ابن حبان على نكارة حديثه هذا.
وجملة القول أن هذا الوعيد الشديد كله لا يمكن أن يكون على ربا الفضل
الوارد في حديث عبادة وأبي سعيد وغيرهما لأنه لا ضرر فيه ولذلك اضطر بعض
الفقهاء إلى القول بأن تحريمه تعبدي لا يعقل معناه. ومن المعلوم من الدين
بالضرورة لصراحة أدلته في الكتاب والسنة أن الإسلام يسر لا عسر فيه ولا حرج،
وأنه الحنيفية السمحة، وقال العلماء: إن من علامة الحديث الموضوع أن يكون
فيه وعد بثواب عظيم على عمل تافه أو سهل قليل التأثير - أو وعيد شديد على
عمل ليس فيه ضرر في الدين ولا في الدنيا أو فيه ضرر قليل.
هذا، وإن بيع الأجناس الستة بعضها ببعض مع التفاضل المعتاد بالتراضي
أو بيع جنس بآخر مع تأخير القبض ليس فيه من الضرر والفساد ما يستحق فاعله
شيئًا من أنواع ذلك الوعيد فلا يفهم له علة إلا سد ذريعة ربا النسيئة الذي نهى الله
عنه وتوعد فاعله بما لخصناه آنفًا، فهو كنهيه صلى الله عليه وسلم عن خلوة
الرجل بالمرأة الأجنبية، وعن سفرها إلا مع ذي رحم محرم، وعن الانتباذ في
الأواني التي يسرع فيها اختمار النقيع المنبوذ فيها من تمر أو زبيب، وعن الجلوس
على مائدة يشرب عليها الخمر؛ لأن هذا وذاك مما يسهل وجود الخمر ويجرئ على
شربها بتأثير الألفة والقدوة، ومثله أو أشد شرب القليل من الشراب الذي لا يسكر
إلا الكثير منه. وأبلغ من هذا في النهي لسد الذريعة نهي الله عز وجل للمؤمنين
عن سب آلهة المشركين وأصنامهم مع تعليله الدالّ على ذلك وهو قوله: {وَلاَ
تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: ١٠٨) .
وأما تسمية ذلك ربا في بعض الروايات فمن باب المجاز المرسل كقوله تعالى
حكاية عن أحد صاحبي يوسف في السجن {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} (يوسف:
٣٦) وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بما يدل على هذا في بعض روايات
هذه الأحاديث كحديث ابن عمر عند الإمام أحمد والطبراني (لا تبيعوا الدينار
بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فإني أخاف عليكم الربا) وقد
ورد في روايات متعددة إطلاق لفظ الربا أو أشد الربا على استطالة الرجل في
عرض أخيه يعني بالغيبة، وإطلاق لفظ الزنا على مقدماته في حديث مرفوع
معروف.
وروى مالك وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن ابن عمر قال: قال
عمر بن الخطاب لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مِثْلاً بِمِثْل ولا تبيعوا الورِق بالذهب
أحدهما غائب، والآخر ناجز، وإن استنظرك حتى يلج بيته فلا تنتظره إلا يدًا بيد
هات وهاء، إني أخشى عليكم الرماء. والرماء هو الربا.
وروى مالك والبيهقي عن نافع قال: كان ابن عمر يحدث عن عمر في الصرف
ولم يسمع فيه من النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا. قال: قال عمر: لا تبايعوا
الذهب بالذهب ولا الورِق بالورِق إلا مثلًا بِمِثْلٍ سواءً بسواء ولا تشفوا بعضه على
بعض؛ إني أخاف عليكم الرماء.
ولكن الوعيد الشديد في الربا وما يقتضيه من الورع واتقاء الشبهات أوقع
الناس في مشكلات من هذه المسألة منذ ذلك العصر إلى اليوم، فترى أن عمر
(رضي الله عنه) على نهيه عن ربا الفضل خوفًا من إفضائه إلى الربا وعلى
تصريحه بأن آية البقرة آخر ما نزل يعني من آيات الأحكام وأنه صلى الله عليه
وسلم توفي ولم يقل لهم فيها شيئًا غير ما كانوا يعلمونه من ربا الجاهلية، ومن
وضعه وإبطاله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وقوله فدعوا الربا والريبة -
تراه على هذا قد قال فيما رواه عنه ابن أبي شيبة لقد خفت أن نكون قد زدنا في
الربا عشرة أضعافه بمخافته، ولقد صدق رضي الله عنه فكل من جاوز حد شيء
وقع في ضده.
***
فصل مهم
في إلحاق الفقهاء ذرائع الربا وشبهاته
بالربا القطعي بالنص
قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآيات: وإنما حرمت المخابرة وهي
المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والمزابنة وهي اشتراء الرطب في رءوس
النخل بالتمر على وجه الأرض، والمحاقلة وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل
بالحب على وجه الأرض - إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسمًا لمادة الربا
لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من
تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب
ما وهب الله لكل منهم من العلم، وقد قال الله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف: ٧٦) وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم. وقد قال
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث وددت أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدًا تنتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من الربا.
يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا. والشريعة شاهدة بأن كل حرام
فالوسيلة إليه مثله لأن ما أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب. اهـ كلام ابن كثير، وأورد بعده حديث النعمان في الحلال والحرام
والشبهات وهو معروف وسيأتي البحث فيه.
أقول: إن العماد ابن كثير رحمه الله تعالى قد فطن لما غفل عنه جمهور العلماء
أو قصروا في بيانه في هذه المسألة الخطيرة ولكنه لم يسلم من مجاراتهم في بعض
ما أخطأوا فيه بل أقرهم عليه واحتج لهم بما لا حجة فيه، ويؤخذ منه ومما قدمناه
عليه أمور يجب تدبرها لتحرير هذه المسألة المشكلة فنقول:
(١) إذا كان عمر أمير المؤمنين (الذي قال فيه عبد الله بن مسعود من
أكبر علماء الصحابة إنه قد مات بموته تسعة أعشار العلم) قد خشي أن يكون
مسلمو عصره قد زادوا في الربا عشرة أضعافه من شدة خوفهم من الوقوع في شيء
منه، فإن من بعدهم قد زادوا عليهم أضعاف ما وقعوا فيه من باب الاحتياط واتقاء
الشبهات، فإنهم عدوا منه ما نُهي عنه من البيوع مهما تكن صفة النهي ومهما يكن
سببه، وعدوا منه البيوع الفاسدة عندهم، وإن يكن سبب ما قالوه في فسادها رأي
لبعضهم ما أنزل الله به قرآنًا، ولا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيه بيانًا،
وصارت هذه الأنواع التي لا تكاد تُحصى مقرونة في أذهان الجميع بذلك الوعيد
الشديد في كتاب الله تعالى وفي الأحاديث الصحيحة وكذا الضعيفة والمنكرة والشاذة
والموضوعة التي رووها في ذلك، ويقل في المسلمين في هذه الأعصار من يميز
بين ما يصح منها وما لا يصح فأوقعوا المسلمين في أشد الحرج المنفي بنص كتاب
الله تعالى المحكم في دينه.
(٢) إن قولهم الذي جعلوه أصلاً تتدلى منه فروع لا تحصى في الربا وهو
(إن الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة) غير مسَلَّم فالجهل ليس كالعلم ولا يصح أن
يُجعل دليلاً على التحريم الذي تقدم أن السلف الصالحين لم يكونوا يقولون به إلا
بنص قطعي الرواية والدلالة؛ بل نقل الإمام أبو يوسف عنهم اشتراط وروده في
كتاب الله تعالى بنص جلي لا يحتاج إلى تفسير. وقد علمنا أن الله تعالى لم يحرم
في كتابه إلا ربا النسيئة الذي هو أخذ الزيادة في المال لأجل تأخير ما في الذمة منه
الذي من شأنه أن يتضاعف ويكون مخربًا للبيوت ومفسدًا للعمران، ومبطلاً
لفضائل التراحم والتعاون بين الناس. ومن الغريب أن ينوه العماد رحمه الله تعالى
بعلم هؤلاء الذين قال فيهم: إنهم حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك
المفضية إلى الربا، وغفل عن كونهم إنما ضيقوا ما وسَّعه الله تعالى وعسروا ما
يسره مخالفين في ذلك لنص كتابه ولسنة رسوله الذي أمر أصحابه وعماله وأمته
بالتيسير ونهاهم عن التعسير كما هو ثابت في أحاديث الصحاح والسنن المشهورة.
(٣) قوله في توجيه مسلكهم إن الشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه
مثله؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرام - فيه نظر من ثلاثة وجوه:
(أحدها) أن الوسائل ليست كالمقاصد في نفسها بل هي دونها في الخير
والشر والنفع والضر والحلال والحرام كما يظهر من الأمثلة التي ذكرنا آنفًا (في ص
٣٩) أن النصوص وردت في النهي عنها لأنها ذريعة إلى الحرام القطعي.
(ثانيها) أن تحديد الوسائل في المسائل ودرجة إفضائها إلى المقاصد من
أشق الأمور فإذا لم تكن منصوصة اختلفت باختلاف الأفهام والآراء.
(ثالثها) جهة الدلالة فيها فإن من أحكام المقاصد مما لا يثبت إلا بالنص
القطعي كأصل العبادة والتحريم الديني فالوسيلة له أولى بذلك، ومنها ما يثبت
بالدليل الظني. واعتبر ذلك بقوله تعالى في الزواج: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} (النساء: ٣) فقد أوجب تعالى على مَن
خاف على نفسه عدم العدل بين الزوجتين أو الأزواج أن يتزوج واحدة لأن التعدد
وسيلة للعول وهو الظلم المحرم لذاته. وكون تعدد الزوجات وسيلة إليه عند أكثر
المعددين في هذه الأزمنة مشاهَد، ويدل عليه من النص قوله تعالى: {وَلَن
تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (النساء: ١٢٩) الآية ومع هذا لم
يقل أحد من هؤلاء الفقهاء بتحريم التعدد وعدم ثبوت الزوجية وما يترتب عليها من
الأحكام به.
(٤) استدل العماد على القاعدة الكلية التي ذكرها بحديث النعمان بن بشير
مرفوعًا: (إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن
كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في
الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن
لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) الحديث وهو في الصحيحين وهذا
اللفظ هو الذي اختاره النووي في الأربعين. وقد روي عن غير النعمان بألفاظ
تختلف بعض الاختلاف. وهو لا يدل على تلك القاعدة الكلية لإجماع المسلمين على
أن من رعى سائمته أو دابته حول حمى وأمكنه اجتناب الوقوع فيه لا يكون رعيه
حرامًا كالرعي في الحمى وأن اتقاء الرعي حول الحمى إنما يطلب تورُّعًا واحتياطًا.
وللعلماء في تفسير (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) تفصيل؛ لأنه إما أن
يكون من الكثيرين الذين لا يعلمونهن وإما أن يكون ممن يعلمون الحكم ولا يشتبهون
فيه، فإن كان ممن يعلمون أن هذا المشتبه فيه - لخفاء في وجه حله أو حرمته -
حلال فإنه لا يأثم به وإن كان ممن يعلمون أنه حرام فإنه يأثم. وأما من يقع في
المشتبه مع اشتباهه عليه فإنه لا يأمن أن يكون الحرام فكأنه تجرأ على الحرام، وكذا
من علم أنه ذريعة إلى الحرام كالذي يتزوج على امرأته وهو لا يثق من نفسه بالعدل
لكراهته للأولى وحبه للثانية فإنه لا يلبث أن يظلم، فهذان محملان للحكم بوقوعه في
الحرام وليس المعنى أن نفس المشتبه فيه حرام لأنه يخرج بهذا عن كونه مشتبهًا
فيه.
قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث من فتح الباري: ونختلف في حكم
الشبهات فقيل التحريم وهو مردود، وقيل الكراهة، وقيل الوقف كالخلاف فيما
يقبل الشرع. وحاصل ما فسره به العلماء الشبهات أربعة أشياء: (أحدها)
تعارض الأدلة كما تقدم (ثانيها) اختلاف العلماء وهي منتزعة من الأولى (ثالثها)
أن المراد بها مسمى المكروه لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك (رابعها) أن المراد
بها المباح. ولا يمكن لقائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه بل
يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار
ذاته راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج.. إلخ.
ومن ألفاظ الحديث ما هو صريح في أن الوقوع في الشبهات مدرجة للوقوع
في الحرام لا وقوع فيه كحديث ابن عمر (الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما
مشتبهات فمن اتقاها كان أنزه لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات أوشك أن يقع
في الحرام) .
وقال الحافظ ابن رجب في شرح الحديث: وقد فسر الإمام أحمد الشبهة بأنها
منزلة بين الحلال والحرام - يعني الحلال المحض والحرام المحض - وفسرها
تارة باختلاط الحلال والحرام. وذكر أن أصحابهم الحنابلة اختلفوا فيه هل هو
مكروه أو محرم؟ على وجهين وأن منهم من حمل ذلك على الورع.
وذكر هو وابن مفلح في الآداب الشرعية آثارًا عن كبار علماء السلف في
ذلك: (منها) ما رواه الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال في جوائز السلطان
لا بأس بها ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام (ومنها) كان النبي
صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم بأنهم لا
يجتنبون الحرام كله.
قال الحافظ ابن رجب: وإن اشتبه الأمر فهو شبهة والورع تركه. قال سفيان:
لا يعجبني ذلك وتركه أعجب إليَّ. وقال الزهري ومكحول: لا بأس أن يؤكل
منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه، فإن لم يعرف في ماله حرام بعينه ولكن علم أن
فيه شبهة فلا بأس بالأكل منه. نص عليه أحمد في رواية حنبل. وذهب إسحاق بن
راهويه إلى ما روي عن ابن مسعود وسلمان رضي الله عنهما وغيرهما من
الرخصة - وإلى ما روي عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ بما يقضي (؟)
من الربا والقِمَار، ونقله عن ابن منصور. وقال الإمام أحمد في المال المشتبه
حلاله بحرامه: إن كان المال كثيرًا أخرج منه قدر الحرام وتصرَّف في الباقي،
وإن كان المال قليلاً اجتنبه كله. وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئًا فإنه يتعذر معه
السلامة من الحرام بخلاف الكثير.
ثم قال: ومن أصحابنا مَن حمل ذلك على الورع دون التحريم، وأباح
التصرف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه وهو قول الحنفية وغيرهم
وأخذ به قوم من أهل الورع منهم بِشْر الحافي. ورخص قوم من السلف في الأكل
ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه كما تقدم عن مكحول
والزُّهْرِي، وروي مثله عن الفضيل بن عياض، وروي في ذلك آثار عن السلف،
فصحَّ عن ابن مسعود أنه سئل عمن له جار يأكل الربا علانية لا يتحرج من مال
خبيث يأخذه يدعوه إلى طعام؟ ! قال: أجيبوه فإنما الهناء (أو المهنأة) لكم والوزر
عليه. اهـ. المراد منه.
فعلم بهذا كله أن من الجهل المبين أن يُعد ما يشتبه في أمره ولا يتبين وجه
الحلال والحرمة فيه من الحرام المحض ولو من الصغائر، فكيف يجوز أن يعد من
أكبر الكبائر التي أنذر الله مرتكبها بأشد الوعد ولعنه رسوله صلى الله عليه وسلم؟
وإنما يكثر مثله في كلام المقلدين الذين يأخذون بالتسليم كل ما يرونه في كتب مَن
قبلهم ولا سيما علماء مذاهبهم، ولا يعنون بالنظر في أدلتهم، بل يأخذونها بالتسليم
على علاتها. وعلى من ينظر في الأدلة أن يستقصي ما قاله أهلها المستقلون ويتحرى
في البحث عن غيرها وينصب الميزان المستقيم لترجيح بعضها على بعض، لا كما
فعل أخونا المفتي الهندي في مسألة الربا.
إذا تمهد هذا ظهر به الحق في الربا الذي نهى الله تعالى عنه في كتابه وتوعد
فاعله بما لم يتوعد بمثله على ذنب آخر - أنه ربا النسيئة الذي كان معروفًا في
الجاهلية كما قال من ذكرنا عباراتهم من أعلام العلماء المستقلين والتابعين لبعض
الأئمة في النظر والاستدلال، لا مجرد التعبد بالآراء والأقوال.
وإمام هؤلاء القائلين بذلك حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس
رضي الله عنهما. ونعيد القول ونكرره بأنه هو ما يؤخذ من المال لأجل تأخير
الدين المستحق في الذمة إلى أجل آخر مهما يكن أصل ذلك الدين من بيع أو قرض
أو غيرهما، وهذا النوع هو الذي كان يتضاعف بعجز المدين عن القضاء مرة
أخرى حتى يصير أضعافًا مضاعفة ويستهلك جميع ما يملكه المدين في كثير من
الأحيان.
وبهذا تظهر حكمة العليم الحكيم في ذلك الوعيد الشديد عليه وفي تسميته ظلمًا،
ولا يظهر هذا في كل قرض جر نفعًا، ولا في بيع أحد الأجناس بمثله متفاضلاً
نقدًا أو نسيئة، فضلاً عن تثمير الأموال بالشركات التجارية التي لا تلتزم شروط
الفقهاء فيها كما يأتي بعد وإنما يظهر من سبب النهي عن هذه البيوع أنه سد لذريعة
الربا المحرم القطعي، وهذه الذريعة مظنونة لا قطعية، وقد ذكرنا آنفًا بعض ما لها
في الشريعة من الأمثلة، ومن المنهيات في الأحاديث ما هو محرم وما هو مكروه
أو خلاف الأولى، وما هو لمحض الإرشاد لا للتشريع الديني، وإنما يكون التمييز
بين هذه الأنواع بالأدلة الخاصة أو القواعد العامة أو التعارض بين النصوص
وترجيح الأقوى كالنهي عن أكل لحوم سباع الوحش والطير مع حصر نصوص
القرآن لمحرمات الطعام في الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله
به. وقد حققنا أن النهي فيه للكراهة وفاقًا لمذهب مالك جمعًا بينه وبين نصوص
القرآن القطعية الرواية والدلالة بصيغتي الحصر. وبينا فيه أن التعبير في بعض
الروايات بالتحريم قد يكون رواية بالمعنى لفهم الراوي أن المراد من النهي التحريم.
وكذلك يقال في النهي عن بيع النقدين وأصول الأغذية المذكورة في حديث
عبادة (إلا يدًا بيد مثلاً) بمثل إذا اتحد الجنس، والاكتفاء بالتقابُض إذا اختلف.
ومما يدل على أن هذا النهي غير مقصود بالذات ما صح في إباحة بيع العرايا
والحيلة في بيع الكثير من التمر الرديء بالقليل من التمر الجيد بأن يجعل العقد على
بيع كل منها بالثمن. وهذا أصل من أصول أدلة مَن جوزوا الحيلة في الشرع ولكن
لا يصح هذا الاستدلال إلا في المسائل التي لا تضيع فيها علة الحكم وتذهب حكمة
الشارع فيه كمسألة بيع التمر بالتمر التي أفتى فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
وسنعقد لهذا البحث فصلاً خاصًّا إتمامًا لتحقيق مسألة الربا العامة من كل وجه.