(س١) لصاحب الإمضاء في مصر القاهرة: حضرة صاحب السيادة: مولانا الأستاذ الأكبر السيد محمد رشيد رضا، صاحب المنار الأغر - نفعنا الله بعلمه وفضله. عرض بعض فقهاء المسلمين في مصر إلى مسألتين: الأولى احتيال الآباء على حرمان بناتهم من أموالهم بطريق النزول عنها إلى أولادهم الذكور ببيع ما يملكونه لهم، حتى إذا ماتوا لا تجد البنات ما ترثه من أموال آبائهن. فقال بعض الفقهاء بجواز هذا، ونشرت قوله كذلك في " الوطنية "، وقال آخر بالتحريم، ونشرت قوله كذلك في الوطنية؛ فأصبح المسلمون في حيرة من أمرهم بين هذين القولين المتناقضين، وقد لجأت إلى فضيلة مفتى الديار المصرية ليكون حَكَمًا بينهما، فأحالني على سيادتكم، وأجَّل فتواه إلى ما بعد اطلاعه على فتواكم. تعارض القرآن والإجماع المسألة الثانية: إذا تعارض القرآن والإجماع في أمر؛ فبأيهما نأخذ؟ قال بعض العلماء: نأخذ بالقرآن، وقال أحد كبار الفقهاء: نأخذ بالإجماع. واستشهد الفقيه المشار إليه على صحة رأيه بقوله: إن القرآن فرض نصيبًا من الصدقة للمؤلفة قلوبهم، وجاء الإجماع فقرر إلغاء هذا النصيب؛ لأن الإسلام أصبح قويًّا ومنتشرًا، وليس بحاجة إلى تأليف القلوب؛ فماذا ترون سيادتكم في هاتين المسألتين، فإن العالم الإسلامي ومفتي الديار في انتظار فتوى سيادتكم في كلتيهما؟ ... ... ... ... ... ... ... ... ... أيوب صبري ... ... ... ... ... ... ... ... صاحب جريدة الوطنية (١) الاحتيال لحرمان البنات من الميراث: الاحتيال لحرمان البنات من الميراث ببيع المورث بعض عقاره أو كله للذكور من الوارثين بيعًا صحيحًا في الظاهر، أو هبته لهم في غير مرض الموت أو بغير ذلك من الوسائل - هو كالاحتيال لمنع الزكاة أو أكل الربا المحرم قطعًا - حرام لا شك فيه، وقد حررنا هذه المسألة في الكلام على الحيلة لأكل الربا، وأشد الفقهاء جمودًا على ظواهر الأحكام يصرحون بحرمة هذا إذا قصد به تعطيل حكمة الشارع؛ وإنما يكابر من يكابر في حكم ظاهر العمل بصرف النظر عن النية فيه. وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعدل والمساواة بين الأولاد في عطايا الدنيا، فضلاً عن الميراث المقرر في كتاب الله تعالى، ففي حديث الصحيحين وغيرهما أن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ - رَضِي اللَّه عَنْهمَا - قال عَلَى الْمِنْبَرِ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ (يعني أمه) : لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ لا، قَالَ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلادِكُمْ) ، قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ. وفي رواية لمسلم زيادة: (لا تشهدني على جَوْر) وفي أخرى: (فلا تشهدني فإني لا أشهد على جور) وفي أخرى (اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر) والنِّحَل: جمع نِحْلة بالكسر، وهي العطية التي لا مقابل لها. والظاهر أن هذه التسوية واجبة، وإن قال بعض الفقهاء إنها مندوبة، واختلف في صفتها فقيل: لا فرق فيها بين الذكر والأنثى، وقيل هي كالميراث، ويتجه التفصيل فيما كان من طعام أو زينة، وما يعطى من الدراهم في الأعياد فالظاهر فيه المساواة لاستواء الحاجة؛ ولأن التفضيل يسوء البنات، وما يُقتنى ويدخر أو يستغل لكثرته فالظاهر فيه أنه يراعَى فيه نصيب كلٍّ في الميراث؛ لأنه أقرب إليه، وعلى الأول يحمل حديث ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعًا: (سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحدًا لفضلت النساء) رواه سعيد بن منصور، والبيهقي من طريقه وإسناده حسن، كما قال الحافظ ابن حجر. * * * (٢) التعارض بين القرآن والإجماع: إني لأستنكر هذا التعبير، وأقول: إن القرآن أعظم وأجل من أن يعارضه دليل، وكل ما خالفه فهو خطأ مردود، ومن سوء الأدب أن يقال إنه معارِض له، وأسوأ من ذلك أن يقال إنه يرجح عليه. وما ذكر في السؤال من سقوط سهم المؤلفة قلوبهم من مستحقي الزكاة لا يصح بل هو باقٍ، ولو صح لما كان حكمه معارضًا للقرآن وراجحًا عليه، بل يقال فيه إن حكمه قد تعذر تنفيذه بفقد المستحق له، كما يقال في غيره من غير حاجة إلى ادعاء الإجماع: كالغارمين وابن السبيل، إذا فقدوا من بعض البلاد، ومثل ذلك كفارة العتق في البلاد التي فقد منها الرقيق. قد بينت في تفسير آية الصدقات أن المؤلفة قلوبهم عند الفقهاء قسمان: (١) كفار، وهم ضربان. (٢) مسلمون، وهم أربعة: وأنه حدث في عصرنا أقسام أخرى أولى بالتأليف (فإننا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جمع المسلمين، وفي ردهم عن دينهم، يخصصون من أموال دولهم سهمًا للمؤلفة قلوبهم من المسلمين؛ فمنهم من يؤلفونه لأجل تكفيره وإخراجه من حظيرة الإسلام، ومنهم من يؤلفونه لأجل الدخول في حمايتهم ومشاقة الدول الإسلامية أو الوحدة الإسلامية، ككثير من أمراء جزيرة العرب وسلاطينها! ! أفليس المسلمون أولى منهم بهذا؟ !) (ص٤٩٥، ج١٠ تفسير المنار) . وقلت: إنه روي عن أبي حنيفة أنه قد انقطع سهم قسم من الكفار بإعزاز الله للإسلام، كالذين أعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من غنائم هوازن، ثم منعهم عمر، وقلت: إن هذا اجتهاد من عمر - رضي الله عنه - أي: فهو يختلف باختلاف الزمن، وقد استمر في زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما. (وأما من ادعى أنه منسوخ بالإجماع لما تقدم من عمل الخلفاء والسكوت عليه من سائر الصحابة فدعواه ممنوعة: لا الإجماع ثابت بما ذكر، ولا كونه حجة على نسخ الكتاب والسنة صحيحًا، وإن اختلف فيه الأصوليون بما لا محل لذكره هنا) . وجملة القول: إن سهم المؤلفة قلوبهم ضروري في هذا الزمان بأشد مما كان في أو ل الإسلام؛ لضعف المسلمين ودولهم، وضراوة الأجانب بهدم دينهم وملكهم، وأنه لا إجماع على ما ذكر في السؤال، وأن الإجماع الأصولي يختلف في إمكانه وفي وقوعه وفي العلم بوقوعه إن وقع، وفي كونه حجة.