الجزء الثاني عشر للسيد الإمام محمد رشيد رضا (رضي الله عنه)
يحزنني أن أقرظ هذا الجزء ونحن في مأتم السيد رشيد رضا، ولا نزال مأخوذين بدهشة الخبر، وكأننا في حلم مفزع لا أمام حقيقة صادعة، ولا أمام جرائد تفيض جداولها بالنعي والتأبين، ولا بين معزين من مختلف الطبقات يذرفون الدمع الهتون، ويتوجعون لمصيبة المسلمين بفقد الراحل الكريم، ويتحدثون عن الفراغ الذي تركه، وأنهم لا يجدون من يملؤه، فقد كان السيد الإمام - رحمه الله - ملء السمع والبصر، وكان الحجة الثبت، والمفزع الذي تطمئن إليه النفوس الشاردة من وساوسها، وتهدأ به القلوب الواجفة مما يحيك فيها؛ فتجد برد اليقين، وتشعر ببشاشة الإيمان. يجزنني أن أقدم للأمة الإٍسلامية هذا الجزء من التفسير وأنا في هذه الحالة النفسية التي لم أرها من قبل، على كثرة النوازل والفواجع، ولكن كل المصائب تهون وتتضاءل أمام مصيبتنا في الراحل العزيز، أحسن الله نزله، وحشره مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وبعد: فتفسير المنار أشهر من الشمس، وأبين من فلق الصبح، يعلن عن نفسه بنفسه، وقد قرَّظه العلماء والفضلاء في الشرق والغرب، وأثنوا عليه بما هو أهله، واتخذوه مرجعًا لهم، بل استغنوا به عن كل التفاسير التي تُقتنى، وهو الآن عمدة المحققين من علماء الأزهر وغيرهم. ولست الآن بصدد الكلام على مزاياه ومجموعة ما انفرد به عن كل كتب (التفسير) فذلك له مقام آخر، غير أن الذي أريد أن أعجل للقراء به ونحن في هذه المحنة القاسية - أن أذكر لهم بعض ما امتاز به الجزء الثاني عشر، وهو آخر الأجزاء التي أنجز طبعها السيد المبرور، أحسن الله جزاءه، ورفع في الجنة درجته؛ فقد امتاز هذا الجزء على صغر حجمه بالنسبة لسوابقه بتحقيقات انفرد بها، كالكلام على حكمة التحدي بالسورة الواحدة وبالعشر، وهنا يفيض السيد إفاضة يتجلى فيها روح الإلهام الصحيح، والنظر الصادق، فترى من التحقيقات في الموضوع ما لا ترى في كتاب آخر، فإذا أنت انتقلت إلى آية الطوفان: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (هود: ٤٤) أطلعك على ما في الآية من بلاغة روحية تهتز لها النفس، وتلمس بصدق جانب الإعجاز في الآية الكريمة، ويبطل عجبك من تأثير القرآن في نفوس العرب، ذلك التأثير العجيب الذي بدَّلهم في سرعة لم يعهد لها نظير، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، ورفعهم من الحضيض الأوهد إلى الذروة؛ فكانوا مشاعيل الهداية، ومعلمي الأمم، وقادة الشعوب بالحق والعدل والعلم، نعم يبطل عجبك فالقوم كانوا مرهفي الحس، سليمي الذوق، وكانت اللغة لغتهم، وهم أعلم بمرامي الكلام ووقعه وتأثيره، فلا عجب أن كانت هذه البلاغة العالية الأخاذة تأخذ بمجامع قلوبهم، وتأطرهم على الإيمان أطرًا، فاستمع إليه - أثابه الله - يقول: (ما أفظع هذا المنظر! ما أشد هوله! ما أعظم روعته! ماء ينهمر من آفاق السماء انهمارًا، وأرض تتفجر عيونا خوارة فتفيض مدرارًا، ماء ثجاج، يصير بحرًا ذا أمواج، خفيت من تحته الأرض بجبالها، وخفيت من فوقه السماء بشمسها وكواكبها، وكانت عليه هذه السفينة كما كان عرش الله على الماء في بدء التكوين، كأن ملك الله الأرضي قد انحصر فيها، فتخيل أنك ناظر إليها كما صورها لك التنزيل، تتفكر فيما يئول إليه أمر هذا الخطب الجليل، واستمع لما بينه به الذكر الحكيم، أوجز عبارة وأبلغها تأثيرًا، جعلت أعظم ما في العالم كأن لم يكن شيئًا مذكورًا) إلى أن يقول: (قرر علماء البلاغة الفنية أن هذه الآية أبلغ آية في الكتاب العزيز أحاطت بالبلاغة من جميع جوانبها وأرجائها اللفظية والمعنوية التي وضعت لفلسفتها الفنون الثلاثة: المعاني والبيان والبديع) . وإن مثل هذا التفاضل بين الآيات الذي يقتضيه الحال والمقام لا ينافي بلوغ كل آية في موضعها وموضوعها درجة الإعجاز، ولا يعد من التفاوت المعهود في كلام أشهر البلغاء: كأبي تمام، والمتنبي، وكذا غيرهما من شعراء الجاهلية، ومن بعدهم في الدرجات الثلاث العليا والسفلى وما بينهما، فآياته كلها في الدرجة العليا المعجزة للبشر، وإن كان لبعضها مزية على بعض، كما تراه في تكرار القصة الواحدة من هذه القصص، وقد بسطناه في تفسير آية التحدي بعشر سور مثله مفتريات من هذه السورة. مثال ذلك ما نراه من بلاغة هذه الآية في باب العبرة المقصودة بالذات من سياق هذه القصص كلها، وهو فوق ما ذكروه من نكت الفنون فيها، وبيانه أن الله قد أنذر الظالمين وأوعدهم الهلاك في آيات كثيرة - ومنهم مكذبو الرسل عليهم السلام - كلها معجزة في بلاغتها، ولكنك ترى في هذه الآية من تأثير تقبيح الظلم والوعيد عليه نوعًا لا تجده في غيرها؛ لأن حادثة الطوفان أكبر ما حدث في الأرض من مظاهر سخط الله تعالى على الظالمين، وقد علم من أول القصة أنها عقاب للظالمين بيد أن إعادته في هذه الآية عقب تصوير حادثة الطوفان بارزة في أشد مظاهر هولها، وإشعار القلوب عظمة الجبار العزيز الحكيم في الفصل فيها بما تتلاقى فيه نهايتها ببدايتها والتعبير عن هذه النهاية بالدعاء على الظالمين بالبعد والطرد الذي يحتمل عدة معانٍ مذمومة شرها الطرد من رحمة الله تعالى، يمثل لك هؤلاء الظالمين من قوم نوح بصورة تمثال من الخزي واللعن والرجس لا ترى مثله في أمثالهم من أقوام الأنبياء على ما تراه في التعبير عنها بالعبارات الرائعة في البلاغة وعلم الأسلوب، وإحداثها الرعب في القلوب ... إلخ. ثم عقد فصلاً، بل فصولاً في نهاية القصة كان أحدها للكلام على ما في الآية من بلاغة اصطلاحية، وإن من يقرأ العبارتين يتجلى له الفرق بين البلاغيتين؛ هنا يشعر بأسلوب يهز أريحيته، ويملك عليه وجدانه، ويأخذ النفس من أقطارها، وهناك تشغله العبارة والاصطلاحات الفنية عن المقصود من الآية وهو التأثير والعبرة؛ وبذا تعرف مبلغ أثر القرآن في نفوس العرب. وعلى الجملة لقد كتب السيد عدة كراسات في قصة نوح تصلح أن تكون رسالة وحدها، ولا سيما الفصل الذي عقده لبيان غضب الله على عباده وعقابهم ببعض ظلمهم وفسوقهم في الدنيا، دع ما ختم به سورة هود من عقد خلاصة وافية لها، وهي سُنَّة انفرد بها المرحوم السيد وحده دون باقي المفسرين؛ فقد جرت عادته أن يعقد خلاصة لكل سورة، يبين فيها مجمل ما اشتملت عليه من الأحكام والحِكم والسنن الإلهية في الأفراد والأمم بأسلوب لا يتيسر لغيره. ومن مزايا هذا التفسير تحقيق الحق في مسألة الهمِّ في سورة يوسف في قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّه} (يوسف: ٢٤) وهنا ترى في كتب التفسير خلطًا وخبطًا وحشوًا من الإسرائيليات تنافي الذوق والعقل والشرع واللغة، وترى السيد يجرد قلمه لدحض كل هذه الأقوال، ويبين الحق فيها بيانًا شافيًا تطمئن إليه النفس، كما جلى القصة للناس جلاء ظهرت فيه وجوه العبرة منها، ونقاها من كل ما دسته الإسرائيليات فيها؛ ولذلك اقترح عليه الكثيرون من الأفاضل طبع سورة يوسف على حدة، وقد فعل - رحمه الله - وسيراها الناس قريبًا، إن شاء الله. ولولا خوف الإطالة لنقلت إلى القراء نموذجًا من تحقيقاته في سورة يوسف؛ ليروا كيف يدرك المتأخر ما لا يدرك المتقدم، ولا سيما في كتاب الله الذي لا يتناهى إعجازه. رحم الله السيد، وأحسن عزاء الأمة العربية والعالم الإسلامي فيه. ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد السميع البطل