للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ذكرى المولد النبوي

كتبنا رسالة في ذكرى المولد النبوي الشريف بيَّنَّا فيها كيفية نشأة المصطفى
عليه أفضل الصلاة والسلام، ومعنى اصطفاء الله تعالى له ولأهل بيته ولقومه
ولأمته، وحكمة ظهوره في العرب الأميين دون شعوب المدنية في عهده، وخبر
البعثة والدعوة الإسلامية. وسنجعل لها مقدمة نبين فيها ما ينبغي بيانه نطبعها معها
على حدة، وهذا نص الذكرى:
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهم حمد الشاكرين، أن بعثت فينا محمدًا خاتم النبيين والمرسلين،
وأرسلته رحمة للعالمين، واختصصت بمنتك به الأميين وسائر المؤمنين،
واستجبت به دعوة إبراهيم، وحققت به بشارة عيسى والنبيين {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ
القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (البقرة: ١٢٧-١٢٩) {وَإِذْ قَالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ
مُّبِينٌ} (الصف: ٦) {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ
ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى
ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: ٨١)
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (آل
عمران: ١٦٤) {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * ذَلِكَ
فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الجمعة: ٣-٤)
نحمدك اللهم ونصلي على هذا النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه الذين أقاموا
الدين، ومن تبعهم في هداهم وهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد فإن الاحتفال بذكرى المولد النبوي في شهر ربيع الأول، عادة أحدثها
في القرن السابع الملك المظفر أبو سعيد صاحب إربل، من البلاد التابعة الآن
لولاية الموصل، ثم انتشرت هذه العادة في الأقطار، وقد بَزَّت مصر بها جميع
الأمصار، والفائدة التي ينبغي أن تُتَوَخَّى [١] في هذا اليوم الذي فَضَلَ الأيام، هي
التذكير بخلاصة تاريخ النبي عليه أفضل الصلاة والسلام؛ ليتذكر المؤمنون منة الله
عليهم ببعثته، وتتغذى أرواحهم بزيادة الإيمان وكمال محبته، ويحرصوا على إقامة
دينه وإحياء سنته. وها نحن أولاء نُشَنِّف الأسماع بفرائد من نسبه وحسَبه [٢]
ومزايا قومه وعشيرته، وأخبار مولده وتربيته، وكيفية معيشته في نفسه، وزواجه
وسيرته مع أهله، تمهيدًا لبيان المقصد الأهم الأعظم، وهو نبأ بعثته صلى الله
عليه وسلم؛ مستمدين ذلك من الكتاب العزيز والسنة الثابتة عند المحدثين، وما
تمس الحاجة إليه مما أثبته ثقات المؤرخين، معرضين عن الروايات الموضوعات،
والواهيات والمنكرات، التي عُني الكثيرون بنقلها لما فيها من الخوارق والغرائب،
مبالغة فيما أجازه العلماء من قبول الأخبار الضعيفة في المناقب، ولما يُرْجَى من
حسن تأثيرها في قلوب العوام، مع الغفلة عما يُخْشَى من ضد ذلك في نابتة هذه
الأيام، على أن لنا فيما لا يُحْصَى من الفضائل والمناقب المشهورة والمتواترة، ما
يُغني عن جميع الروايات الضعيفة والمنكرة، وبذلك يعرف قدر الإصلاح العظيم،
الذي أرسل الله به هذا النبي الكريم، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم.
***
قومه ونسبه صلى الله عليه وسلم
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} (آل
عمران: ٣٣) إذ جعل فيهم النبوة والهداية للمتقدمين والمتأخرين، ثم اصطفى
كنانة من آل إسماعيل بن إبراهيم، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من
قريش بني هاشم، واصطفى سيد ولد آدم من بني هاشم، فكان آل إسماعيل أفضل
الأولين والآخرين، كما كان بنو إسحاق أفضل المتوسطين؛ إذ كانت هداية الأنبياء
من بني إسحاق وغيرهم خاصة، وهداية هذا النبي من آل إسماعيل عامة، فبه
أكمل الله تعالى الدين، وأتم نعمته على العالمين، كما اقتضته سنته تعالى في
النُشوء والارتقاء، التي كانت في البشر أظهر منها في سائر الأحياء.
كيف كان اصطفاء الله تعالى لهذه الأصول من الأمة العربية، الذي ثبت في
صحيح مسلم وغيره من كتب السنة السنية؟ وبماذا امتاز قوم خاتم الرسل الكرام،
فَفَضَلوا به غيرهم من الأقوام، حتى استعدوا به لهذا الإصلاح الروحي المدني العام،
الذي اشتمل عليه دين الإسلام، على ما طرأ عليهم من الأمية وعبادة الأصنام،
وما أحدثت فيهم غلبة البداوة من التفرق والانقسام؟
الجواب:
كانت العرب ممتازة باستقلال الفكر وسعة الحرية الشخصية، أيام كانت الأمم
تَرْسُفُ [٣] في عبودية الرياستين الدينية والدنيوية، محظورًا عليها أن تفهم غير ما
يلقنها الكهنة ورجال الدين من الأحكام الدينية، وأن تخالفهم في مسألة عقلية أو
كونية أو أدبية، كما حظرت عليها حرية التصرفات المدنية والمالية.
كانت العرب ممتازة باستقلال الإرادة في جميع الأعمال، أيام كانت الأمم
مذللة مُسَخَّرة للملوك والنبلاء المالكين للرقاب والأموال، يستخدمونها كما
يستخدمون البهائم، ويُصرفونها كما يصرفون السوائم [٤] لا رأي لها معهم في سلم
ولا حرب، ولا إرادة لها في عمل ولا كسب.
كانت العرب ممتازة بعزة النفس، وشدة البأس، وقوة الأبدان، وجرأة الجنان،
أيام كانت الأمم مؤلفة من رؤساء أفسدهم الإسراف في الترف، ومرؤوسين
أضعفهم البؤس والشظف [٥] وسادة أبطرهم بغيُ الاستبداد، ومسودين أذلهم قهر
الاستعباد.
كانت العرب أقرب إلى فضيلة المساواة بين الأفراد، من غير شرائع تُحْتَرَم
بالاعتقاد، ولا قوانين تكفلها قوة الأجناد. أيام كانت الأمم تنقسم إلى طبقات، يرتفع
بعضها على بعض عدة درجات، لا بفضائل ذاتية، من علمية أو عملية، بل بحكم
وراثة الخلف الطالحين [٦] للسلف المستكبرين، باستبداد الملك أو تقاليد الدين.
كانت العرب ممتازة بالذكاء واللوذعية، وكثير من الفضائل الموروثة
والكسبية. كقِرَى الضيوف، وإغاثة الملهوف، والنجدة والإباء، [٧] وعلو الهمة
والسخاء والرحمة والإيثار [٨] وحماية اللاجئ وحرمة الجار. أيام كانت الأمم مرهقة
بالأثرة والأنانية [٩] والأنين من ثقل الضرائب والأتاوى [١٠] الأميرية، ورؤساؤها
منغمسين في الشهوات البهيمية، وفساد الأخلاق قد عمَّ الراعي والرعية.
كانت العرب قد بلغت أَوْج الكمال، في فصاحة اللسان وبلاغة المقال،
وكادت تتحد لغات قبائلها أو لهجاتها العربية، وتسود المُضَرِيَّة منها على الحِمْيَرِيَّة،
بما كان لقريش وغيرها من الرحلات التجارية، والأسواق الأدبية، فاستعدت
بذلك للوحدة القومية وللتأثر والتأثير بالبراهين العقلية والمعاني الخطابية والشعرية
وللتعبير عن جميع العلوم الإلهية والشرعية، والفنون العقلية والكونية أيام
كانت الأمم تنفصم عُرَى وحدتها بالتعصبات الدينية والمذهبية، وتتفرق
وشائجها [١١] بالعداوات الجنسية، وتتمزق دولها بالحروب الأجنبية والأهلية.
فتلك أمهات مزايا الأمة العربية، التي أعدها الله تعالى بها للبعثة المحمدية،
والسيادة الدينية والمدنية، بعد أن طال العهد على مدنيتهم العادية، واستعمارهم
للبلاد الكلدانية البابلية، والبلاد الفينيقية (السورية) والمصرية، التي تشهد له
سيادة لغتهم للُّغات السامية، وبقاياها في اللغة الهيروغليفية [١٢] وبعد أن غلبت عليهم
الأمية، وخرافات الوثنية، وعصبية الجاهلية.
وجملة مزاياهم أنهم كانوا أسلم الناس فطرة، على كون أمم الحضارة كانت
أرقى منهم في كل فن وصناعة. والإصلاح الإسلامي مبني على تقديم إصلاح
الأنفس باستقلال العقل والإرادة وتهذيب الأخلاق على إصلاح ما في الأرض من
معدن ونبات وحيوان؛ أي إن الله تعالى كان يُعِدُّ هذه الأمة بهذا الإصلاح العظيم،
الذي جاء به محمد عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم.
***
اصطفاء كنانة وقريش وبني هاشم
أما اصطفاء الله لكنانة الشيخ الجليل، من سلالة نبيه الذبيح إسماعيل،
فيفسره ما كانت تحفظه العرب من أخبار كرمه ونبله، ومنها أنه كان على سُنة جده
إبراهيم الخليل لا يأكل وحده. وقد نقل الحافظ في شرح البخاري أنهم كانوا يحجون
إليه لعلمه وفضله. ومما يؤثر عنه من الحِكَم الجلية، كما روي في السيرة الحلبية:
رب صورة تخالف المخبرة، قد غرت بجمالها، واختبر قُبح فعالها، فاحذر الصور،
واطلب الخبر. فهذا دليل على ما وصف به من العلم والحكمة، وأما حج العرب
إليه فإنه دليل على أنه كان بمثابة التعارف، ومعقد رابطة الاجتماع والتآلف.
وأما اصطفاء الله تعالى لقريش الميامين الغُرُّ، وهم ذرية فهر بن مالك، وقيل:
جده النضر. فقد كان بما آتاهم الله من المناقب العِظَام، ولا سيما بعد سكنى مكة
وخدمة المسجد الحرام؛ إذ كانوا أصرح ولد إسماعيل أنسابًا، وأشرفهم أحسابًا
وأعلاهم آدابًا، وأفصحهم ألسنة، وهم الممهدون لجمع الكلمة. فقد نقل أهل
السير أن مالك بن النضر كان ملك العرب، وأن كعب بن لؤي كان يجمع قومه
ويعظهم يوم الجمعة، وكانوا يسمونه يوم العَرُوبَة، وأنهم كانوا يُجِلُّونه في حياته،
ثم إنهم أرَّخُوا بموته، وأن قُصَيًّا هو الذي جمع شمل قبائل قريش بمكة؛ إذ كان
هو الوارث لمن كانوا يتولونه من خزاعة [١٣] . وقد تَمَلَّك عليهم فَمَلَّكُوه، إلا أنه قد
أقر للعرب ما كانوا عليه. وذلك أنه كان يراه دينًا في نفسه، لا ينبغي له تغييره ولا
لغيره من بعده (قال ابن إسحاق) وهو الذي أنشأ الندوة، وجعل بابها إلى الكعبة،
وقد أجمعت قريش على طاعته وحبه، فكانت إليه الحِجَابة والسقاية والرفادة والندوة
واللواء، ثم وزعت المناصب بعده على الزعماء [١٤] .
وأفضل من ذلك كله ما وُقِّفُوا له في حداثة الرسول من التحالف الذي عُرِف
بحلف الفضول؛ إذ تعاقدوا وتعاهدوا أن لا يجدوا بمكة مظلومًا إلا قاموا معه،
وكانوا عونًا له على من ظلمه، إلى أن تُرَدَّ مظلمته. وفي حديث الزبير بن العوام
عند الطبراني، ومثله حديث أم هانئ في معجمه الأوسط كتاريخ البخاري (فضَّل
الله قريشًا بسبع خصال: فضَّلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبد الله إلا
قرشيّ [١٥] وفضَّلهم بأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون. وفضَّلهم بأنه نزل فيهم
سورة من القرآن لم يدخل فيها أحد من العالمين، وهي {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} (قريش: ١) - وفضلهم بأن فيهم النبوة والخلافة، والحجابة والسقاية) .
كان ذلك كله من ارتقاء قريش واستعداد العرب للإسلام، ولكن هذه القوى
المعنوية كلها وجهت لمعاداته عليه أفضل الصلاة والسلام.
***
وأما اصطفاء الله تعالى لبني هاشم، فقد كان بما امتازوا به من الفضائل
والمكارم، فقد روى أبو نعيم من حديث المستورد الفهري رضي الله عنهُ: (إن
فيهم خصالاً أربعًا: إنهم أصلح الناس عند فتنة، وأسرعهم إقامة بعد مُصيبة.
وأوشكهم كَرَّةً بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم، وأمنعهم من ظلم الملوك) . وكان
جدهم هاشم صاحب إيلاف قريش، الذي أخذ لهم العهد من قيصر الروم على
حمايتهم في رحلة الصيف، وروي أنه هو الذي سَنَّ الرحلتين، وأخذ العهود
بها من الحكومتين، حكومة اليمن العربية، وحكومة الشام الرومية، فاتسعت
بهما معيشة قريش، وأمنوا في تجارتهم من كل خوف، وقد امتن الله عليهم بذلك في
القرآن، بما عُدت به التجارة من أشرف أعمال الإنسانية، وإنما أطلق لقب
هاشم على عمرو بن عبد مناف؛ لأنه أول من هشَّم الثريد للمسنتين العجاف [١٦] ،
وكان يُشبع منه كل عام أهل الموسم كافة، كما أشبع منه قومه في سنة القحط
والمجاعة، على أن مائدته كانت منصوبة لا تُرْفَع في السراء ولا في الضراء، وزاد
عليه ولده عبد المطلب فكان يُطعم الوحش وطير السماء، وكان أول من تحنث بغار
حراء، وروى أنه حرَّم الخمر على نفسه، وجعل ماء زمزم للشرب
فحرَّم أن يُغْتَسَل به.
فجملة ما امتاز به آله صلى الله عليه وسلم على سائر قومه الأخلاق العلية،
والفواضل والفضائل النفسية، وكانوا أبعد من سائر قريش عن الكِبْر والأَثَرَة
والأمور الحربية، ولذلك غلبوا على الرياسة حتى بعد الإسلام، وحكمة ذلك ظاهرة
لأولي الأحلام، فهو أنفى للشُّبَه عن رسالته عليه أفضل الصلاة والسلام.
***
سرد نسبه صلى الله عليه وسلم
بعد هذا التذكير بمناقب قومه، والتفسير لاصطفاء الله تعالى لقبيله وآل بيته،
نُشَنِّفُ الأسماع بنسبه المحفوظ بالتفصيل، المتواتر اتصاله بنبي الله إسماعيل،
فنقول: هو سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب واسمه شيبة الحمد، ابن هاشم
واسمه الذي سماه به أبوه عمرو، ابن عبد مناف واسمه المغيرة، ابن قصي
ولُقِّب بمُجَمِّع؛ إذ جمع قريشًا في تلك الحظيرة ابن حكيم الذي لُقِّبَ ّبكلاب،
والكلاب مصدر كالمكالبة، ومعناه المجاهرة بالعداوة والمناصبة، ابن مرة والمراد به
الجلد القوي ابن كعب وهو منقول من كعب الرمح الرُّدَيني، ابن لؤي، وهو تصغير
لواء أو لأي أو لأي [١٧] ابن غالب بن فهر ومعناه الحجر الصغير [١٨] وهو
قريش على المعتمد عند الجماهير، ابن مالك بن النضر واسمه قيس، والنضر هو
الحسن المشرق الوجه، ابن كنانة ومعناه وعاء السهام من الجلد، ابن خزيمة وهو
تصغير اسم المرة من الخزم [١٩] ، ابن مدركة واسمه عامر أو عمرو، ابن إلياس بن
مضر وهو معدول عن ماضر، ومعناه اللبن الأبيض أو الحامض الخاثر، ابن نزار
من النزر ومعناه القليل، ولعله سمي به تفاؤلاً بقلة وجود مثله في ذلك الجيل، ابن
معد وهو مشتق من المعد، وهو الجذب السريع والذهاب في الأرض، وورد في
الحديث المرفوع وفي نصيحة عمر للجيش: (تعمددوا) أي تشبهوا بمعد في
خشونة العيش، ابن عدنان، وهو من عدن بمعنى أقام في المكان.
وفي حديث ابن عباس (كان عدنان ومعد وربيعة ومضر وخزيمة وأسد على
ملة إبراهيم فلا تذكروهم إلا بخير) [٢٠] وروى الزبير بن بكار من وجه آخر مرفوعًا: (ولا تسبوا مُضر ولا ربيعة فإنهما كانا مسلمين) [٢١] فهذا ما كان يسرده
الرسول من نسبه كالدر النظيم، وهو واسطة عقده عليه أفضل الصلاة والتسليم.
نسب تحسب العُلا بحُلاه ... قلدتها نجومها الجوزاء
حبذا عقد سُودد وفخار ... أنت فيه اليتيمة العصماء
***
زواج عبد الله بآمنة والحمل بالنبي وولادته
صلى الله عليه وسلم
انحصر نسل هاشم في عبد المطلب فلم يكن له سواه، ووُلد لعبد الطلب أبو
طالب والعباس وحمزة وعبد الله. وقد زوَّج عبد الله آمنة ابنة وهب بن عبد
مناف بن زهرة، زهرة أخو جده قصي بن حكيم بن مرة، وقد بنى عليها في بيت
أهلها وأقام معها فيه ثلاثة أيام، فلم تلبث أن حملت بالنبي عليه الصلاة والسلام،
ولم تجد في حمله ثقلاً ولا وحمًا كما هو شأن المحصنات الصحيحات الأجسام، وقد
روى الحاكم وصحَّحه البيهقي في مراسيل خالد بن معدان، أن الصحابة سألوه
صلى الله عليه وسلم عن هذا الشأن، فقالوا: يا رسول الله خَبِّرْنا عن نفسك. وفي
حديث أبي أمامة عند ابن سعد وأحمد وغيرهما: ما كان بدءُ أمرك؟ فقال:
(دعوة أبي إبراهيم [٢٢] ، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج
منها نُور أضاءت له بصرى من أرض الشام) وقد ثبت أن هذه رؤيا كانت في
المنام، ولكنها رؤيا صادقة لا أضغاث أحلام، وصحَّح ابن حبان أن ذلك النور
تمثل لعينيها حين أخذها المخاض فوضعته عليه أفضل الصلاة والسلام.
***
تاريخ ولادته وخبر رضاعته وحضانته
صلى الله عليه وسلم
وُلد صلى الله عليه وسلم سَوِي الخلق، جميل الصُورة صحيح الجسم، وكانت
ولادته في عام الفيل، في الليلة الثانية عشرة أو التاسعة من شهر ربيع الأول
الموافقة للعشرين من شهر إبريل، وكان ذلك العام هو الحادي والسبعين بعد
الخمس مائة من مولد المسيح عليهما الصلاة والسلام، وقد تُوفي والده وهو حمل،
فكفله جده شيبة الحمد، فأرضعته أمُّهُ ثلاث أيام، وكذا ثويبة مولاة أبي لهب عدة
أيام، وكانت نساء قريش لا يرضعن الأولاد فعهد جده بإرضاعه إلى حليمة السعدية،
وجعله في قبيلتها بالبادية؛ لينشأ في العيشة الخلوية، ثم ردته حليمة إلى أُمه بعد
أربع سنين، فحضنته إلى أن تُوفيت وله ست سنين، فأصبح صلى الله عليه وسلم
يتيم الأبوين، فكفله بعدها جده عبد المطلب سنتين، ثم تُوفي بعد أن أوصى به أبا
طالب عمه، فحاطه بعنايته كما يُحوط ولده وأهله، إلا أنه كان لفقره يعيش عيشة
القشف، فلم يتعود صلى الله عليه وسلم نعيم الترف، وذلك من عنايته تعالى بتربية
هذا المُصلح العظيم، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم.
***
معيشته في الحداثة وكسبه وزواجه
صلى الله عليه وسلم
وُلد صلى الله عليه وسلم يتيمًا، ونشأ في قومه فقيرًا، ومات والده في سن
الشباب، ولم يترك له مالاً إلا خمسة جمال وبضع نعاج، وكان قد أَلِفَ رعي الغنم
مع إخوته في الرضاع، فصار يرعى لأهل مكة، فيوفر على كافله أبي طالب بما
يأخذ على ذلك من الأجرة، ثم سافر مع عمه أبي طالب في تجارته إلى الشام، وله
من العمر اثنتا عشرة سنة وشهران وعشرة أيام، وهنالك رآه بحيرا الراهب،
وبشر به عمه أبا طالب، وحذره من اليهود عليه، بعد أن رأى خاتم النبوة بين
كتفيه، ثم إنه سافر إلى الشام مرة ثانية، مُتَّجِرًا بمال خديجة تجارة المضاربة،
فأعطته أفضل ما كانت تعطي غيره؛ إذ جاءت تلك التجارة بأرباح مضاعفة، بل
جاءت بسعادة الدنيا والآخرة.
كانت خديجة بنت خويلد بن عبد العزى بن قصي، أعقل وأجمل امرأة في
قريش، كانت تُدعى في الجاهلية [الطاهرة] ، لما لها من الصيانة والفضائل
الظاهرة، ولمَّا حدَّثها غلامها ميسرة بما رأى منه عليه الصلاة والسلام في رحلته
معه إلى الشام، من الأخلاق العالية، والفضائل السامية، وما قاله بحيرا الراهب
لعمه أبي طالب، تعلقت رغبتها بأن تتخذه بعلاً، بل تَرَقَّتْ أفكارها إلى ما هو
أعلى [٢٣] فتم ذلك الزواج الميمُون، وكان هو ابن خمس وعشرين وهي ابنة
أربعين، وتُوفيت بعد البعثة بعشر سنين، ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم عليها،
ولا أحب أحدًا مثلها، وكان طول عُمُره يذكرها، حتى كانت عائشة تغار منها ولم
ترها، قالت من حديث لها: فذكرها يومًا من الأيام، فأخذتني الغيرة فقلت له عليه
الصلاة والسلام: هل كانت إلا عجوزًا قد أبدلك الله خيرًا منها؟ فغضب ثم قال: لا
والله ما أبدلني خيرًا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس،
وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من
النساء) [٢٤] وفي صحيح مسلم عنها (أنها ما غارت على امرأة كما غارت على
خديجة وهي لم ترها) ، وعللت ذلك بكثرة ذكره إياها. قالت: وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة يقول: (أرسلوا إلى أصدقاء خديجة) فأغضبته
يومًا وقلت: خديجة! فقال: (إني قد رُزقت حبها) وفي رواية عزاها الحافظ في
الإصابة إلى الصحيح أنه قال: (إني لأحب حبيبها) [٢٥]- فهذا هو الوفاء الكامل
اللائق بذلك النبي الكريم، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))