للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

المعراج في اليقظة أم في المنام وروحاني أم لا؟
(ص٤٥ و٤٦) من صاحب الإمضاء من سبس برنيو بمصر.
حضرة فضيلة الأستاذ العلامة المفضال سيدي السيد محمد رشيد رضا صاحب
المنار الأغر، أيد الله بوجوده الإسلام , وذهبت به ظلمات الجهل والبدع المنتشرة
بين الأنام.
أهديكم عظيم تحيتي واحترامي. إن ترك المألوف أمر صعب على الناس،
لاسيما إذا رسخ في اعتقادهم وتمكن من قلوبهم، وإن كان ذلك مخالفًا للحق أو كان
عين الضلال، فلم يهن عليهم أن يتركوه؛ ولهذا آتيكم بمسألة مهمة أرجو بيانها
بالحق اليقين , وما بعد الحق إلا الضلال المبين , وهي: مسألة المعراج، فهل
وافقتم حضرة الفاضل الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي في قوله: فالأرجح عندي
أن المعراج كان رؤيا منامية كما قلنا، وفي هذه الرؤيا فرضت الصلوات الخمس؛
لأن رؤيا الأنبياء من الوحي كرؤيا إبراهيم أنه يذبح ولده. اهـ. وهل ورد في
السنة الصحيحة أن رؤيا الأنبياء صلوات الله عليهم تعتبر شرعًا، وأنها من الوحي
كما قال حضرته؟
إنني أول من يسارع إلى قبول قوله: ولو كان المعراج حصل ليلة الإسراء،
وكان جسدانيًا مثله لذكر معه في سورته، فإنه أعجب وأغرب وأدل على القدرة
الإلهية من الإسراء. اهـ. فإن عروجه صلى الله عليه وسلم بجسده الشريف
إلى السموات، مما يؤيد حجته صلى الله عليه وسلم على المكذبين له، في
إخباره إياهم بالإسراء. ولكن أشكل عليّ ما رواه الشيخان ونقله القاضي عياض في
شفائه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أتيت بالبراق وهو دابة فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه قال:
فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت
المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فأتاني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن،
فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة , ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح
جبريل، فقيل من أنت قال: جبريل، قيل: ومن معك، قال: محمد، قيل: وقد
بعث إليه، قال: قد بعث إليه , ففتح لنا، فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير.
الحديث. فما قولكم في هذا الحديث أيحتج به أم لا؟ فالمرجو من فضلكم إظهار
الحقيقة، فإن ما صرح به حضرة الدكتور مما نخاف ذكره عند عامة المسلمين،
خصوصًا عند مسلمي جاوه والملايو فإنهم يتخذون ما وصف لهم من أن السموات
خلقت من حديد ونحاس وفضة وياقوت وزبرجد و.. . واعتقادًا راسخًا , وإيمانًا
صادقًا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ب. ع
(ج) اختلف علماء السلف والخلف في الإسراء والمعراج , أكانا بالروح
والجسد أم بالروح فقط , وفي اليقظة أم في المنام , وقد كنا من أول العهد بالتمييز
نسمع ذكر هذا الخلاف في المساجد عندما تقرأ قصة المعراج في الليلة السابعة
والعشرين من رجب كل سنة. وإذ كانت المسألة خلافية فما على الباحث من سبيل
إذا ظهر له رجحان أحد الأقوال أن يقول به , وسبق لنا ذكر هذا القول في المجلد
الأول من المنار. وقد رجح بعض المحققين أن الإسراء نفسه كان روحانيًا فما بالك
بالمعراج؟
قال ابن القيم في كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد) ما نصه:
(فصل) وقد نقل ابن إسحق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا: إنما كان
الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، ونقل عن الحسن البصري نحو ذلك. ولكن ينبغي
أن يعلم الفرق بين أن يقال: كان الإسراء منامًا، وبين أن يقال: كان بروحه دون
جسده , وبينهما فرق عظيم. وعائشة ومعاوية لم يقولا كان منامًا وإنما قالا أُسري
بروحه ولم يفقد جسده وفرق بين الأمرين، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالاً
مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة، فيرى النائم كأنه قد عرج به إلى السماء
أو ذهب إلى مكة وأقطار الأرض، وروحه لم تصعد ولم تذهب وإنما ملك الرؤيا
ضرب له المثال.
والذين قالوا: عرج رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان طائفة قالت:
عرج بروحه وبدنه، وطائفة قالت: عرج بروحه ولم يفقد بدنه. وهؤلاء لم يريدوا
أن المعراج كان منامًا، وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسري بها وعرج بها حقيقة،
وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة، وكان حالها في ذلك كحالها بعد المفارقة
في صعودها إلى السمواتِ. اهـ.
وأطال في بيان الفرق، وذكر فيه حل إشكال في حديث المعراج، وهو أن
النبي صلى الله عليه وسلم رأى موسى في قبره بالكثيب الأحمر (من أرض
فلسطين) ، ورآه في السماء السادسة، ولم يعرج جسد موسى من قبره إلى السماء،
وإنما تلك روحه صلى الله عليه وسلم.
هذا وإن من أدلة القائلين بأن المعراج كان منامًا رواية شريك في صحيح
البخاري، فإنه يقول في آخر الحديث: (ثم استيقظت) والذين لا يقولون بذلك
يغلطون رواية شريك ومنهم من يقول بتعدد المعراج قال ابن القيم:
(فصل) قال الزهري: عرج بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى بيت المقدس وإلى السماء قبل خروجه إلى المدينة بسنة. وقال ابن عبد البر
وغيره: كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران انتهى. وكان الإسراء مرة واحدة
وقيل مرتين: مرة يقظة ومرة منامًا وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين
حديث شريك وقوله: (ثم استيقظت) وبين سائر الروايات. ومنهم من قال بل
كان هذا مرتين: مرة قبل أن يوحى إليه ومرة بعد الوحي كما دلت عليه سائر
الأحاديث , ومنهم من قال بل ثلاث مرات: مرة قبل الوحي ومرتين بعده , وكل
هذا خبط. وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصة
لفظة تخالف سياق بعض الروايات جعلوه مرة أخرى , فكلما اختلفت عليهم
الروايات عددوا الوقائع؛ إلى أن قال بعد تعجب من القائلين بالتعدد مما يلزمه من
القول بتعدد فرض الصلاة، وقد غلط الحفاظ شريكًا في ألفاظ حديث الإسراء.
ومسلم أورد المسند منه ثم قال: فقدم وأخر وزاد ونقص. اهـ. أقول وفي روايات
حديث المعراج: اضطراب واختلاف كثير، طالما ردوا ما وقع فيه مثله.
وحديث أنس الذي أشار إليه السائل، لا يسلم من الاضطراب والاختلاف
الذي قلناه، ولا يتسع هذا الجواب لبيان ذلك ومقابلته بالأحاديث التي منعوا
الاحتجاج بها؛ لاضطرابها واختلاف رواياتها اختلافًا لا يقبل الجمع إلا بتكلف
وتسليم ما تسلم به النفس، ولا يصدقه العقل كقول بعضهم: إن المعراج متعدد كان
بعضه يقظة وبعضه منامًا , ولا يستطيع عاقل أن يقبل أن يتعدد فرض الله الصلاة
على نبيه خمسين ومراجعته فيها، حتى يجعلها خمسًا مرارًا متعددة. ولذلك اضطر
بعض المحققين إلى الجزم بأن بعض روايات الصحيحين في المعراج غلط. ولعلنا
نبين الروايات كلها ووجوه الاختلاف والاضطراب فيها في مقال مخصوص في هذه
المسألة.
والظاهر أن الطبيب محمد توفيق صدقي رجح كون المعراج رؤيا منامية؛
لكونه أقرب إلى العقل وأبعد عن الطعن , لا للجمع بين الروايات والتوفيق بينها
فإنه لم يتتبعها. على أن القول أقرب ما يتفصي به من اختلافها الكثير. وتعدد
الرؤيا واختلاف رؤية الأنبياء في السماوات فيها لا يعد مشكلاً كتعدد ذلك في اليقظة،
وإذا صححنا رواية واحدة من هذه الروايات ورددنا ما عداها وإن كان في
البخاري، فحينئذ يكون ما قاله المحقق ابن القيم هو الأقرب، وهو أن ذلك كله كان
مشاهدة روحية، لم ينتقل فيها جسده الشريف من مكانه.
ولا يبعد أن يقع الغلط في الروايات الصحيحة السند، فإن من قل غلطه
وشذوذه لا ترد روايته ألبتة، ولا شك عند أهل العلم بالحديث في صحة رواية أنس
التي أشار إليها السائل؛ فإنها في الصحيحين ولم يبين وجه استشكاله لها , وهي لا
تدل على ما يعتقده أهل قطره من الجاوه والملايو في السموات، وكونها خلقت من
حديد ونحاس وفضة وياقوت. وما ورد في خلق مادة السموات لا يصح. وكان
الجم الغفير من علماء المسلمين يرى فيها رأي فلاسفة اليونان؛ وهو أنها أجسام
شفافة بسيطة. وما يقوله محمد توفيق صدقي تبعًا لعلماء الفلك في هذا العصر أقرب
إلى اعتقادهم، فإنهم يقولون: إنها مؤلفة من العناصر التي توجد في أرضنا ومنها
الحديد والنحاس.. إلخ.
* * *
(رؤيا الأنبياء وحي)
أما رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكونها من الوحي، فقد ثبت في
الأحاديث الصحيحة. وأول أبواب صحيح البخاري (باب كيف بدئ الوحي إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفيه حديث عائشة: (أول ما بدئ به رسول الله
صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا
جاءت مثل فلق الصبح) الحديث.
ومن هذا الباب رؤيا إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ومنه الأحاديث الصحيحة
في رؤيا المؤمن والمسلم والصالح؛ كحديث أنس وعبادة وأبي هريرة مرفوعًا
(رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة) رواه أحمد والشيخان غيرهما،
وحديث أبي سعيد عند البخاري، وعبد الله بن عمر وأبي هريرة عند مسلم
الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة ويقابل الرؤيا الصالحة
الأحلام، وما يرى الإنسان في النوم مما يحدث به نفسه عادة، وهذا التقسيم ورد
في الحديث الصحيح.
وجملة القول أن مسألة المعراج فيها الخلاف الذي عرفت، فالذي يتتبع
النصوص يرجح ما يراه أقوى وأقرب إلى الجمع بين المعقول والمنقول، ومن لا
نظر له في ذلك يقلد من يثق به أو يطمئن قلبه لقول الأكثرين، وهو أن ذلك كان
يقظة بالروح والجسد. والعبرة في المسائل الاعتقادية بما يطمئن إليه القلب. ولا
ينبغي لمثل السائل من طلاب العلم أن يكون اطمئنانه إلا بعد بحثه ونظره.
وليعلم أننا ننشر من الرسائل العلمية (كرسالة الطبيب محمد توفيق صدقي)
ما يوافق رأينا وما يخالفه، ولا نحكم رأينا في كل مسألة في تلك الرسائل إلا عند
الحاجة. وقد كان الطبيب المذكور ذاكرنا في موضوع رسالة (علم الفلك في القرآن)
قبل كتابتها، ثم ذكر فيها ما وافق رأينا وما خالفه بحسب ما ظهر له، حتى إننا
بعد طبعها في المنار ذكرنا له خطأه في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: ١٢) فلما ظهر له ذلك أذعن له كعادته، وكتب ذلك الاستدراك الذي
نشرناه له في أواخر الجزء.
* * *
(إنكار صحة حديث المعراج)
(س٤٧) من صاحب الإمضاء في صولو (جاوه)
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله القائم بحقوق الله،
وعلى آله وصحبه وناصريه وحزبه. حضرة سيدي المحترم الأستاذ محمد رشيد
رضا صاحب مجلة المنار الأغر. بعد إهدائكم أوفر التحية والإكرام، أقدم إلى
حضرتكم سؤالاً أرجو الإفادة بالجواب الشافي كما أن عادتكم شفاء الغليل، وأن
يكون في أول عدد يصدر من المنار إذا لم يكن هناك مانع، وأن لا تحيلونا على
الأجزاء والمجلدات المتقدمة؛ لكون في ذلك تفتيش أو لكون بعض المجلدات لا
يوجد عندنا.
(السؤال) طالعت في الجزء الخامس من السنة الثانية من الهداية لصاحبها
عبد العزيز جاويش، فعثرت على سؤال وجواب في قصة الإسراء والمعراج بنبينا
محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الجواب ما يشعر أن الإسراء روحي أي رؤيا
منامية، واستدل بحديث عائشة ومعاوية، وأن أحاديث المعراج موضوعة بدليل ما
فيها مما جرى له صلى الله عليه وسلم من مراجعة ربه عز وجل، وتردده بينه
وبين نبي الله موسى، وغير ذلك مما رواه الشيخان في صحيحيهما، وأن ذلك من
الأباطيل والألاعيب والأكاذيب والأقاويل المنتحلة التي يجب أن ينزه الله ورسوله
عنها. فهل صاحب الهداية مصيب في جوابه أم مخطئ؟ وهل إذا كانت رؤيا
منامية أن يستعظم أمرها وتستحيلها العقول، فقد بلغنا أنه صلى الله عليه وسلم لما
حدث بالإسراء والمعراج افتتن كثير ممن أسلم، ومنهم من ارتد وازداد المكذبون
تكذيبًا.
... ... ... ... ... ... ... ... سالم بن أحمد باوزير
(ج) أما قول الشيخ جاويش: إن الإسراء روحي، فهو شيء سبقه إليه
غيره. وأما قوله: إن أحاديث المعراج موضوعة، فهو حكم بمحض الرأي، لم
يبن على قاعدة من قواعد الجرح والتعديل، فالحديث متفق عليه بين المحدثين لا
خلاف في صحته، وإنما وقع الخلاف في سياقه ومعناه. وقد علمتم الفرق بين
القول بأن ذلك كان في الرؤيا، وأن ذلك كان روحيًّا مما نقلناه عن المحقق ابن القيم
وإذا كانت الرؤيا لا تقتضي الافتتان والارتداد الذي نقل، فعروج الروح إلى السماء
مع بقاء تعلقها بالجسد في الأرض، لا يبعد أن يكون من أسباب افتتان الضعفاء
وتقول السخفاء , والله سبحانه يقول: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً
لِّلنَّاسِ} (الإسراء: ٦٠) فكيف مع هذا يقول قائل: إن الرؤيا لا تكون فتنة.
* * *
أسئلة من فوندق فادغ (جاوه)
(س٤٨-٥٣) من صاحب الإمضاء.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
سيدي الأستاذ الفاضل العلامة السيد محمد رشيد رضا دام فضله آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فالمرجو من إسداء مراحمكم وإلينا وإلى
البلد الذي عم فيه الجهل وامتد فيه الكسل، أن تنقذوا أهلها من غيابة الجهل، وأن
ترحمونا بتقطيع حبل الجراءة والملل بتحرير هذه الأسئلة، وكشف نقاب الجواب
عنه كي لا يجهل. ثم إن رأيتم إدراجها في صحيفة المنار الأفخم، فلكم الفضل
والإحسان وإلا فرأيكم الأعلى، أو تفضلوا بجواب على سبيل المراسلة والمخابرة
بواسطة البوستة. (ألا وهي) .
(١) هل كلفنا الشارع بلباس معين، بحيث يعد مرتكب غيره من أنواع
الملابس خارجًا عن الدين، كما أفتى به أكثر علماء بلدنا، ومع ذلك أنهم لم يبينوا
ضابط ما يجب منه وما يحرم، وحجتهم فيه حديث: من تشبه بقوم فهو منهم فهل
هذا الحديث من جملة الأحاديث التي يصح الاستدلال بها أم لا وأيضًا فما هي حقيقة
التشبه؟
(٢) هل يختل إيمان أحد من المؤمنين بمحض لبس البرنيطة المعروف
على مقدم قلنسوة الإفرنجي، وبلبس وصل الخرقة المربوطة في الحلقة فوق الثياب
كما هو لباس الإفرنجي والتركي أيضًا. وبالأول يقول أكثر علماء بلدنا وحجتهم فيه
أن البرنيطة والخرقة المسماة بالزنار من خصوصية لباس الإفرنجي، وقد نهى
الشرع عن لباس ذلك الزنار.
(٣-٤) هل لنا قول من أقوال العلماء أو مذهب من مذاهب أهل السنة
والجماعة؛ يجوز تعليق صور الحيوان على نحو الجدار أو الأستار المرتفعة أم لا؟
وهل الكسب الحاصل على يد المحترف بالآلة المعروفة المسماة بالفوتغراف حرام
أم حلال؟
(٥) هل يحرم سماع آلة الملاهي مطلقًا أم يجوز مطلقًا؟ أم لذلك تفاصيل؟
(٦) إن الأصوليين قد قالوا: إن الأحكام تدور مع علتها وجودًا وعدمًا؛
فبناء على ذلك، فإن في الإحياء ذكروا لتحريم نحو المزامير ثلاثة علل: إحداها
أنها تدعو إلى شرب الخمر. الثانية: أنها في حق قريب العهد بشرب الخمر تذكر
مجلس الأنس بالشرب. الثالثة: أن الاجتماع عليها لما أن صار عادة أهل الفسق،
فيمنع من التشبه بهم. فإذا انتفت تلك العلل كيف الحال وقتئذ، فيا سيدي حرروا لنا
ما في السؤال، فإنها قد أوقعتنا في الإشكال والجدل، ولكم منا كثير الشكر ومن الله
المتعال جزيل النوال.
... ... ... ... ... ... ... ... الراجي من ألطافك
... ... ... ... ... ... ... ... حاج عبد الله أحمد
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فوندق فادغ
(اللباس في الإسلام)
أما الجواب عن الأول والثاني - وهما بمعنى واحد - فهو أن الإسلام لم يكلف
الناس أن يلبسوا لباسًا معينًا بكيفية مخصوصة إلا في الإحرام بالحج أو العمرة،
ومن مقاصدهما أن يكون الإنسان فيهما بعيدًا عن الترف والعادات المألوفة بارزًا في
زي الإنسان الأول في البساطة والسذاجة البدوية، على أن من لا يلبس لباس
الإحرام لا يعد خارجًا من الإسلام، وإنما يعد مخالفًا لواجب من واجبات الإحرام
التي يكون مساويًا بها لسائر القائمين معه بتلك العبادة، ويجب عليه فدية تكون
كفارة لهذا التقصير. ولم يقل أحد من علماء السلف ولا الخلف: إن الشارع كلف
المسلمين زيًّا مخصوصًا في غير الإحرام، وقد ثبت في حديث البخاري أن النبي
صلى الله عليه وسلم لبس الجبة الرومية من لباس الروم، وفي صحيح مسلم أنه
صلى الله عليه وسلم لباس الطيالسة الكسروية من ملابس المجوس. وقد فصلنا
القول في هذه المسألة في المجلد السادس، وعدنا إليها في غيره لكثرة السؤال عنها
(راجع ص٦١ و١١٣ من مجلد السنة الماضية) وما كنت أظن أن من يوصفون
أو يسمون بالعلماء في بلد السائل يتجرؤون على تكفير من يخالفهم في لبسهم؛
كالزي الإفرنجي الذي يلبسه الملايين من الترك والتتار والعرب المصريين
والسوريين وغيرهم.
إن أمثال هؤلاء الذين سماهم جهلاء قومهم علماء، قد جعلوا الإسلام
والمسلمين سخرية بأمثال هذه الفتاوى والأقوال التي جعلوا بها بعض العادات هي
جوهر الدين، وهم يرون عقائد الإسلام وأخلاقه وآدابه ومقاصده العالية تنتقض
عروة عروة، فلا ينكرون من ذلك شيئًا حتى إنهم وضعوا نواقيس النصارى في
مساجدهم، وجعلوا ذلك موضع خلاف , وما حرموا على المسلمين إلا ما يرتفع به
شأن الأمم من العلوم والفنون والأعمال , وبعض العادات التي تقتضيها طبيعة بعض
البلاد، ثم إنهم يتبرؤون من الاجتهاد بمعنى الاهتداء بالكتاب والسنة تارة،
ويستدلون بالحديث على ما لا يدل عليه كحديث السؤال من تشبه بقوم فهو منهم وقد
بينا في ص٦١ من مجلد السنة الماضية ما قيل في ضعفه وتصحيحه ومعناه وكونه
لا يدل على ما ذكروه.
(اتخاذ الصور وتعليقها على الجدر)
سبق لنا ذكر هذه المسألة في المنار غير مرة، منها جواب سؤال من
الإسكندرية، نشر في ص١٤٠ من المجلد الخامس وهذا نص الجواب فيه:
(ج) اختلف العلماء في اتخاذ الصور فقيل: إنه محرم مطلقًا, وقيل: إن
المحرم منها ما له ظل، وأما ما لا ظل له فلا بأس باتخاذه , وقيل: إن المحرم هو
ما اتخذ بهيئة التعظيم، وهذا أقوى الأقوال عندي لوجهين: أحدهما حديث عائشة
عند أحمد والبخاري ومسلم؛ وهو أنها نصبت سترًا وفيه تصاوير، فدخل رسول
الله صلى الله عليه وسلم ونزعه. قالت: فقطعته وسادتين، فكان يرتفق عليهما
وفي لفظ لأحمد (فقطعته مرفقتين، فلقد رأيته متكئًا على إحداهما وفيها صورة)
المرفقة: المتكأ والمخدة.
ولو كانت الصورة ممنوعة لذاتها لأزالها من المرفقة , وإنما هتك الستر لأنه
كان منصوبًا كالصورة المعبودة، فهو يذكر بها وفيه تشبه بعابديها. ثانيهما: العلة
الحقيقية في النهي عن التصوير والصور المعظمة؛ وهي محاكاة عباد الأصنام لا ما
قالوه من أن فيها محاكاة خلق الله، فإن هذه العلة تقتضي تحريم تصوير الشجر
والجماد، وقد نقل بعضهم الإجماع على حله؛ فإذا انتفت العلة انتفى المعلول والله
أعلم اهـ.
وبينا في فتوى أخرى أنه لمثل هذه العلة نهى النبي صلى الله عليه وسلم
عن زيارة القبور في أول الإسلام، ثم رخص فيها بشرط أن تكون للعبرة وتذكر
الآخرة؛ لأن ذلك المعنى التعبدي الوثني كان قد زال، فإذا قلت: إن الحكم يدور
مع علته وجودًا وعدمًا، وعلمت أن أهل هذا الزمان لا يتخذون الصور للعبادة ولا
تذكرهم رؤيتها بعبادتها ولا عابديها؛ إلا ما يكون في معابد الوثنيين، وبعض
طوائف النصارى، وفي بعض بيوتهم من صور المسيح وأمه عليهما السلام،
وبعض حوارييه رضي الله عنهم، إذا قلت هذا القول وعلمت هذا العلم، وظهر لك
أن الذريعة التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم سدها بنزع ذلك الستر، كان لك
أن تقول: إنه لا يظهر لتعليق صور من لا يعظم تعظيمًا دينيًّا وجه للحظر.
ومن الفقهاء من بحث في اتخاذ الصور من وجوه أخرى؛ كتحقيق معنى
الصورة، وهي صورة الحيوان الكامل الخلقة، فقالوا: إن الصورة إذا كانت غير
تامة لا يمتنع اتخاذها بالتعليق ولا بغير التعليق، وعبر بعضهم بالمنع من الصورة
التي يعيش مثلها، وجعلها هي الممنوعة دون التي لا يعيش مثلها، وكنت أرى
بعض المشايخ المتورعين إذا أتى بورقة فيها صورة، وكانت من الأوراق التي
يحتاج إلى استعمالها كما تراه كثيرًا في الأوراق وغير الأوراق من متاع أوربة،
يأخذ الموسى بيده فيحزّ في الورقة رأس الصورة حزًّا، ويقول: الآن لا يعيش
مثلها. وكنت ولا أزال أتعجب من هذا العمل.
وذهب بعضهم في بيان حظر تصوير الحيوان إلى أن علته مضاهاة خلق الله
تعالى، وقصد ذلك بدليل ما ورد في الحديث الصحيح دالًّا على ذلك، وهذا لا يأتي
في متخذ الصورة بل في المصور.
قال القسطلاني في شرحه للبخاري بعد كلام في ذلك: والحاصل كراهة
صورة حيوان منقوشة على سقف جدار أو وسادة منصوبة أو ستر معلق أو ثوب
ملبوس, وأنه يجوز ما على الأرض أو بساط يداس أو مخدة يُتكأ عليها ومقطوع
الرأس وصورة شجرة. والفرق أن ما يُوطأ ويطرح مهان مبتذل، والمنصوب
مرتفع يشبه الأصنام. ا. هـ.
وهذا هو التعليل الصحيح كما قدمنا، وقد زالت العلة الآن ولاسيما فيما يتخذ
من الصور لأجل العلم؛ كالطب والتشريح والتاريخ الطبيعي أو لمصالح الدول
والحكومات؛ كصور جواسيس الحرب والمجرمين أو تحقيق الشخصية لمصالح
كثيرة.
(الكسب بآلة الفونغراف)
وأما الجواب عن الرابع؛ فهو أنه لا يظهر وجه لتحريم كسب صاحب آلة
الفونغراف؛ والأصل في الأشياء الحل.
(سماع آلات الملاهي)
وأما الجواب عن الخامس، فقد فصلنا القول فيه تفصيلاً في أول المجلد
التاسع من المنار في جواب (الأسئلة الجاوية) ، وهي خمسة أسئلة تتعلق بالسماع،
فذكرنا في جوابها أحاديث الحظر التي يستدل بها المحرمون مع تخريجها، وأدلة
الإباحة مع تخريجها، وخلاف العلماء في الغناء والمعازف (آلات الطرب)
وأدلتهم. ثم بحثنا في السماع من جهة القياس الفقهي ومن جهات أخرى، وكان
حاصل الجواب:
(١) إنه لم يرد نص في الكتاب ولا في السنة في تحريم سماع الغناء
وآلات اللهو يحتج به.
(٢) ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه سمعوا
أصوات الجواري والدفوف بلا نكير.
(٣) الأصل في الأشياء الإباحة.
(٤) ورد نص القرآن بإحلال الطيبات والزينة وتحريم الخبائث.
(٥) لم يرد نص عن الأئمة الأربعة في تحريم سماع الآلات.
(٦) كل ضار في الدين والعقل أو النفس أو المال أو العرض، فهو من
المحرم ولا محرم غير ضار.
(٧) من يعلم أو يظن أن السماع يغريه بمحرم حرم عليه.
(٨) إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
(٩) إن تتبع الرخص والإسراف فيها مذمون شرعًا وعقلاً.
(١٠) إذا وصل الإسراف في اللهو المباح إلى حد التشبه بالفساق، كان
مكروهًا أو محرمًا.
فإذا اكتفى السائل بهذا الإجمال فيها، وإلا فليرجع إلى التفصيل في المجلد
التاسع من ص٣٥ إلى ٥١ ومن ١٤١ إلى ١٤٧.
وبما تقدم يستغنى عن جواب السؤال السادس، وإذا راجع التفصيل الذي
أشرنا إليه في مسألة السماع، يجد ما يشفي في مسألة تعليل الغزالي لتحريم نحو
المزامير والله أعلم.