نشرت في ص٢٦٨ - ٢٧٤ م١١ ج٤ منه المؤرخ ٢٩ ربيع الآخر سنة ١٣٢٦ (س١) من الشيخ أحسن شاه أفندي أحمد (من روسيا) حضرة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا نرجو أن تعيروا جانب الالتفات لهذه المسألة المهمة: والحج والزكاة، والعمل بكتب فقه الأئمة الأربعة التي وصفها بأنها مملوءة بالنفاق والشقاق، وزعم أن العمل بها غير جائز، ثم قال في صفات (قوم جديد) ما نصه: (وأما القوم الجديد فإنهم لا يبالون بمثل هذه الخرافات القديمة، بل استخرجوا من الأحكام القرآنية والحديثية الأركان الدينية الآتية: (١) العقل. (٢) كلمة الشهادة. (٣) الأخلاق الحسنة. (٤) الجهاد مالاً وبدنًا والحرب. (٥) السعي لإعداد لوازم الحرب.. . إلخ. ثم بسطنا هذه المسائل من وسائل ومقاصد في المجلد التاسع عشر، وقد صدق كل ما قلناه وارتأيناه من مقاصد ملاحدة الترك ما فعلته الحكومة الكمالية من إلغاء الأحكام الشرعية كلها، وجعل جميع سياستها وأحكامها حتى الشخصية مدنية أوربية، وإلغاء المحاكم الشرعية، والأوقاف الإسلامية، والمدارس الدينية، دع إلغاء ما عمل باسم الدين من المبتدعات كتكايا أصحاب الطرق مقلدة المتصوفة إلخ، صدقوا بالفعل كل ما قلناه من مقاصدهم، وكان بعض المسلمين الجاهلين بحال الدولة التركية وتأثير التفرنج فيها ينكرون علينا ما نقوله عن علم وخبرة وغيرة على الإسلام، ظنًّا منهم أنه إضعاف للدولة حامية الإسلام، وإنما كان حرصًا على تقوية الدولة بالإسلام وتقوية الإسلام بالدولة؛ لأننا نعلم ما لا يعلمون من إفضاء هذه الضلالات والعصبية الجنسية إلى إضاعة هؤلاء المتعصبين المفتونين للإسلام وللدولة معًا؛ وكذلك كان. وقد كان بعض الترك الروسيين استفتانا في مسألة الترجمة قبل أن نعلم بهذا الغرض الفاسد فأفتيناه فيها لذاتها، إذ لم يكن يخطر ببالنا أن أحدًا من المسلمين يتوسل بذلك إلى إخراج شعب إسلامي من الإسلام - وهذا نص السؤال والجواب: ذكر الفاضل أحمد مدحت أفندي من علماء الترك العثمانيين في كتابه (بشائر صدق نبوت) ما ترجمته: إن ترجمة القرآن مسألة مهمة عند المسلمين، وجميع المباحثات التي دارت بشأن ترجمة هذا الكتاب المجيد لم ترس على نتيجة، وذلك لوجوه: (الأول) : أن ترجمته بالتمام غير ممكنة لإعجازه من جهة البلاغة. (والوجه الثاني) : أن فيه كثيرًا من الكلمات لا يوجد لها مقابل في اللغة التي يترجم إليها، فيضطر المترجم إلى الإتيان بما يدل عليها مع شيء من التغيير، ثم إذا نقلت هذه الترجمة إلى لغة أخرى يحدث فيها شيء من التغيير أيضًا وَهَلُمَّ جَرًّا، فيخشى من هذا أن يفتح طريق لتحريف القرآن وتغييره. (الوجه الثالث) : أن كلمات الكتب السماوية يستخرج منها بعض إشارات وأحكام بطريق الحساب، فإبدالها بالترجمة يسد هذا الطريق، مثال ذلك أن سعدي جلبي كتب في حاشيته على البيضاوي عند تفسير سورة الفاتحة أنه إذا أخرجت الحروف المكررة من سورة الفاتحة التي هي أول القرآن، وسورة الناس التي هي آخر سورة، تكون الحروف الباقية ثلاثة وعشرين قال: وفي ذلك إشارة إلى مدة سني النبوة المحمدية، فإذا ترجم القرآن لا يبقى في الترجمة مثل هذه الفوائد التي هي من جملة معجزاته، انتهى، (من بشائر صدق نبوت) . أما أدباؤنا معشر الترك الروسيين، فإنهم مصرون على ترجمته ويقولون: لا معنى للقول: بأنه لا تجوز ترجمة القرآن إلا إيجاب بقائه غير مفهوم، فلذا يذهبون إلى وجوب ترجمته، وهو الآن يترجم في مدينة قزان، وتطبع ترجمته تدريجًا، وكذلك تشبث بترجمته إلى اللسان التركي زين العابدين حاجي الباكوي أحد فدائية القفقاز، فنرجو من حضرة الأستاذ التدبر في هذه المسألة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... حرره الإمام الحقير ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحسن شاه أحمد ... ... ... ... ... ... ... ... الكاتب الديني السماوي (جواب المنار له) إن من تقصير المسلمين في نشر دينهم أن لا يبينوا معاني القرآن لأهل كل لغة بلغتهم، ولو بترجمة بعضه [١] ، لأجل دعوة من ليس من أهله إليه، وإرشاد من يدخل فيه عند الحاجة بقدر الحاجة، وإن من زلزال المسلمين في دينهم أن يتفرقوا إلى أمم، تكون رابطة كل أمة منها جنسية نسبية أو لغوية أو قانونية، ويهجروا القرآن المنزل من الله تعالى على خاتم رسله، المعجز بأسلوبه وبلاغته وهدايته، المتعبد بتلاوته، اكتفاء بأفراد من كل جنس يترجمونه لهم بلغتهم بحسب ما يفهم المترجم. هذا الزلزال أثر من آثار جهاد أوربا السياسي والمدني للمسلمين، زين لنا أن نتفرق وننقسم إلى أجناس، ظانًّا كل جنس منا أن في ذلك حياته، وما ذلك إلا موت للجميع، ولا نطيل في هذه المسألة هنا، ولكننا نذكر شيئًا مما يخطر في البال من مفاسد هجر المسلمين للقرآن المنزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: ١٩٥) - استغناءً عنه بترجمة أعجمية يغنيهم عنها تفسيره بلغتهم، مع المحافظة على نصه المتواتر، المحفوظ من التحريف والتبديل - مع مراعاة الاختصار فنقول: (١) إن ترجمة القرآن ترجمة حرفية تطابق الأصل متعذرة كما يعلم من المسائل الآتية، والترجمة المعنوية عبارة عن فهم المترجم للقرآن، أو فهم من عساه يعتمد هوعلى فهمه من المفسرين، وحينئذ لا تكون هذه الترجمة هي القرآن، وإنما هي فهم رجل للقرآن يخطئ في فهمه ويصيب، ولا يحصل بذلك المقصود المراد من الترجمة بالمعنى الذي ننكره. (٢) إن القرآن هو أساس الدين الإسلامي، بل هو الدين كله؛ إذ السنة ليست دينًا إلا من حيث إنها مبينة له. فالذين يأخذون بترجمته يكون دينهم ما فهمه مترجم القرآن لهم، لا نفس القرآن المنزل من الله تعالى على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - والاجتهاد بالقياس إنما هو فرع عن النص، والترجمة ليست نصًّا من الشارع، والإجماع عند الجمهور لا بد أن يكون له مستند والترجمة ليست مستندًا. فعلى هذا لا يسلم لمن يجعلون ترجمة القرآن قرآنًا شيء من أصول الإسلام. (٣) إن القرآن منع التقليد في الدين، وشنع على المقلدين فأخذ الدين من ترجمة القرآن هو تقليد لمترجمه، فهو إذًا خروج عن هداية القرآن لا اتباع لها. (٤) يلزم من هذا حرمان المقتصرين على هذه الترجمة مما وصف الله به المؤمنين في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} (يوسف: ١٠٨) ، وأمثالها من الآيات التي تجعل من مزايا المسلم استعمال عقله وفهمه فيما أنزل الله [٢] . (٥) كما يلزم حرمانهم من هذه الصفات العالية يلزم منع الاجتهاد والاستنباط من عبارة المترجم؛ لأن الاجتهاد فيها مما لا يقول به مسلم. (٦) أن من عرف لغة القرآن، وما يحتاج إليه في فهمه كالسنة النبوية وتاريخ الجيل الأول الذي ظهر فيه الإسلام يكون مأجورًا بالعمل بما يفهمه من القرآن وإن أخطأ في فهمه؛ لأنه بذل جهده في الاهتداء بما أنزله الله هداية له، كما يعلم ذلك من معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه فيما فهموه من كيفية التيممم، إذ عذر المختلفين في فهمها والعمل بها، ومثله معاملته لهم فيما فهموه من نهيه عن صلاة العصر إلا في قريظة، ولذلك شواهد أخرى، ولا أخال مسلمًا يجعل لعبارة مترجم القرآن هذه المزية. (٧) إن القرآن ينبوع للهداية والمعارف الإلهية لا تخلق جدته، ولا تفتأ تتجدد هدايته , وتفيض للقارئ على حسب استعداده حكمته , فربما ظهر للمتأخر من حكمه وأسراره ما لم يظهر لمن قبله، تصديقًا لعموم حديث (فرُب مبلغ أوعى من سامع) ، وترجمته تبطل هذه المزية، إذا تقيد القارئ بالمعنى الذي صوره المترجم بحسب فهمه، مثال ذلك أن المترجم قد يجعل قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر: ٢٢) من المجاز بالاستعارة؛ أي: إن اتصال الريح بالسحاب، وحدوث المطر عقب ذلك يشبه تلقيح الذكر للأنثى وحدوث الولد بعد ذلك كما فهم بعض المفسرين، فإذا هو جرى على ذلك بأن فرضنا أنه لا يوجد في اللغة التي يترجم بها لفظ يقوم مقام (لواقح) العربي في احتمال حقيقته ومجازه إذا أطلق، فإن القارئين يتقيدون بهذا الفهم، ويمتنع عليهم أن يفهموا من العبارة ما هي حقيقة فيه، وهو كون الرياح لواقح بالفعل، إذ هي تحمل مادة اللقاح من ذكور الشجر إلى إناثه، فإن لم ينطبق هذا المثال على القاعدة لتيسر ترجمة الآية ترجمة حرفية، فإن هناك أمثلة أخرى، وحسبنا أن يكون هذا موضحًا، والترجمة تقف بنا عند حد من الفهم، يعوزنا معه الترقي المطلوب. (٨) ذكر الغزالي في كتاب (إلجام العوام عن علم الكلام) أن ترجمة آيات الصفات الإلهية غير جائزة، واستدل على ذلك بما هو واضح جدًّا، وقد ذكرنا عبارته في تفسير {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آل عمران: ٧) ، وبين أن الخطأ في ذلك مدرجة للكفر [٣] . (٩) ذكر الغزالي في الاستدلال على ما تقدم أن من الألفاظ العربية ما لا يوجد لها فارسية تطابقها - أي: ومثل الفارسية التركية وغيرها - فما الذي يفعله المترجم في مثل هذه الألفاظ، وهو إن شرحها بحسب فهمه ربما يوقع قارئ ترجمته في اعتقاد ما لم يرده القرآن؟ (١٠) قد ذكر في ذلك أيضًا أن من الألفاظ العربية مالها فارسية تطابقها (لكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني التي جرت عادة العرب باستعارتها لها) ، فإذا أطلق المترجم اللفظ الفارسي يكون هنا مؤديًا المعنى الحقيقي للفظ العربي؟ وربما كان مراد الله هو المعنى المجازي، ومثل الفرس غيرهم من الأعاجم، وهذا المقام من مزلات الأقدام إذا كان الكلام عن الله عز وجل وصفاته وأفعاله. (١١) ذكر أيضًا في هذا المقام: أن من هذه الألفاظ ما يكون مشتركًا في العربية، ولا يكون في العجمية كذلك، فقد يختار المترجم غير المراد لله من معنيي المشترك، ولا يخفى ما فيه، وقد مر نظيره آنفًا. (١٢) من المقرر عند العلماء أنه إذا ظهر دليل قطعي على امتناع ظاهر آية من آيات القرآن فإنه يجب تأويلها حتى تتفق مع ذلك الدليل، والفرق بين تأويل ألفاظ القرآن وتأويل ألفاظ ترجمته لا يخفى على عاقل، لا سيما في الآيات المتشابهة والألفاظ المشتركة. (١٣) إن لنظم القرآن وأسلوبه تأثيرًا خاصًّا في نفس السامع لا يمكن أن ينقل بالترجمة، وإذا فات يفوت بفوته خير كثير، فيا طالما كان جاذبًا إلى الإسلام، حتى قال أحد فلاسفة أوربا وهو فرنسي نسيت اسمه: إن محمدًا كان يقرأ القرآن بحال مؤثرة تجذب السامع إلى الإيمان به، فكان تأثيره أشد من تأثير ما ينقل عن غيره من الأنبياء من المعجزات، وحضر الدكتور فارس أفندي نمر مرة الاحتفال السنوي لمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بالقاهرة، فافتتح الاحتفال تلميذ بقراءة آيات من القرآن، فقال لي الدكتور فارس أفندي: إن لهذه القراءة تأثيرًا عميقًا في النفس، ثم لما كتب خبر الاحتفال في جريدته (المقطم) كتب ذلك، فإذا كان لتلاوة القرآن هذا التأثير حتى في نفس غير المؤمن به، فكيف نحرم منها المسلمين بترجمة القرآن لهم. (١٤) إذا ترجم القرآن التركي والفارسي والهندي والصيني إلخ، فلا بد أن يكون بين هذه التراجم من الخلاف مثل ما بين تراجم كتب العهد العتيق والعهد الجديد عند النصارى [٤] ، وقد رأينا ما استخرجه لهم صاحب إظهار الحق من الخلافات التي كنا نقرؤها، ونحمد الله تعالى أن حفظ كتابنا من مثلها، فكيف نختارها بعد ذلك لأنفسنا؟ (١٥) إن القرآن هو الآية الكبرى على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو الآية الباقية من آيات النبيين، وإنما يظهر كونه آية باقية محفوظة من التغيير والتبديل، والتحريف والتصحيف، بالنص الذي نقلناه عمن جاء به من عند الله، والترجمة ليست كذلك. هذا ما تراءى لنا من الوجوه المانعة من ترجمته للمسلمين؛ ليكون لهم قرآن أعجمي بدل القرآن العربي، وإذا كان بعض هذه الوجوه مما يمكن إدخاله في البعض - وإنما ذكر هكذا لزيادة الإيضاح - فإن هناك وجوهًا أخرى يمكن استنباطها لمن تأمل وفكر في وقت صفاء الذهن وصحة البدن، بل منها ما تركناه مع تذكره. وأما دعوى القائلين بوجوب ترجمته أن عدم جواز الترجمة يستلزم إيجاب بقائه غير مفهوم فهي ممنوعة، فإننا نقول: إن فهمه سهل، ولكن ليس لأحد أن يجعل فهمه حجة على غيره فكيف يجعله دينًا لشعب برمته، وإن لاهتداء المسلم الأعجمي بالقرآن درجتين: درجة دنيا خاصة بالعوام الذين لا يتيسر لهم طلب العلم فيحفظون الفاتحة وبعض السور القصيرة؛ لأجل قراءتها في الصلاة، ويترجم لهم تفسيرها، وتقرأ أمامهم في مجالس الوعظ بعض الآيات، ويذكر لهم تفسيرها، بلغتهم كما جرى عليه كثير من الأعاجم حتى ببلاد الصين، ودرجة عليا للمشتغلين بالعلم، وهؤلاء يجب أن يتقنوا لغته، ويستقلوا بفهمه مستعينين بكلام المفسرين غير مقلدين لأحد منهم. إن الأعاجم الذين دخلوا في الإسلام على أيدي الصحابة الكرام قد فهموا أن للإسلام لغة خاصة به، لا بد أن تكون عامة بين أهله؛ ليفهموا كتابه الذي يدينون به ويهتدون بهديه، ويعبدون الله بتلاوته، ولتتحقق بينهم الوحدة المشار إليها بقوله فيه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (الأنبياء: ٩٢) ، ويكونوا جديرين بأن يعتصموا به، وهو حبل الله فلا يتفرقوا، ولتكمل فيهم أخوة الإسلام التي حتمها عليهم بقوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: ١٠) ؛ ولذلك انتشرت اللغة العربية في البلاد التي فتحها الصحابة بسرعة غريبة مع عدم وجود مدارس ولا كتب ولا أساتذة للتعليم، واستمرت الحال على ذلك في زمن الأمويين في الشرق والمغرب، وفي أول مدة العباسيين حتى صارت العربية لغة الملايين من الأوربيين والبربر والقبط والروم والفرس وغيرهم في ممالك تمتد من القاموس المحيط الغربي (الأتلانتيك) إلى بلاد الهند، فهل كان هذا إلا خيرًا عظيمًا تآخت فيه شعوب كثيرة، وتعاونت على مدنية كانت زينة للأرض، وضياءً ونورًا لأهلها؟ ثم هفا المأمون في الشرق هفوة سياسية، حركت العصبية الجنسية في الفرس؛ فأنشئوا يتراجعون إلى لغتهم، ويعودون إلى جنسيتهم، وجاء الأتراك ففعلوا بالعصبية الجنسية ما فعلوا، فسقط مقام الخلافة، وتمزق شمل الإسلام بقوة ملوك الطوائف، ولكن لم تصل الفتنة بالناس إلى إيجاد قرآن أعجمي للأعاجم وإبقاء القرآن العربي المنزل خاصًّا بالعرب، بل بقي الدين والعلم عربيين وراء إمامهما الذي هو القرآن. فالواجب على دعاة الإصلاح في الإسلام الآن أن يجتهدوا في إعادة الوحدة الإسلامية إلى ما كانت عليه في الصدر الأول خير قرون الإسلام، وأن يستعينوا على ذلك بالطرق الصناعية في التعليم، فيجعلوا تعلم العربية إجباريًّا في جميع مدارس المسلمين، ويحيوا العلم بالإسلام بطريقة استقلالية، لا يتقيدون فيها بآراء المؤلفين في القرون الماضية المخالفة لطبيعة هذا العصر في أحوالها المدنية والسياسية، ولكننا نرى بعض المفتونين منا بسياسة أوربا يعاونونها على تقطيع بقية ما ترك الزمان من الروابط الإسلامية بتقوية العصبيات الجنسية، حتى صار بعضهم يحاول إغناء بعض شعوبهم عن القرآن المنزل! ألا إنها فتنة في الأرض وفساد كبير، وقى الله المسلمين شره، فهذا ما أقوله الآن في ترجمة القرآن للمسلمين دون تفسيره لهم بلغتهم مع بقائه إمامًا لهم، ودون ترجمته لدعوة غيرهم به إلى الإسلام، مع أن المترجم بين المعنى الذي يفهمه هو. انتهت الفتوى. وملخص هذه الفتوى: إن ترجمة القرآن ترجمة حرفية متعذر، ويترتب عليه مفاسد كثيرة، فهو محظور لا يبيحه الإسلام؛ لأنه جناية عليه وعلى أهله، ولا يجوز أن تسمى الترجمة قرآنًا ولا كتاب الله، ولا أن يسند شيء منها إليه تعالى فيقال: قال الله كذا؛ لأن كتاب الله وقرآنه عربي بالنص القطعي والإجماع الشرعي، من سلف أهل الملة كلهم وخلفها لا الإجماع الأصولي المختلف فيه، ولأنها ليس لها شيء من خصائص القرآن اللفظية ولا المعنوية كالإعجاز، وهي لا بد أن تكون مخالفة له في المعنى كمخالفتها في اللفظ، فإسنادها إليه تعالى كذب عليه وكفر بكتابه، بل أجمع المسلمون على أنه لا يجوز إبدال لفظ من ألفاظ المصحف بلفظ آخر يرادفه من اللغة العربية: ككلمتي شك وريب في قوله تعالى: {ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: ٢) ، وأما الترجمة المعنوية التي هي عبارة عن تفسير ما يحتاج إلى تفسيره منه بلغة أخرى فغير محرم، وإنما تتبع فيه المصلحة الشرعية بقدرها. *** أقوال الفقهاء في المسألة ترجمة القرآن وقراءته وكتابته بغير اللغة العربية [*] المعوَّل عليه عند الأئمة وسائر العلماء أنه لا يجوز كتابة القرآن ولا قراءته ولا ترجمته بغير العربية مطلقًا، إلا فيما نقل عن أبي حنيفة وصاحبيه من جواز قراءة القرآن بالفارسية في خصوص الصلاة، وإليك بعض النصوص في ذلك: قال شيخ الإسلام أبو حسن المرغيناني الحنفي في التجنيس: ويمنع من كتابة القرآن بالفارسية بالإجماع؛ لأنه يؤدي إلى الإخلال بحفظ القرآن، لأنا أمرنا بحفظ اللفظ والمعنى فإنه دلالة على النبوة، ولأنه يؤدي إلى التهاون بأمر القرآن اهـ. وقال في معراج الدراية: من تعمد قراءة القرآن أو كتابته بالفارسية فهو مجنون أو زنديق، والمجنون يداوى، والزنديق يقتل، وروي ذلك عن أبي بكر محمد بن الفضل البخاري اهـ. وفي الدراية: إن القرآن اسم للنظم والمعنى جميعًا بالإجماع، وقد أنزل حجة على النبوة، وعلمًا على الهدى، والهدى بمعناه، والحجة بنظمه. وكما أن الإخلال بالمعنى يسقط حكم القراءة، كذلك الإخلال بالنظم، ولأن حفظ القرآن واجب في الجملة؛ ليكون حجة على الحكم، ولا قراءة تجب إلا في الصلاة، فعلم أنها متعلقة بعين ما أنزل ليقع الحفظ بها اهـ. وروي عن الإمام أبي حنيفة كما في الهداية وغيرها: جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة مطلقًا، وعن الصاحبين: إذا كان لا يحسن العربية، أما إذا كان يحسنها فلا يجوز، وتفسد صلاته إذا قرأ بغير العربية. وروى أبو بكر الرازي رجوع الإمام إلى قولهما وعليه الاعتماد , وقال الإمام الزاهدي في الجامع الصغير: إن ما نقل عن أبي حنيفة وصاحبيه من أن القراءة بالفارسية تفسد الصلاة؛ لمن قدر على العربية، أما عند العجز فلا فساد (محله) إذا قرأ بالفارسية كل لفظ بما هو في معناه من غير أن يزيد فيه شيئًا، أما إذا قرأ على سبيل التفسير فتفسد صلاته بالإجماع اهـ. وهو تفييد حسن؛ لأنه حينئذ يكون متكلمًا بكلام غير القرآن من كلام الناس وهو مفسد للصلاة. وأصل الاختلاف في ذلك كما بدائع الصنائع وأحكام القرآن لحجة الإسلام الجصاص قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ} (المزمل: ٢٠) ، حيث أمر بالقراءة، والأمر للوجوب، ولا موضع لوجوب القراءة غير الصلاة، فوجب أن يكون المراد القراءة في الصلاة، فذهب الصاحبان إلى أنه إذا قرأ بالفارسية وهو يحسن العربية، فقد قرأ ما ليس بقرآن، فقد خرج عن عهدة الأمر؛ لأن الفارسي ليس قرآنًا، والقرآن هو المنزل بلغة العرب، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ} (يوسف: ٢) ، وأيضًا فالقرآن هو المعجز، والإعجاز من جهة اللفظ يزول بزوال النظم العربي، فلا يكون الفارسي قرآنًا لانعدام الإعجاز، ولهذا لم تحرم قراءته على الجنب والحائض، غير أنه إذا كان لا يحسن العربية، فقد عجز عن مراعاة لفظه فيجب عليه مراعاة معناه؛ ليكون التكليف بحسب الإمكان اهـ؛ والمراد مطلق المعنى، وإلا فمعنى النظم المعجز لا تؤديه الترجمة كما هو ظاهر. ولا يعنينا الآن بيان وجه استدلال الإمام بالآية على ما ذهب إليه بعد أن صح رجوعه إلى قول الصاحبين. فظهر أن قول الثلاثة بجواز قراءة القرآن بغير العربية في الصلاة لمن لا يحسنها ليس مبناه أن الترجمة تصير قرآنًا عند العجز عن أدائه بالعربية، فيفرض عليه ذلك في هذه الحالة، بل المفروض عليه حينئذ تعلم العربي؛ لأنه القرآن المأمور به في الصلاة، وإنما هو مبني على الاكتفاء بالمعنى في حقه لعجزه، ولأنه الميسور له من معنى القرآن الذي هو مجموع النظم والمعنى المأمور به في الصلاة، ولما كان أداء المفروض موقوفًا على النظم العربي، وليس ذلك ميسورًا له أتى بالترجمة بدلاً عنه لتقوم مقامه في أداء المعنى المفروض، مع أنها ليست قرآنًا، لأن القرآن هو كلام الله، المنزل بلغة العرب، والترجمة ليست كذلك، وفي الدراية: قراءة غير العربي تسمى قرآنًا مجازًا، ألا ترى أنه يصح نفي القرآن عنه فيقال: ليس بقرآن وإنما هو ترجمته، وإنما جوزناه للعاجز إذا لم يخل بالمعنى؛ لأنه قرآن من وجه باعتبار اشتماله على المعنى، فالإتيان به أولى من الترك مطلقًا؛ إذ التكليف بحسب الوسع اهـ. وظاهر أن مسألة القراءة في الصلاة شيء، ومسألة ترجمة القرآن وقراءته بغير اللغة العربية مطلقًا شيء آخر، والكلام في الثاني دون الأول، ولا يلزم من جواز الأول - على فرض تسليمه - جواز الثاني، حتى ينسب إلى الإمام وصاحبيه القول بجواز ترجمة القرآن وقراءته خارج الصلاة، وكتابته بغير اللغة العربية، وكيف ذلك وقد أجمعت كتبهم على أن الخلاف في خصوص الصلاة، وأصله أن الأمر بالقراءة إنما هو في الصلاة دون غيرها كما أطبقوا على أنه المراد في قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ} (المزمل: ٢٠) ، والقرآن المعروف هو اللفظ المنزل بلغة العرب خاصة. وفي شرح أصول البزدوي للإمام عبد العزيز بن أحمد البخاري الحنفي: والقرآن اسم للنظم والمعنى جميعًا في قول عامة العلماء، وهو الصحيح من قول أبي حنيفة، إلا أنه لم يجعل النظم ركنًا لازمًا في جواز الصلاة خاصة، وإنما هو لازم فيما سواه من الأحكام الأخرى، كوجوب الاعتقاد، وحرمة كتابة المصحف بالفارسية، وحرمة المداومة والاعتياد على القراءة بها اهـ. وقد نقل أن الإمام رجع عن هذا القول في الصلاة أيضًا إلى القول بعدم جواز الصلاة بالفارسية مطلقًا، فيكون النظم ركنًا لازمًا عنده في كل حالة كما ذكره العلامة الألوسي في تفسيره عند قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} (الشعراء: ١٩٦) ، بناءً على عود الضمير إلى القرآن باعتبار معناه، وفي رواية عنه تخصيص الجواز بالفارسية؛ لأنها أشرف اللغات بعد العربية، وفي أخرى إنها إنما تجوز بالفارسية في الصلاة للعاجز عن العربية، وقد صحح رجوعه عن القول بجواز القراءة بغير العربية مطلقًا جمع من الثقات المحققين لضعف الاستدلال بهذه الآية عليه كما لا يخفى، فإن الظاهر عود الضمير في الآية على القرآن بتقدير مضاف؛ أي: وإن ذكر القرآن في الكتب المتقدمة، وهذا كما يقال: إن فلانًا في دفتر الأمير اهـ؛ ملخصًا. ومن هذا يعلم ما في استدلال بعضهم بقول الإمام على جواز ترجمة القرآن بأي لغة خارج الصلاة وداخلها للقادر والعاجز؛ لأنه على رواية التخصيص بالفارسية لا تجوز بغيرها مطلقًا، وعلى رواية رجوعه إلى قول صاحبيه لا تجوز خارج الصلاة مطلقًا، ولا للقادر في الصلاة، وعلى رواية الثقات عنه تجوز مطلقًا بغير العربية في الصلاة وغيرها للقادر والعاجز، والمعول عليه رأيه الأخير الذي صح رجوعه إليه كما هو رأي الجماعة، فكيف يصح الاستدلال بقوله على جواز ترجمة القرآن مطلقًا؟ اهـ. (ص٣١- ٣٦) . (للبحث بقية)