للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المحاورات بين المصلح والمقلد

المحاورة الثالثة
تأثير الاعتقاد بقرب الساعة , أخذ العرب حساب الجمل عن غيرهم
الطريق المضبوط في استعماله , تاريخ الأئمة الأربعة , إنكار ذلك في القرآن
مناظرة سنيّ وشيعيّ , البحث في حديث اليهود السابق , وعدم صحته , إنكار
المتكلمين ذلك الحساب في أوائل السور , السريانية ولغة الملائكة , الاتفاق
في صحة ذلك الحساب , كشف الأولياء في الساعة ومقدماتها , جغرافية الآخرة
وخرائطها , الأحاديث في الساعة وشرائطها , عمر الدنيا , الأحاديث الموضوعة
والمنكرة في ذلك , وغرض واضعها. تحرير المقال في ذلك.
عاد الشيخ الواعظ , والشاب المصلح إلى المحاورة متفقين على أن لا يقبل
أحد منهما قولاً للآخر إلا بدليل صحيح , واستأنفا الكلام في مسألة قرب قيام الساعة
وطرق الاستدلال عليها؛ لأن هذه المسألة قد أضرت بالمسلمين , وكانت مكسلةً لهم
عن العمل , وموطنة نفوسهم على الرضى بالضيم , والذل لما يلغط به الوعاظ
الجهلاء في كل عصر من قرب قيامها , ومن أنه لا بد أن يتقدمه ضعف الدين ,
وتلاشي المسلمين , وابتدأ الشاب الكلام فقال:
(المصلح) : لا أنكر أن هذا الشيء الذي يسمونه الجمّل قديم , وأنه انتقل
إلى العرب من السريانيين , والعبرانيين , ولكن دلالته ليست عقليةً , ولا طبيعيةً ,
وإنما تكون بالمواضعة والاصطلاح , ولم يتفق للعرب , ولا لغيرهم اصطلاح
يصحح أن تؤخذ أيّة كلمة , وتحسب ويُحْكَم بعددها على أنه تحديد لزمن أمة من
الأمم في وجودها , أو استقلالها , بل لا يوجد في اللغة رموز حسابية , أو غير
حسابية تدل على الحوادث المستقبلة , وقصارى ما يمكن أن يستفاد من هذا الحساب
بطريقة وضعية اصطلاحية يفهمها كل من يعرف الاصطلاح الوضعي فيها هو نحو
ما جرى عليه الناس من التأريخ بها بأن تذكر كلمة , أو كلام يعيّن بوقوعه بعد لفظ
مخصوص كالألفاظ المركبة من مادة (أرخ) , ويجعل ما يحصل من حروفها
بالجمل بيان سنة حدث فيها شيء يراد توقيته , ومعرفته , ولا بد من ذكر ذلك
الشيء بعبارة يفهم منها كل من تلقى إليه ما يراد منها , ومن هذا النحو قول بعضهم
في بيان تاريخ مولد الأئمة الأربعة المجتهدين , ووفاتهم , ومدة حياتهم , وهو:
تاريخ نعمان يكن سيف سطا ... ومالك في قطع جوف ضبطا
٨٠ ١٥٠ ٧٠ ... ٩٠ ١٧٩ ٨٩

والشافعي صين ببر ند ... وأحمد بسبق أمر جعد
١٥٠ ٢٠٤ ٥٤ ... ١٦٤ ٢٤١ ... ٧٧

فخذ على ترتيب نظم الشعر ... ميلادهم فموتهم فالعمر
فلولا البيت الأخير الذي أرشد إلى المراد لما اتضح لقارئه وسامعه وحينئذ لا
تكون دلالته صحيحة , ولا يصح أن يقصد العاقل ما ليس بصحيح لأنه لغو فكيف
يصح أن يكون مثل هذا اللغو مضافًا إلى كتاب الله تعالى وهو نقص ومناف للبيان
الذي وصف الله به القرآن بمثل قوله تعالى: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ} (الشعراء: ١-٢) وقوله عز وجل: {حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ} (الزخرف: ١-
٢) فلو كانت هذه الحروف رموزًا ومُعَمَّيَات لما وُصلتْ بهذا الوصف الشريف الذي
هو من أخص أوصاف القرآن. وقد أنكر علماء الكلام أن يكون في القرآن كلام
غير مفهوم للناس , واستدلوا على ذلك بالنقل والعقل فلا يصح للمقلد أن يترك
كلامهم , وهم حماة العقائد , وأنصار الدين لكلام القصاصين , والدجالين , وأذكر
لك لطيفة جرت مع بعض الأدباء في دلالة الكلمات بالتحكم في حساب الجمل , وهو
أن شيعيًّا اسمه حَمَد ناظر أحد الأدباء فاحتج عليه بحساب الجمل , وموافقة بعض
كلمات القرآن فيه لما أراد على نحو ما ذكرت لي في الاستدلال على قيام الساعة
سنة ١٤٠٧ للهجرة بقوله تعالى: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} (الأعراف: ١٨٧) فقال
له ذلك الأديب: هل تقبل مثل هذا الاستدلال؟ قال: نعم. قال: إذن أنت كلب؛
لأن حرف حمد ٥٢ في هذا الحساب وحروف كلب كذلك. فقال حمد: إن اسمي
الصحيح أحمد قال الأديب: إذن أنت أكلب فخجل وانقطع عن المناظرة.
وأما ما روي عن اليهود وذكرته في مجلسنا الماضي فلا يصح , وقد أخذه
المفسرون الذين لا يتحرَّون في النقل من كتب السير والمغازي كسيرة ابن إسحق
وأكثر ما في تلك الكتب لا يعتمد عليه كما علمت. وقد رأيت في شرح الإحياء ما
نصه: (وقال السهيلي: لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر
للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة. قال الحافظ ابن حجر: وهذا باطل لا يعتمد عليه ,
فقد ثبت عن ابن عباس النهي عن (أباجاد) والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر ,
وليس ذلك ببعيد فإنه لا أصل له في الشريعة) , ولو سلمنا صحته رواية لكان لنا
أن نبحث فيه من حيث الدراية بمثل ما ذكرناه مختصرًا وأطال فيه بعض المتكلمين
والمفسرين كالإمام الرازي على أنه لا يدل على ما ذكرت , إذ يجوز أن يكون ما
أجاب به صلى الله عليه وسلم ياسرًا , وحيًّا ابنَيْ أخطب مرادًا به إبطال دلالتهما
ودحض شبهتهما لعلمه بأنهما يقصدان التلبيس والإيهام فاضطرهما إلى التصريح
بالتلبيس حيث قال حيٌّ: (قد لبّس علينا أمرك يا محمد) .
(المقلد) : إن في بعض كلامك حجة عليك وهو قولك أن أباجاد الذي هو
أصل حساب الجمّل مأخوذ من اللغة السريانية وهي لغة الملائكة فأي مانع يمنع أن
يكون في القرآن شيء من لغة الملائكة يدل على الأمور الغيبية ويكون فهمه
مخصوصًا بالخواص الذين يعرفون كلام الملائكة كالأنبياء والأولياء؟ فقد روي عن
سيدي القطب الغوث الشيخ عبد العزيز الدباغ قدس الله سره العزيز أن أهل الديوان
الباطني لا يتكلمون إلا بالسريانية لاختصارها فإن الحرف الواحد منها يدل على
معانٍ كثيرة لا سيما حروف أوائل السور ولعلك اطلعت على هذا في كتاب
(الذهب الإبريز) .
(المصلح) : إنني لم أعن بقولي: (السريانيين) الملائكة , وإنما أعني
جيلاً من الناس أمرهم معروف في التاريخ كانوا يسمون يوم السبت أبجد , ويوم
الأحد هوّز , والإثنين حطي , والثلاثاء كلمن , والأربعاء سعفص , والخميس
قرشت , والجمعة العروبة , وقد وضع السريان هذه الكلمات مشتملة على حروف
الهجاء عندهم , وأخذها العرب عنهم وأضافوا إليها كلمتين مؤلفتين من باقي حروف
الهجاء العربية التي لا توجد في اللغة السريانية وهما: ثخذ وضظغ وسموها
الروادف أي اللواحق , ووافقوا السريان أيضًا في ضبط مراتب الحساب بها
وزادوا عليهم بما في لغتهم من الحروف الزائدة بجعل كل حرف يزيد على ما قبله
١٠٠، فالثاءُ ٥٠٠، والخاء ٦٠٠ إلخ وساعدهم الجدُّ أن وافق الحرف الأخير (غ)
آخر مراتب العدد عندهم وهو الألف , وزعم بعض المؤرخين أن العرب كانوا
يسمون أيام الأسبوع بما ذكرناه عن السريان أيضًا.
أما الملائكة فاعتقادي فيهم أنهم عالم روحاني غيبي وأن قياسهم على عالم
المادة الذي يتفاهم عقلاؤه بأصوات تكيفها الحروف قياس غير صحيح , أو كما
يقول الأصوليون قياس مع الفارق , وأن كل ما غاب علمه عن الناس ولم ينله
كسبهم لا يقبل فيه إلا قول عالم الغيب , وليس عندي نص قطعي في تفاهم الملائكة
وتخاطبهم. وأما ما ذكرت عن أهل الديوان الباطني فلا أخوض فيه الآن بل أدعه
للبحث التفصيلي في أمراض الأمة الإسلامية أن دخلت معي فيه , وأكتفي الآن بأن
أقول إن ما ذكرت عنهم لا تقوم عليه حجة مرضية ولا بينة شرعية , فإن خالفتني
طالبتك بالنص.
(المقلد) : إنني أعلم منك تعظيم شأن الوقائع الوجودية وكثيرًا ما سمعتك
تقول: إن الذي لا ينطبق على ما في الوجود ولا يمثل حقيقة الواقع فهو خيال
ووسواس من وساوس النفوس وأوهامها يجب طرحه وإهماله وتسميته جهلاً وإن
سماه المبتلون به علمًا إلا ما أخبر به المعصوم من علم الغيب فيسلم به من غير
بحث فيه ولا قياس عليه بشرط واحد وهو أن يكون جائزًا في نظر العقل. وإنني
أحتج عليك بهذا فقد كان لي تلميذ في الأزهر دخل مدرسة دار العلوم وتعلم فيما
يتعلمون فيها التاريخ , وولع به حتى كنت أنهاه عن الإيغال فيه إذا اتفق لي
الاجتماع به لقول بعضهم: إن مطالعة كتبه تؤدي إلى التشيع وبغض سيدنا معاوية
رضي الله عنه. ولما رأيتك تحتج بالتاريخ وتعتبره حتى كأنه فقه جئته في هذه
الأيام وسألته: هل يوجد في التاريخ أن أحدًا استدل على بعض الأمور بحساب
الجمل وأصاب؟ فقال: نعم استخرج بعضهم من قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} (الروم: ١-٢) أن البيت المقدس يفتحه المسلمون في سنة ٥٨٣ فكان كما قال
ومنذ سمعت هذه الواقعة خطر لي أن أحتج عليك بها , ولكنني كنت أتوقع الرد
عليَّ بأن كلام المؤرخين لا يحتج به على رأيي أنا حتى ذكرت ذلك لبعض علماء
الحنفية فقال: إن هذه الرواية مذكورة في البحر, وعبارته هكذا - وأخرج الشيخ
من جيبه ورقة وقرأ فيها ما نصه - (كان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي
عن أبي الحكم بن برجان أنه استخرج من قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي
أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} (الروم: ١-٤)
افتتاح المسلمين بيت المقدس معينًا زمانه ويومه , وكان إذ ذاك بيت المقدس قد
غلبت عليه النصارى , وأن ابن برجان مات قبل الوقت الذي عينه للفتح , وأنه بعد
موته بزمان افتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم) فتعين الاعتماد على
هذا والأخذ به.
(المصلح) : أراك نسيت أننا اتفقنا على أن لا يقبل أحدنا من الآخر دعوى
بدون دليل , وليس من الدليل في شيء ذكر الدعوى في أحد الكتب وتسليم أحد
العلماء بها. وما استخرجه أبو الحكم يجري عليه حكم قولنا من قبل أنه لا يعرف له
وجه مضبوط في الدلالة , فلا تلجئني إلى التكرار. نعم إن العلم الصحيح هو ما
أثبته الوجود , وإن التاريخ هو الذي يحكي عن علم الإنسان ولكن التاريخ إنما يثبت
لنا الوقائع الجزئية ونحن نحكم عليها بما يعطينا العقل من القواعد العامة , فإذا
صحت رواية أبي الحكم فصحتها لا تثبت لنا قاعدة عامة وهي على ما هي عليه من
الإبهام والغموض بل هي إلى الاتفاق الذي يسمونه (الصدفة) أقرب.
(المقلد) : وماذا تقول فيما ثبت بالكشف عن الأولياء؟
(المصلح) : أقول بقول العلماء الأصوليين وهو أنه حجة على من قام عنده
لا يصح الاحتجاج به على غيره. ثم إننا إذا نظرنا فيما نقل عن أهل الكشف من
الأخبار عن الملاحم وما يجري في العالم من الحدثان نرى أقوالهم متضاربة
متعارضة وقد ظهر كذب أكثره.
(المقلد) : إذا سلمنا لك هذا فيحتمل أن يكون ما ظهر كذبه لم يصح عنهم,
أو أنه مما نقل عن الذين اشتهروا بالصلاح والولاية ولم يصلوا إلى مقام الكشف
الكامل أما مثل الإمام الشعراني الذي اطلع على الموقف والجنة والنار مثل شيخه
الخواص والشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي فلا أظن أنهم أخبروا بشيء إلا
وظهر كما قالوا إن كان قد جاء وقته وإلا فسوف يظهر.
(المصلح) : نحن لم نطلع على الآخرة فنطبق عليها ما ذكره الشعراني من
جغرافية الموقف وما فيه , وما رسمه من الخرائط للصراط والميزان والجنة والنار
مما لا نعرف له دليلاً من كتاب ولا سنة ولا عقل ولا حكمة , ومن العجيب أن أكثر
شيوخهم يرغبون عن جغرافية الدنيا المشهورة النافعة وينكرونها ويرغبون في
جغرافية الآخرة المغيبة ويسلمون بها تسليمًا.
وأما ما جاء في كتبه من الإخبار عن الفتن والملاحم وما يكون قبل الساعة
فجله أو كله منقول عن كتب الشيخ محيي الدين بن عربي , وقد صرح هذا بأن
المهدي كان موجودًا في زمنه وذكر وقائعه معه. وفي كلامه عنه إشارات ورموز ,
ومما اشتهر منها قوله: إنه يظهر بعد مضي ج ف خ وهي بحساب الجمّل ٦٨٣ أي
أن ظهوره يكون قبل انتهاء القرن السابع , ونحن الآن في القرن الرابع عشر. وإذا
لم تقتنع بهذا الشاهد فإنني أعززه بكثير من الأمثال.
(المقلد) : انني أغض النظر عن كل هذا إلا الأحاديث المروية في الكتب
المعتبرة فإنها وإن لم تكن متواترة بحيث يجب اعتقادها على كل مسلم ويكفر
منكرها فإن من يصح عنده الحديث ويطمئن قلبه له يكون بالنسبة إليه كالمتواتر ,
ولا يسعه إلا الاعتقاد بمضمونه ولما رأيتك مطلعًا على كتب الحديث ولا تقبل منها
إلا ما تصح روايته اضطررت إلى المراجعة عن حديث تأخير الأمة إلى يوم
ونصف من أيام الآخرة فوجدت أن أبا داود روى عن سعد بن أبي وقاص رضي الله
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم) قيل لسعد: وكم
نصف اليوم؟ قال: خمسمائة سنة , وأما حديث: (إن أساءت أمتي فلها يوم , وإن
أحسنت فلها يوم ونصف) فلم أقف على تخريجه إلا أنني أتذكر أنني تلقيته عن
بعض العلماء الصالحين , وأرجو أن أجد له سندًا صحيحًا.
(المصلح) : إن أبا داوود يروي أحيانًا للضعفاء , وقد طعن في كثير من
رجاله وإذا سلمت لك صحة هذا الحديث من حيث السند فما قولك بمخالفته للواقع؟
وقد قالوا: إنها من آيات الوضع لأن الكلام الذي لا يطابق الواقع هو الكذب ,
والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم معصوم عن الكذب , فإن قلت: إنما يكون مخالفًا
للواقع إذا لم يمكن التأويل وهو ممكن لأن العدد لا مفهوم له كما تقرر في الأصول.
أقول: إن هذا التأويل يبطل استدلالك بالحديث كيفما روي.
(المقلد) : جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أجلكم
في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى غروب الشمس) فإذا كانت مدة الدنيا
من عهد آدم إلى عهد نبينا عليهما الصلاة والسلام ٥٥٠٠ سنة كما هو منصوص في
بعض كتب التفسير وفي قصص الأنبياء فثلثها يكون قريبا من ألف وتسعمائة وما
بين العصر والمغرب ينقص عن الثلث لا سيما إذا اعتبرنا أن أول النهار الصبح
كما هو مقتضى الشرع في الصوم وغيره من الأحكام الكثيرة , فإذا قلنا: إن مدة الدنيا
سبعة آلاف سنة كما ورد أيضًا في الكتب المذكورة آنفًا يقتضي أن يضاف إلى
الخمسة آلاف وخمسمائة سنة ألف وخمسمائة أخرى وهي مقدار ما بين العصر
والمغرب تقريبًا يكون المجموع سبعة آلاف سنة , فيوافق بعضُ النصوص بعضًا ,
وربما كان ما قلنا إنه تقريبي تحديديًّا عند الله تعالى ويقويه موافقة النصوص فيه.
ويصح أن يكون هذا مؤيدًا لاستنباط ذلك العالم الصالح الذي لا يبعد عندي أن يكون
من أهل الكشف , ويكون المراد من إتيان الساعة بغتة أي سنة ١٤٠٧ إتيان
مقدماتها وأشراطها الكبرى كالمهدي وانتشار الضلال ويصح قولي الأول.
(المصلح) : اعلم أيها الأستاذ - ولا تؤاخذني بقول اعلم - أن من أهل
الملل من دخل في الإسلام في العصر الأول عن غير بينة ولا اعتقاد , وتظاهروا
بالتمسك به لأجل أن يوثق بهم وتقبل رواياتهم فيما قصدوه من إفساد عقائده وإدخال
الدخائل التي تثير الفتن وتفسد الأخلاق في تعاليمه , وقد اعتنى بعضهم بإقناع
المسلمين بأن دينهم قصير الأمد ومدة بقائهم في الدنيا قليلة؛ ليوقعوا هذه الأمة في
هاوية اليأس ويثبطوا هم أفرادها عن السعي في الفتوح ومد ظل السيادة والسلطة
على رءوس الأمم أو يشككوهم في دينهم فابتدعوا طريقًا جديدة في الاستدلال
بالكتاب والسنة وهي ما بينا إبطاله , ووضعوا أحاديث كثيرة في ذلك يناقض بعضها
بعضًا اهتدى المحدثون المحققون رضي الله عنهم إلى وضع بعضها ودخل عليهم
الغش في بعض آخر لتظاهر رواته بالصلاح.
فمما صرحوا بوضعه أو ضعفه حديث: (عند رأس المائة سنة يبعث الله
ريحًا باردة طيبة تقبض روح كل مؤمن) . قال بعضهم: إنه باطل قد كذبه الوجود
وقال ابن عدي: فيه بعض الضعف ولكن الحاكم أخرجه في المستدرك وصححه.
وفي معناه حديث مسلم عن أبي سعيد مرفوعًا: لا يأتي مائة سنة وعلى الأرض
نفس منفوسة اليوم , ورواية أخرى له عن جابر مؤكدة بالقسم. وهذا أقرب إلى
التأويل , فقد قالوا: إن المراد به انقضاء الجيل.
ومما قطعوا ببطلانه حديث: لا يولد بعد المائة مولود لله فيه حاجة قال الإمام
أحمد: ليس بصحيح , كيف وكثير من الأئمة ولد بعد ذلك. وحديث: زينة الدنيا
سنة خمس وعشرين ومائة قالوا: هو موضوع. وحديث: إن دين النبي صلى الله
عليه وسلم لا يبقى بعد وفاته إلى القيامة ألف سنة قال الإمام النووي: باطل لا
أصل له. وأنا لا أعتقد بصحة حديث فيه تحديد قيام الساعة؛ لأن القرآن مصرح
بأنه مما استأثر الله بعلمه {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ
رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِ لاَ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ
كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الأعراف:
١٨٧) فلو كان المراد بلفظ (بغتة) تحديد وقتها لما كان للحصر قبله وبعده معنى.
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأما حديث الصحيحين فهو يدل على أن ما بقي من عمر الدنيا يعد بالألوف
أو بالملايين لأن ما ذكرت من تحديد عمر الدنيا بسبعة آلاف سنة هو من
الإسرائيليات التي لا ثقة بها , وإنما يوثق بما ثبت بالبحث العلمي في طبقات
الأرض وآثار الإنسان فيها , وهو مقدر بالملايين من السنين لا بالألوف. ولا ينافيه
حديث: بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى لأن المراد به التقريب
النسبي.
(المقلد) : وماذا تقول بحديث مسلم: لا تقوم الساعة إلاَّ على شرار الخلق
مع ملاحظة فساد أخلاق المسلمين وإعراضهم عن العمل بدينهم.
(المصلح) : لِمَ تذكر هذا وتنسى ما رواه مسلم أيضًا من حديث أبي هريرة
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض حتى
يخرج الرجل زكاة ماله فلا يجد أحدًا يقبلها منه وحتى تعود أرض العرب مروجًا
وأنهارًا وفي روية أخرى له قال: (تبلغ المساكن إهاب أو يِهاب) وإهاب بقعة
خارج المدينة المنورة يعني أن العمران يتسع فيبلغها. فأين استعداد جزيرة العرب
لهذا اليوم , ومتى أخذت به فمتى يتم؟ ثم انصرفا على موعد سنشرح ما يكون فيه
إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))