للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تحول الكنيسة الإنكليزية عن التقاليد النصرانية

جاء في جريدة الديلي إكسبريس التي صدرت في لندن بتاريخ ٢١ نوفمبر
سنة ١٩٢٥ تحت هذا العنوان ما ترجمته:
القسيس أنج ينكر المعجزات
قنبلة مصوبة إلى قلب الكنيسة
اتركوا التضليل
اعتقاد التلاميذ (الحواريين) : أن المسيح نزل في جوف الأرض , ثم قام من
قبره في اليوم الثالث , وصعد إلى السماء بجسده.
قال القسيس أنج:
أليس من اللائق بالكنيسة أن تفكر في هذه المشكلة التي ظلت نحوًا من ٤٠٠
سنة وهي ترغم الناس على الاعتقاد بها؟
من الراجح أن ما أحدثه أكبر مناقشة دينية منذ أيام (بوسي) و (ينومان) هو
كتاب جديد اسمه: (العلم والدين والحقيقة) يصوب به صاحبه القس (أنج) قنبلة
تصيب شظاياها جميع الكنائس المسيحية.
ويطالب هذا القس الكنيسة بأن تدع التضليل جانبًا، وأن تنبذ كثيرًا من تعاليمها
التقليدية القديمة , كما يطالب بترك فكرة وجود سماوات بالمعنى الذي اصطلح عليه
الجغرافيون , ويبني على ذلك عدم الاعتقاد بصعود جسم المسيح كما يرى أن هذه
المسألة مرتبطة ارتباطًا تامًّا بمسألة البعث نفسها , وهو يوافق العلماء (نسبة إلى قسم
علمي) في رفضهم للمعجزات كأنها إيقاف لقانون دنيء بقانون أرقى منه، ومع أنه
يتجنب البحث في مسألة مولد المسيح , فإن قراء كتابه قد يصلون إلى أن القس يرفض
الاعتراف بهذا الأمر كما ينكر الصعود أيضًا، وهو فوق ذلك يقترح الابتعاد التام عن
نسبة صفات البشر إلى الله.
وكتابه هذا (الذي تقوم بنشره مطبعة شلدون) يتكون من ثماني مقالات بقلم
أساتذة مشهورين في موضوعات وأبحاث علمية ودينية، وله مقدمة بقلم اللورد بلفور،
ويتلو ذلك ملخص مؤلف من ٤٠ صفحة شائقة بقلمه هو.
ويقول اللورد بلفور بأنه: ليس بين القراء من يعتقد أن الكتاب المقدس ليس إلا
كتابًا تاريخيًّا ومرجعًا للعلوم الكونية لا يمتاز عن غيره إلا بأنه موحى به، وبذلك
يكون منزهًا عن الخطأ، ويضيف إلى ذلك أن القس أنج يسلم بأنه موحى به، وأما
مسألة تنزيهه عن الخطأ فينكرها ألبتة.
ويعلن القس أنج في صراحة تامة وبلا أدنى خوف أن هناك معركة اشتد وطيسها
بين العلم والدين، وأن أصل هذه المعركة يرجع في الحقيقة إلى اكتشاف أن الأرض
تدور حول الشمس، وفي الأربعة القرون التالية لذلك الاكتشاف وصفت الكنيسة
البحث في المشاكل الدينية التي أثارها هذا الاكتشاف جانبًا، فلم يبذل أي مجهود
لتخفيف العبء عن كاهل العالم المسيحي الذي أثقل عقله وضميره.
وحقيقة ما يقصده (أنج) أن بعض العقائد المسيحية أصبحت لا يمكن التصديق
بها علميًّا؛ فلا يمكن التصديق بها دينيًّا، وهو يقول:
(إن هؤلاء القساوسة الذين يصرون على أنه ليس ثمة تناقض بين العلم والدين
إما أن يكونوا ذوي عقول ضيقة، أو متعامين عن الحقيقة، والحق الواقع أن هناك
صراعًا عنيفًا بين العلم والدين لا يرجع تاريخه إلى أيام داروين، ولكنه يرجع إلى
عهد كوبرنيكوس وغاليليو) .
***
الخريطة المسيحية
ويقول: (إن التوصل إلى معرفة أن الأرض ما هي إلا كوكب يدور حول
الشمس التي هي نفسها واحدة من ملايين الأجرام السماوية، ذلك الاكتشاف قد مزق
النظرية المسيحية التي تقول بأن الأرض هي مركز العالم، وأنها كطبق يحدده غطاؤه.
وإلى ذلك الوقت كان الناس سواء منهم العالم والجاهل يصورون العالم كبناء
ذي ثلاث طبقات أعلاها السماء مسكن الإله والملائكة والأرواح الطاهرة، ويتلو هذه
الطبقة الأرض التي نسكنها، والطبقة السفلى مسكن الشيطان وأتباعه، وحيث تعذب
الأرواح الشريرة في سجنها، وكان للجنة والنار في عرفهم حقيقة جغرافية.
وتؤكد العقائد الدينية مسألة نزول المسيح إلى الجحيم، ثم صعوده إلى السماء
ومن الواضح الجلي أن مسألة بعث المسيح بجسده مرتبطة تمامًا بمسألة صعوده
بجسده أيضًا، وعلى ذلك فقد مست العلوم الكونية بالعقائد الدينية مساسًا عظيمًا.
ويزيد على ذلك أن الكنيسة إنما بشرت بهذه التعاليم؛ لأنها نقلتها حرفيًّا عن
نصوص الإنجيل، ويستدل على ذلك بالنص الإنجيلي القائل: (إن المسيح قد صعد
إلى السماء حيث هو الآن بلحمه وعظامه، وكافة الأشياء المتعلقة بالكيان الإنساني
البشري الطبيعي.
ونظرية أن المسيح ناسوتًا ولاهوتًا، والتي تقول بأن جسد المسيح في السماء
ينكرها تناقضها مع القانون القائل: باستحالة وجود الجسم الطبيعي في أكثر من مكان
واحد في وقت واحد.
كما أن نظرية كوبرنيك الفلكية، وكافة معلوماتنا عن السماء التي بنيت على هذه
النظرية لا تدع مجالا للقول بوجود سماء جغرافية.
وهو يقول: يخيل إلي أن الفراغ السماوي لا نهائي، ولا يمكنني أن أتصور أنه
قد وقع الاختيار على أحد هذه النجوم والسدم والكواكب المنتثرة بلا نظام في رقعة
السماء؛ لتكون مقرًّا للخالق، ومكانًا لأورشليم السماوية.
ويضيق إلى ذلك قوله: (أما القول بوجود مكان سفلي مخصص للتعذيب فقد
اندثر وانمحى بدون أن يكلف العلم مشقة الإجهاز عليه) .
وهناك مشكلات أخرى في مسألة الزمن، ولكن الذين يقولون بحيوية هذه
المسألة قليلون، وإن المسيحي الذي رفض بنظرية الوحي اللفظي لا يجد صعوبة في
تصديق نظرية النشوء والارتقاء.
على أن النظرية القديمة لا تزال مضطربة فقد قرأت منذ زمن يسير كتابًا يعتبر
من أهم كتابنا اللاهوتيين فوجدت فيه هذه الجملة: (إن المسيحيين لم يعودوا يعتقدون
بوجود سماء محلية فوق رءوسنا) , وقد رحبت بهذا الاعتراض على وجود سماء
جغرافية؛ لصدوره من رجل يعتبر من أئمة الأرثوذكسية ودعائمها.
ولشد ما عجبت عندما علمت أن الكاتب قد ادعى أني ألحقت به وبسمعته ضررًا
عظيمًا لحذفي بعض كلماته، ولكني لا أنكر أنه قال: بأنه يعتقد بوجود سماء محلية
(ولكنها ليست فوق رءوسنا) (ولكن غاب عنه أن الأرض تدور) .
وقد قال إمام آخر في الأمور اللاهوتية في معرض حديثه عن صعود المسيح:
(إن كلمة: إلى السماء قد يمكن أن تحمل على المجاز، ولكن يلزم أن نعتقد أن جسد
المسيح الطبيعي قد رفع إلى مسافة شاسعة البعد عنا) .
وإني لأتساءل بكل جد وإخلاص: هل من الممكن احتمال مثل هذا التحكك
بالألفاظ بعد؟
أَوَليس من الضروري أن تواجه الكنسية هذه المسألة التي ظلت حوالي ٤٠٠
سنة وهي تجبر الناس على التسليم بها، وتقهرهم على التصديق بها؟
هل للمسيحي أن يعتقد بتلك النظريات والتعديلات التي أدخلها رجال الكنيسة
على الأساطير الدينية , وفرضوا عليه الإيمان بها؟ أم عليه أن يصدق تلك النظريات
الفلكية المبنية على أسس مدعمة ثانية؟ ألا إن التحكك بالألفاظ لم يعد يرضي أحدًا.
واستطرد القس أنج فقال: إنه ليس أمام المسيحيين إلا إحدى ثلاث طرق:
(١) أن يحكموا على العلوم الفلكية بالتحريف والزيغ والكفر.
(٢) أن نعتبر أن هذه الأساطير الدينية لا تتمشى مع روح العلم , ولكنها
تحمل على أنها رموز عن حقائق أزلية.
(٣) أن نعترف أن كل التعاليم اللاهوتية المؤسسة على النظرية التي تقول:
بأن الأرض هي مركز العالم يجب أن تنبذ ما دامت لا تتفق مع النتائج العلمية
الصحيحة.
وأضاف إلى ذلك قوله: ولا إخالني جاهلاً ما في هذه الخطوة , ولا غافلاً عما
يعترض الأخذ بها من المصاعب، ولكني أعتقد أن القيام بأي عمل كائنة ما كانت
العقبات التي تقف في سبيل تنفيذه خير من محاولة ستر قرحة تنغص علينا حلاوة
الاعتقاد والإيمان.
على أننا إذا أخذنا بالوجه الثالث؛ فإننا نكون مساقين إلى عدم تشبيه الإله
بالإنسان، وإسناد خصائص الإنسان له، كما نفكر في السماء بأنها أقرب إلى الروحية
منها إلى المادية؛ أي: أنها حالة لا مكان.
حالة أعمق في معنى الخلود من أن تحدد بتعاقب الأيام وكر السنين.
ويظهر أنه ليس للمعجزات نصيب في فلسفة أنج؛ لأنه يقول:
إذا كان كل شيء في العالم قد وضع لغرض، فإنني لا أستطيع أن أفهم، أو أن
أنتظر نشوء نتائج خاصة من حالات معينة.
إن قوانين الطبيعة الموافقة لهذه النظرية هي كغيرها قوانين صحيحة ذات
غرض معين، وهي قائمة بوظيفتها تمامًا، وإذا كانت من صنع إله قدير عالم، فإنا لا
ننتظر منها إلا أن تؤدي وظيفتها بنجاح , وانتظام على وتيرة واحدة.
إن الآله التي تحتاج إلى إصلاحها لهي آلة فاسدة , وأما تلك التي لم تصنعها يد
حكيمة , فمن الصعب أن نطلق عليها اسم آلة على الإطلاق، على أن كل ما عمله
العلم ليثبت أن للعالم نظامًا مطردًا واحدًا يدل أصدق دلالة على أن هنالك قوة خالقة
واحدة.
وأما فيما يتعلق بنظرية الآلهة، أو وجود قوتين قوة للخير وقوة للشر تتنازعان
الغلبة بأسلحة متساوية، فإنه يقول:
(إن الرجال العلميين , وأولئك الذين لا يستطيعون أن يلقبوا أنفسهم بهذا اللقب؛
إنما يحتجون على ذلك الصراع بين إله الخير وإله الشر , وعلى نظرية تعدد الآلهة
عندما يرفضون الاعتراف بالمعجزات كأنها إيقاف لقانون دنيء بقانون أرقى منه؛
لأنهم لا يجدون دليلاً صحيحًا على هذا الإيقاف , ولكنهم في الوقت نفسه يعتقدون أن
تقسيم الأشياء والحوادث إلى طبيعية وغير طبيعية يبعد النظام الطبيعي عن دائرة
النفوذ الإلهية المباشرة) . اهـ.
(المنار)
لا مخرج للقسيس أنج وغيره من الذين تطالبهم فطرتهم وعقولهم بدين يتآخى
فيه العقل والقلب، ويؤيده المنطق والعلم، إلا باتباع دين القرآن، المبني على
أساس الحجة والبرهان، ويا ليته يطلع على ما كتبناه من وجوه إعجازه، وإذًا لا يرى
بدًّا من أن يكون من دعاته.