للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رسالة التوحيد
(مقدمة الطبعة الثانية)

بسم الله الرحمن الرحيم
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ
ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ
تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ} (الروم: ٣٠-٣٢) .
إن الله جلَّتْ قدرتُه، وبلغت حكمته، قد برأ هذا الإنسان، بفطرة أعلى من
فطرة سائر أنواع الحيوان، أودع فيه شعورًا بلذات وآلام غير جسدية، فكان له
بذلك حياة غير الحياة الحيوانية، أنشأه مستعدًّا لإدراك معلومات غير محصورة، إذ
خلقه ليحيا حياة غير محدودة، جعل مدار حياته على التعاون والاجتماع، ليستعين
بذلك على استجلاء ما في الكون من النظام والإبداع، أنشأ أفراده متفاوتين في
الاستعداد للعلوم والأعمال، ليتيسر لمجموع النوع القيام بجميع العلوم والأعمال،
فأدناهم الخدم والبناءون والزارعون، وأعلاهم الساسة والحكماء، فالأنبياء
والمرسلون، فهؤلاء كالعقول والقلوب والأرواح، وأولئك كالأرجل والأيدي والمَعِد
والأمعاء، فمنهم من يقوم للنوع بأدنى ما يحتاج إليه، ومنهم من يهديه إلى أعلى ما
يتشوف استعداده إليه، مع إحسانه التصرف فيما هو قائم عليه، وهذه الهداية هي
هداية الدين الذي هو قوام الفطرة للإنسان، الناهض بها إلى طلب الكمال في العلوم
والأعمال.
سار الدين بتكميل الفطرة البشرية على منهاج التدريج في الارتقاء، كما هي
السنة العامة في جميع شئون الأحياء، حتى جاء خاتم النبيين والمرسلين بالإسلام،
الذي بلغ بالإنسان مرتبة الاستقلال التام، وبين كتابه أنه دين الفطرة للناس، من
جميع الشعوب والأجناس، الموافق لهم في كل مكان، المنطبق على مصالحهم في
كل زمان، فهو للقبائل الساذجة كالمربي الرحيم، وللشعوب الراقية كالإمام الحكيم،
كلما ساروا في العلوم والمدنية شوطًا رأوه المجلي في ميدان السبق {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا
فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت: ٥٣) .
لكن المسلمين قد خذلوا هذا الدين، وصاروا حجة عليه عند أكثر العالمين؛ إذ
زينت لهم التقاليد والعادات، أن يجعلوه حجابًا دون العلوم والفنون والصناعات،
وأن يتفرقوا فيه مذاهبَ وشيعًا، وينقصوا منه سننًا، ويزيدوا عليه بدعًا، وأن
يجعلوا كتب العقائد ملأى بالجدل والمراء، بين أهل المذاهب من الأموات والأحياء،
وقد مرت القرون وليس عندنا مصنف يصلح للدعوة إلى الإسلام، على الوجه
الذي اشترطه علماء الكلام، وهو أن يكون على وجه يحرك إلى النظر، ويدعو إلى
البحث والتفكر، حتى قام الأستاذ الإمام، الذي كان في هذا العصر حجة الإسلام،
الشيخ محمد عبده قدس الله روحه في دار السلام، فكتب (رسالة التوحيد) في بيان
حقيقة هذا الدين، فجاء مع التزام الشرط بما لم يأت بمثله أحد من أئمة المسلمين.
لا أذكر في بيان فضل هذه الرسالة، أن مجلس إدارة الأزهر قرر تدريسها في
الجامع الأزهر رسميًّا، ولا أن علماء الهند ترجموها بلغة الأوردو ليدرسوها في
مدرسة عليكره الكلية وغيرها، ولا أن علماء الأقطار الذين اطلعوا عليها، قد كتبوا
لمؤلفها من منثور الثناء ومنظومه ما يزيد على حجمها أضعافًا مضاعفة، ولا أن
بعض علماء النصارى قالوا عندما قرءوها: لو كان ما في هذه الرسالة هو الإسلام،
لكنَّا أول من يدخل فيه، ولكنها حكمة الشيخ محمد عبده، الذي نؤمن بفضله، وعلو
كعبه، لا أشرح هنا شيئًا من مثل هذا، وإنما أقول: إنه لا يقدر هذه الرسالة حق
قدرها إلا من كان عالمًا بمنتهى ما وصل إليه علم الكلام من الارتقاء في الإسلام،
وواقفًا على ما كتبه فلاسفة أوربا في الانتقاد على الأديان، مع ما كتبوه في بيان
مزاياها، وفي علم النفس وعلم الأخلاق وعلم الاجتماع البشري.
لم تدع الرسالة شبهة على الدين إلا وكشفتها، ولا عقدةً من عقد المشكلات إلا
وحلَّتها، ولكن الشُّبه تذكر فيها غالبًا بطريق الإيماء والتلويح، دون الإبانة
والتصريح، وذلك أدنى أن لا يشك الضعيف، ولا يشتغل القوي عن المقصد
الشريف، وقد أشار إلى ذلك المصنف في قوله: (راميًا إلى الخلاف من مكان بعيد،
حتى ربما لا يدركه إلا الرجل الرشيد) .
كتب الأستاذ الإمام هذه الرسالة في مُدّة قليلة، وبادر إلى طبعها، فلما قرأها
في الجامع الأزهر على الألوف من العلماء، ونجباء الطلاب، ظهر له فيها أغلاط
لُغوية، ومسائل تحتاج إلى إيضاح، وكُلِمٌ جدير بالحذف، فكان يكتب ما يراه من
التنقيح في النسخة التي يقرأ بها الدرس، ويَزِيد ما يزيد في هامشها، وقد انتقد عليه
الشيخ محمد محمود الشنقيطي (رحمهما الله) ذكره لمسألة خلق القرآن؛ لأنها
مخالفة لشرطه في التزام مذهب السلف، فأمر بحذف ذلك منها (راجع ص ٣٧
منها) ، وانتقد عليه حروفًا أخرى، فأقنعه في بعضها، واقتنع منه في بعض،
وقد جمع جميع ما صححه في جدول، فكان ذلك في سبعين موضعًا أو أكثر،
وبقي فيها كلمات نادرة قد سها المؤلف عنها مع تصحيحه لمثلها، فأبقيتها على
أصلها، [١] (إلا كلمة واحدة في ص ١٣١) ولم أزد فيها من عندي إلا الرقم الدالّ
على عدد السور والآيات عند ذكرها.
ولما كتب إلي صديقي حمودة بك عبده، يأذن لي بإعادة طبع الرسالة،
أعطاني الجدول فصححت هذه الطبعة معارضة عليه، وعلى نسخة المؤلف،
وعلقت عليها هوامش قليلة سمعت بعضها منه في الدرس، ولولا أنه نهى عن
شرحها، ووَضْع الحواشي لها لَجَاز لي أن أكثر من هذه الهوامش، ولكن ما رآه
رحمه الله هو الصواب، وما جاء به هو الحكمة وفصل الخطاب، فهذه الطبعة هي
المعتمدة، وعليها المعول، ولا يستغني عنها مَن طالع الطبعة الأولى، فرحم الله
الأستاذ الإمام، ونفع برسالته الأنام، آمين.
... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني
... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار