للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: ع. ز


لائحة الفقه الإسلامي
لحضرة العالم الفاضل صاحب التوقيع
(تابع ما قبله)

كلام صديقي
يحتاج الجواب عن كلام صديقي إلى إفراد مندرجاته فهو ينحصر في هذه
المسائل: (١) لا بد لكل أمة متمدنة من قانون جامع لجزئيات الحوادث. (٢)
الإسلام جاء بأسمى ما تتطلبه الحاجة المدنية إلا أن ما جاء به قواعد كلية. (٣)
الإحاطة بالجزئيات موكولة إلى أفهام رجال العلم والعقل مع إرجاعها إلى تلك
القواعد. (٤) علماؤنا فعلوا ما يجب عليهم من هذا القبيل، وأحاطوا بكثير من
الجزئيات التي دعت إليها حاجة كل عصر إلا ما فاتهم من تحديد بعض العقوبات،
وترتيب المحاكمات والتفريق بين الحقوق العمومية والحقوق الشخصية تفريقًا
يتعين معه الاختصاص بالدعاوى العمومية التي كان القضاة فيها خصمًا وحكمًا في
آن واحد. (٥) علماؤنا برعوا في علم الحقوق إلى حد جعل هذا العلم عند المسلمين
يكاد لا يترك صغيرة ولا كبيرة من الجزئيات إلا أحصاها إلا أنه مشوش بكثرة ما
اختلفوا فيه حتى في المسألة الواحدة. (٦) سبب هذا الاختلاف انفراد الآحاد
بالتشريع - أي التفريع - بحيث يجوِّز الواحد منهم ما يمنعه الآخر وبالعكس. (٧)
سبب هذا الانفراد التساهل من المسلمين في ترك سلطة التشريع فوضى يتناولها من
شاء ومن ليس بمعصوم من الأفراد؛ وذلك لم تفعله أمة متمدنة من قبل. (٨) لو فهم
المسلمون منذ استفحل أمرهم واشتدت للقوانين الجامعة حاجتهم معنى ما يسمى عند
علمائهم الإجماع لاستفادوا منه إلى الآن فوائد كثيرة، ولما تركوا أمر القوانين فوضى
لا يعتمد فيه إلا على قال فلان، وأفتى أهل الفضل ولكانوا عهدوا بتفريع الأحكام
واستنباطها إلى جماعات من أهل الفضل والاجتهاد ينوبون عنهم عند مسيس الحاجة
في تطبيق الأحكام على الحوادث في كل زمان ومكان. (٩) لما لم يفهموا هذه
القاعدة، وأغفلوا العناية والنظر بأمر القوانين كان وضع الأئمة والعلماء لعلم الفروع
الذي قلت عنه إنه مجموع قوانين لازمًا. (١٠) تسليم سلطة التشريع لجمع لا لآحاد
ليس فيه من حرج أو مانع يمنعه من الدين، والذي سوَّغ للفرد أن يضع أو يستنبط ما
شاء من الأحكام التي تمس إليها الحاجة يسوغ للجمع كذلك وهو الأحوط أيضًا في
الدين والدنيا. (١١) اعترف حفظه الله بأن هذا الخلاف الذي شوَّش نظام المعاملات
بين الأمة يكاد يجعل علم الفروع في المرتبة التي ذكرت. (١٢) وأنكر قولي إنه
ليس من علوم الدين؛ وإنما هو مجموع قوانين وضعها المتقدمون، قال بل رأيي أنه
من علوم الدين باعتبار أنه مستند إلى أصول عامة في الدين، وأنه قانون باعتبار أنه
داخل تحت حكم الرأي والقياس والاجتهاد، أو هو نتيجة تطبيق الأحكام على حوادث
حدثت بعدُ للمسلمين، وروعيت في وضعها أصول الدين. (١٣) مسوغ الاجتهاد
ميسر لكل عالم من علماء الشريعة بلغ مرتبة الكفاءة غير محظور عليهم في عصر من
العصور. (١٤) العلماء بين أمرين، إما أن يعتبروا أن كل ما حرره الأئمة وقرروه
من الدين، فيلزمهم في هذه الحال التسليم بما حرره جميعهم من الأحكام، ويلزم من
هذا جواز انتفاء الأحكام الموافقة لحالة العصر من كتب المذاهب وتدوينها في كتاب
خاص ليس فيه أدنى شائبة من مثارات الخلاف؛ ليكون شبه بقانون عام شامل لسائر
حاجات الاجتماع يعمل به المسلمون على اختلاف مذاهبهم، وإما أن لا يعتبروا ما
حرره الأئمة من الدين، بل يعتبرونه رأيًا أداهم إليه الاجتهاد، وأن هذا هو علة
اختلافهم في الأحكام منعًا وإيجابًا بحيث يجوِّز الواحد ما يمنعه الآخر، وفي هذه الحال
يجوز لهم الاجتهاد كما جاز لغيرهم، فيتفق جميعهم على جعل علم الفروع علمًا نافعًا
في هذا العصر مراعى فيه جانب الحاجة مضافًا إليه ما فات المتقدمين من التوسع في
مناحي أخرى أصبح التوسع فيها الآن من ضروريات الحياة الاجتماعية.
جوابي
الذي يراني متصديًا للجواب يظن أنني أقصد ردًّا على صديقي الفاضل وليس
كذلك، بل ليس في مقدماته ما يرد غير أن النتيجة الحسنة التي أشار إليها لا
نحصل عليها، وعلم الفروع الحاضر هذا حاله من التشويش الذي اعترف به،
وهذا حال كل فريق منا من تقديس ما ينتسب إليه، واعتبار كل ما جاء تحت اسمه
من عند الله عز وجل، على أن الجواب على الإفراد يزيد المسألة وضوحًا، وإن لم
يقصد به رد وهذا هو:
ج (١ - ٢ - ٣) ما جاء في هذه الأرقام مسلَّم ما أنكرته ولا أنكره، أما
كون كل أمة متمدنة لا بد لها من قانون جامع لجزئيات الحوادث، فيكاد أن يكون
من العلوم الضرورية، بل الأمم البدوية أيضًا لا تستغني عن قانون يجمع لها
جزئيات الحوادث بحسب حاجاتها، وإنا لنعلم بالاختبار أن هؤلاء الأعراب
الضاربين في مهامه الشام والعراق لهم قضاة يدعون واحدهم بالعارفة [*] يقضي
بينهم بأحكام يتداولونها، ويسمُّون معلوماتهم في الأقضية بشرع العرب ولم يفتهم
النصيب من عقولهم وذواكرهم لمَّا عدموا النصيب من الكتابة والتدوين، وجزئيات
الحوادث في كل أمة تكون بحسبها من المعيشة والعادة والعقيدة، ومهما كانت الأمم
من الجاهلية لا تلبث متى رمت بالقدم الأولى في ميدان المدنية أن تصطلح على
قانون يوحدها مَثِّل لهذا بأمة الرومان، ثم أصول الأمم الأوربية الموجودة، ثم مَثِّل
بالعرب بعد أن كثرت فتوحاتهم واشتدت لوسائل العمران حاجاتهم ودخل في
حوزتهم أمم شتى، كانت ذوي صناعات وزراعات وتجارات ولهم قوانين قديمة
وعادات راسخة، وبالجملة إن التشريع في الأمم ضروري؛ ولكن الناس يتفاضلون
فيه فمنه الصالح والأصلح وضدهما.
وأما كون الإسلام جاء بأسمى ما تتطلبه الحاجة المدنية، فهو من أجزاء
معتقدنا ومتممات إيماننا، ما جاء به الإسلام قواعد كلية، والإحاطة بالجزئيات
موكولة إلى أفهام رجال العلم والعقل مع إرجاعها إلى تلك القواعد، والاختلافات
إنما نشأت من الأفهام وهي اختلافات عظيمة، فإذا فرضنا مائة قول في مسألة ما -
وهو فرض له تحقق - فالمصيب منها واحد والمخطئ ٩٩ حُرِمُوا من العقائد الكلية
التي يرجع إليها كل واحد بما قال، كما حُرم أصحاب المذاهب في العقائد الإسلامية
من القواعد التي هي أصول، ثم هل نستطيع أن نبرهن أمام مناظر أجنبي على أن
العقل الإنساني السليم لا يمكن أن يحيط خبرًا بتلك القواعد المعدودة إلا أن يسمعها؟
ج (٤، ٥) مما تقدم يُعلم الجواب عما جاء في (٤، ٥) فإنا قبلنا أن
التشريع الضروري للأمم، وكل أمة قد خلت لها حديث في الآخرين يتلونه
مستبصرين، وعلماؤنا الذين أشار إليهم إنما هم كالذين خلوا، فلئن قلنا إنهم سدوا
حاجة زمانهم فما نحن بملومين إذا قلنا إن ما نقدسه اليوم هي مجموع كتاباتهم التي
اقتضتها عصورهم، وطابقت عقول معاصريهم من الحكومات والرعايا كيف كان
الحال، أما كونهم برعوا بذكر الجزئيات فلاتخاذ الكثيرين هذه الصناعة ديدنًا في
كل عصر ومصر، ووقع مثل هذا لكل أمة متحضرة، وإن أدري هل أغنتهم
براعتهم تلك عن ذلك الاختلاف المشوش، أم كان نصيبهم منها نصيب من كان
قبلهم ممن أوتوا الجدل، وحرموا العمل، نصيب أولئك الذين كانوا يتجادلون
بالمذهب في القسطنطينية والفاتح على أسوارها؟
ج (٦ - ٧ - ٨) قال حفظه الله: إن سبب هذا الاختلاف انفراد الآحاد
بالتشريع وسبب هذا الانفراد تساهل المسلمين في ترك سلطة التشريع فوضى
يتناولها من شاء، وأقول: إن القوم لا يزعمون أن كل ما كتبوه هو من عند الله يجب
التسليم به والاعتماد عليه، وأن هؤلاء الكتاب لم يحدثوا شيئًا من عند أنفسهم،
والمسلمون الذين عزي إليهم التساهل لم يكن لهم شيء من الأمر في العلم حتى
يكون لهم صوت في التشريع، وها أنا ذا أذكر للصديق أعزه الله سبب ذلك الانفراد
أو سبب تساهل المسلمين:
المسلمون ليسوا شعبًا واحدًا، وليسوا على سنن واحد في النحلة والعادات،
المسلمون بما تحيزوا للدول صاروا شيعًا في الآراء السياسية، ثم بما تحيزوا
للرؤساء في الدين صاروا شيعًا في الآراء العلمية والمذاهب الدينية، ثم بما تحيزوا
للجنس صاروا شيعًا في المشارب والمعايش.
لم يمض الثلث من القرن الأول على المسلمين حتى كفَّر بعضهم بعضًا،
فتحاربوا وتحازبوا وتخاذلوا إلى أن انقسموا إلى ثلاثٍ: فئتان تشايع كل منهما رئيسًا
كبيرًا، وأخرى خارجة عن دائرتهما ناقمة عليهما حاليهما، ولم يمض الثلث الثاني
حتى انقلبت دعوتهم إلى الدين وتهذيب النفوس دعوة إلى الملك والاستئثار وتوسيع
أبهة الملك وجعله منحصرًا في أسرة يُحْدِث أفرادها ما شاءوا أن يُحْدِثوا، ولم يمض
الثلث الثالث حتى تكاملت أصول الشيع وتلاحقت فروعها وأينعت ثمراتها، وأَحدَث
في الدين من أَحدَث، واخترع مَن اخترع، فاختلفوا في القراءات، فتعددت أشكالها
وتعارضوا في الروايات، فتناقضت أحكامها، وتباينوا بالفهم من النصوص،
فضاعت ثمراتها وتجادلوا في الفهوم فذهبت غاياتها، عقائد متباينة وعبادات مختلفة
وأقضية مضطربة وضمائر متباغضة، فأين الإجماع؟
أي أخي، أفليس هذا هو أمرنا في ذلك القرن الأول الذي عليه مدار فخرنا
وإليه يُرَدُّ أصل مجدنا، وفيه اتسع سلطان حكمنا، وعلا منار ديننا، دع عنك زمن
الخليفتين، وقل لي متى كان الإجماع وكيف يجمع قوم حالهم ما ذكرناه آنفًا، وأي
المسلمين مطالبون أن يفهموا معنى ذلك الإجماع، أأعرابهم الضاربون في بطون
الأودية وظهور الجبال، أم أمصارهم المؤلفة من أبناء الروم والفرس والقبط،
وقليل من أبناء الأجناد؟ من المطالب منهم بالتشريع؟ أولاة أمورهم وهم من علمت
بين لاهٍ فرح بالنعمة الجديدة التي ورثوها، وبين نشيط حازم مشتغل بتسكين تلك
الفتن المعهودة، أم الرواة الذين لم يكن أكثرهم يعلم أكثر من النقل والحكاية؟
هذا ما ترك أمر التشريع فوضى، فبدؤوا في ابتداء القرن الثاني يكتب كل
واحد ما ألقى إليه أستاذه، وكثرت فنون الاختلاف وضروب التعارض، واستُعملت
التَّقية فجاءت المذاهب على كثرتها وتعارضها مضاهية لأديان مختلفة؛ حتى ألغى
أكثرها الزمان الذي جاء فيه حكومات أخذت بما دوَّنه قوم، وأعرضت عن الآخرين
فالحكومات هي بالفعل حصرت الميدان وغلَّقت الأبواب، والمتمذهبون اتبعوا فعل
الحكومات بالقول بأن باب الاجتهاد مسدود، على أنهم نزعوا إلى نقب السدود التي
أقيمت، فاستعملوا معاول الاصطلاحات والفرض والتقديم، كفرضهم إذا تترس قوم
بنبي - مع اعتقادهم واعتقادنا أن لا نبي بعد محمد عليه السلام - فنقلوا بالمذهب
الواحد روايات متعددة عن أئمته في المسألة الواحدة حتى أعادوا المذهب الواحد
مذاهب، فأوصلوها إلينا كما هي أمام عين الناقد البصير.
هذا هو الحال إجمالاً وكل مطالع في تاريخ الإسلام يعلم أن كل طائفة من
بلادهم شاع فيها المذهب الذي هويته نفوس حكامهم الأول، فهل يرجى بعد تحكم
تلك المذاهب في كل ناحية لفت الناس عنها، وإن كان لا يرجى فهل يقال إن بقاء
هذا الحال غير مخل بالفائدة ومضر؟
ج (٩) يُعلم الجواب عما جاء في (٩) من الجواب على (٤ و٥)
ج (١٠، ١١، ١٢، ١٣، ١٤) أوافق في كل ما جاء في هذه الأرقام
صديقي الفاضل، وأضم صوتي إلى صوته؛ ولكن هل يساعدنا علم الفروع المدون
الحاضر على القول بهذه الأقوال، وإن لم يساعد فمن المخاطب أن يقوم للمسلمين
بهذه الخدمة الجليلة، وإلى متى نقول بلا عمل؟ ها نحن أولاء بهذه المناسبة نقترح
على المنار الأنور أن يفتح بابًا لهذا الموضوع الجليل يقبل فيه اللوائح التي ترد إليه
في كل باب من أبواب الفروع بعد عرضها على جمعية علمية تنعقد في القاهرة لهذه
الغاية بهمة الأساتذة، ومتى انعقدت هذه الجمعية التي يكون لتصديقها على اللوائح
المنشورة وقع في قلوب الأمة؛ لأنه شبيه بالإجماع - يكثر بيننا النبهاء الذين يوجهون
أنظارهم نحو هذه الغاية.
وبعد فقد طالت الرسالة، ووجب الاكتفاء، والله المسئول أن يلهم المسلمين
الصواب، ويحرك منهم دواعي الجد في حفظ بقايا المجد.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. ز ...
(المنار) : نكرر الاقتراح على الفقهاء والعلماء ليكتبوا إلينا رأيهم في
الموضوع، ولدينا رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية في أسباب الخلاف ربما تُنشر بعد.