للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ذات بين الحجاز ونجد
عود على بدء
(٢)

كتبنا ما رآه القراء من الفصول تحت هذا العنوان، ونحن في أشد الحزن
والامتعاض مما كان قد بلغنا من أنباء هذه الفتنة، وهو أن الحرب ستستأنف بين
الحجازيين والنجديين باسم الدين، وأن الجنود الهندية الإنكليزية ستمد الأولين , فقد
ذهب فريق منها لأداء فريضة الحج، وروي أنها ستذهب بعد الحج إلى الطائف بحجة
زيارة عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) فخشينا أن يكون المراد من الطائف ما
وراءه، وهو نجد , ونحن من أدرى العرب والمسلمين بسوء عاقبة مثل هذا القتال في
هذه الأيام، فكان قصدنا مما كتبناه أن ندرأ هذه الفتنة من أقرب الطرق وأرجاها،
وهو الإقناع العلمي أو القوة العملية.
أما الإقناع، فمن ثلاثة أوجه , (أحدها) : ما بيناه من أن ما جُعل سببًا للقتال
لا يصح، وذلك أن ما يُتهم به كل فِرق من مخالفة بعض أصول الدين من العقائد،
والأعمال التي يعدها كفرًا إذا صح بعضه أو كله، فإنما يكون من بعض الأفراد
لا من الجميع، وهو في نظر المنطقي والأصولي مشترك الإلزام، فالحَكَم
المنصف يقول لكل واحد من الخصمين: إنك تتهم خصمك بمثل ما يتهمك به،
فأنت تجزم بكفر الكثيرين في بلاده بأدلة تقيمها من الشريعة على أن كذا وكذا من
الأقوال والأفعال كفر، وهو يجزم بكفر الكثيرين في بلادك بأقوال وأفعال أخرى،
يقيم الأدلة الشرعية على كونها كفرًا، وكل منكما من أهل القبلة الذين يؤمنون بأن
جميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من أمر الدين حق، إلا أنكم اختلفتم
في الفهم، فتكفير كل منكما للآخر متأول فيه، لا طاعن في الإسلام نفسه، ولا
سبيل إلى ظهور حجة أحد منكما على الآخر إلا بالعلم وحرية البيان والنشر مع
الأدب في القول اهتداءً بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: ١٢٥) الآية، وأسوة برسول الله
صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية فقد تساهل مع المشركين؛ لأجل حرية
الدعوة، وليس لأحد أن يدعي أن من كفر بسوء فهم وقلة علم وفساد تأويل،
وهو يؤمن إجمالاً بأن جميع ما جاء به الرسول حق - أسوأ حالاً وأجدر بسوء
المعاملة من المشرك المجاهر الذي كذب الرسول وقاتله، فليؤمِّن كل منكما الآخر
في بلاده، ويجتهد ما استطاع في تعليمه وإقناعه، والحق يعلو ولا يعلى.
(الوجه الثاني) أن المجادلة بالتي هي أسوأ، وهي الوقيعة والتقريع،
والسب والتكفير، لا تأتي إلا بالنتيجة التي هي أسوأ، وهي العداوة والبغضاء التي
يخفى معها الحق إن فرضنا أنها - أي: المجادلة - اشتملت عليه، ذلك بأن
المخاطب بها يشغله التألم بتحقيره عن التأمل في غيره من معاني الكلام الذي يعتقد
أنه صادر عن سوء نية، فلا يقصد به إظهار حقيقة، وما تعصب أكثر الناس
لآرائهم الشخصية أو المذهبية إلا بسبب المراء وسوء أسلوب الجدال من
المخالفين لهم. بل الأمر أعظم من ذلك: نبغ في علماء المسلمين إمام مجتهد،
واسع العلم، قوي الحجة، شديد العارضة إلا أنه كان حديد المزاج، وقد ألف كتابًا
في الفقه، قرن فيه كل مسألة بالحجة عليها، والرد على المخالف فيها بعبارة
فصيحة وأسلوب جلي، كان مظهرًا لما وصفناه به آنفًا من الصفات التي منها حدة
المزاج، فكان في عبارته من الحمز في اللمز، واللذع في الصدع، ما كان سببًا
لإعراض جماهير الأمة عن الاستفادة منه والأخذ عنه، ولولا ذلك لكان أتباعه
أكثر من أتباع غيره من أئمة الفقه المشهورين، أو مساوين لأكثرهم تابعًا، ذلك
الإمام أبو محمد ابن حزم صاحب كتاب (المحلى) الذي شهد سلطان العلماء العز
ابن عبد السلام الشافعي الأصل الذي شهد له العلماء بالاجتهاد المطلق، بأنه أحسن
ما كتب المسلمون في الفقه، ولم يقرن به إلا كتاب (المغني) للشيخ الموفق
الحنبلي.
(الوجه الثالث) : إذا كان المراء والمجادلة بالتي هي أسوأ تثمر العداوة
والبغضاء وشدة استمرار الخلاف، فكيف تكون ثمرة القتال بين فريقين يقتتلان
بسبب الاختلاف في فهم الدين؟ وهل كان قتال محمد علي باشا للوهابية، الذي
يريد التأسي به ملك الحجاز سببًا لرجوعهم عما كانوا عليه في ذلك الوقت، وعادوا
إليه الآن حتى نعود إلى قتالهم؟ كلا.
وأما ما أشار إليه الملك في بعض منشوراته من وجوب ذلك على السلطان،
فهو لا يظهر في الواقعة الحاضرة، لا من حيث موضوع التهمة التي تقدم القول
فيها، ولا من حيث السلطان الذي يجب عليه ذلك، وهو الإمام الحق المجتهد في
أصول الدين وفروعه، المقيم لأحكامه وحدوده بسلطته التي يخضع لها سواد
المسلمين مع الاعتصام باستشارة أهل الحل والعقد، وملك الحجاز - سدده الله
ووفقه - لم يدَّع هذا المقام لنفسه، بل ترك أمر الخلافة إلى الرأي الإسلامي
العام، فأنصف بذلك إنصافًا حمده الخاص والعام في جميع أقطار الإسلام، وهو يعلم
أيضًا أن مملكته الحجازية لا تصلح الآن لإقامة خلافة فيها، لا خلافة حقيقية
مستوفاة الشروط، ولا خلافة تَغَلُّب، أما الأول فظاهر من جميع وجوهه، وأما
الثاني فلأنها أضعف من جميع البلاد المستقلة التي حولها، فهي لا تقدر أن تحفظ
نفسها بنفسها، وليست مقرًّا لجماعة أهل الحل والعقد من علماء المسلمين
وزعمائهم وقوادهم الذين تثق الأمة بهم إذا بايعوا حاكمها باختيارهم، ولا حاجة إلى
بسط هذه المسألة في هذه العجالة التي نقصد بها درء الفتنة، فإذا اقتضت الحال
بسطها بسطناها في مقال طويل لا يدع مجالاً لشبهة مشتبه، وما قيل في الحجاز
يقال في نجد على ما لا يجعل التفاوت بينهما.
وإذا كان الأمر كما ذكرنا، فالمرجو من حاكمي البلادين أن يتفقا على إقفال
باب الفتنة الذي فتحه الشيطان بينهما، ولا يدعا للأجنبي وسيلةً لتقوية نفوذه في
البلاد المقدسة وحرمها، فإن شجر بينهما خلاف، فليحكما فيه من يرضياه من
أهلهما وجيرانهما.
وأما القوة الفعلية التي رأيناها أهلاً لإصلاح ذات بينهما، إذا هما لم ينصفا
من أنفسهما، فهي قوة جيرانهما أهل اليمن وعسير، فالواجب عليهما أن يتصديا
لهذا الأمر، وأن يطلب الفريقان حكمهما فيه عملاً بآيتي سورة الحجرات اللتين
ذكَّرناهما بهما في الفصول السابقة {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا} (الحجرات: ٩) إلخ، بل يجب على أئمة هذه الجزيرة الإسلامية
الشريفة وأمرائها أن يعقدوا بينهم المحالفة التي اقترحها عليهم بعض أهل البصيرة
من المسلمين على قاعدة اعتراف كل منهم للآخر باستقلاله في بلاده، وعدم اعتداء
أحد منهم على حدود الآخر، واتفاق الجميع على كبح جماح المعتدي وعقابه،
وتعاونهم بالأولى على مقاومة كل أجنبي يعتدي على أي بلد من بلادهم، ألا
وليتذكروا ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته، ويتداركوا ما
قصر فيه مَن قبلهم، وإلا فقد قرب عهد زوال سلطتهم، وتغلغل النفوذ الأجنبي في
جزيرتهم، ولا يكونوا كحكومة مراكش الجاهلة الغبية التي أنذرناها في السنة
الأولى للمنار مثل ما ننذرهم اليوم، فتمارت بالنذر، حتى ضاع استقلالها، ألا
وليعلموا أن جزيرتهم هذه معقل الإسلام ومأزره، فإذا مكنوا الأجنبي منها بتخاذلهم
كانوا لعنةً على لسان كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها إلى يوم القيامة.
***
كتاب كشف الشبهات [*]
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
اعلم رحمك الله أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة وهو دين الرسل الذي
أرسلهم الله به إلى عباده، فأولهم نوح عليه السلام، أرسله الله إلى قومه لما
غلوا في الصالحين ودًّا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا، وآخر الرسل محمد صلى
الله عليه وسلم وهو الذي كسَّر صور هؤلاء الصالحين: أرسله إلى قوم يتعبدون
ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم
وبين الله، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده مثل الملائكة
وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين، فبعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم
يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله لا
يصلح منه شيء لا لملَك مقرب ولا لنبي مرسل فضلاً عن غيرهما، وإلا فهؤلاء
المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له وأنه لا يرزق إلا هو، ولا
يُحيي إلا هو ولا يميت إلا هو، ولا يدبِّر الأمر إلا هو، وأن جميع السموات ومن
فيهن والأرض ومن فيها كلهم عبيد، وتحت تصرفه وقهره.
فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
يشهدون لها فاقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ
السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ
الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (يونس: ٣١) وقوله: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ
وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ
السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى
تُسْحَرُون} (المؤمنون: ٨٤-٨٩) وغير ذلك من الآيات.
إذا تحققت أنهم مقرون بهذا ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي
يسميه المشركون في زماننا (الاعتقاد) كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلاً ونهارًا،
ثم منهم من يدعو الملائكة؛ لأجل صلاحهم وقربهم إلى الله ليشفعوا له، أو يدعو
رجلاً صالحًا مثل اللات، أو نبيًا مثل عيسى. وعرفت أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة كما قال تعالى:
{وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: ١٨) وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} (الرعد: ١٤) - وتحققت
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدعاء كله لله والنذر كله لله
والذبح كله لله والاستغاثة كلها بالله وجميع العبادات كلها لله: وعرفت أن
إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة والأنبياء
والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم.
وعرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون وهذا
التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكًا أو نبيًا أو وليًا أو شجرة أو قبرًا أو جنيًا، لم يريدوا أن الإله
هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك، وإنما يعنون
بالإله ما يعني: المشركون في زماننا بلفظ السيد فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم
يدعوهم إلى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد
لفظها، والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو
إفراد الله تعالى بالنطق بالكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه فإنه لما قال لهم: قولوا لا إله إلا الله قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: ٥) .
فإذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب، وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: ٤٨)
وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبل الله من
أحد سواه، وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا أفادك فائدتين:
الأولى: الفرح بفضل الله ورحمته كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ
فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس: ٥٨) وأفادك أيضًا الخوف العظيم،
فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل
فلا يُعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله كما [كان يفعل] [١] الكفار
خصوصًا إنْ ألهمك الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه،
قائلين: {اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (الأعراف: ١٣٨) فحينئذ يعظم حرصك
وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله.
واعلم أنه سبحانه من حكمته لم يبعث نبيًا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداءً كما
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى
بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً} (الأنعام: ١١٢) وقد يكون لأعداء التوحيد علوم
كثيرة وكتب وحُجج كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم
مِّنَ العِلْمِ} (غافر: ٨٣)
إذا عرفت ذلك وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه
أهل الفصاحة وعلم وحجج، فالواجب عليك أن تعلم من دين الله ما يصير لك
سلاحًا تقاتل هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: {قَالَ فَبِمَا
أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ
أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ} (الأعراف: ١٦-١٧) ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت
إلى حججه وبيناته فلا تخف {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} (النساء: ٧٦)
والعامي من الموحدين يغلب ألفًا من علماء هؤلاء المشركين، كما قال تعالى:
{وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} (الصافات: ١٧٣) فجند الله هم الغالبون بالحجة
واللسان، كما هم الغالبون بالسيف والسِّنان، وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك
الطريق وليس معه سلاح، وقد منّ الله تعالى علينا بكتابه الذي جعله تبيانًا لكل شيء
وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما
ينقضها ويبين بُطلانها كما قال تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ
تَفْسِيراً} (الفرقان: ٣٣) قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حُجة يأتي
بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.
وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جوابًا لكلام احتج به المشركون في
زماننا علينا فنقول: جواب أهل الباطل من طريقين مجمل ومفصل. أما المجمل
فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها وذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ
عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ} (آل عمران: ٧) وقد صح عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك
الذين سماهم الله فاحذروهم) . مثال ذلك إذا قال لك بعض المشركين: {أَلاَ إِنَّ
أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس: ٦٢) وأن الشفاعة حق وأن
الأنبياء لهم جاه عند الله، أو ذكر كلامًا للنبي صلى الله عليه وسلم يستدل به على
شيء من باطلها، وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره فجاوبه بقولك: إن الله ذكر
أن الذين في قلوبهم زيع يتركون لمحكم، ويتبعون المتشابه وما ذكرته لك من أن
الله ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء
والأولياء مع قولهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: ١٨) هذا أمر محكم
بيِّن لا يقدر أحد أن يغير معناه وما ذكرت لي أيها المُشرك من القرآن أو كلام النبي
صلى الله عليه وسلم لا أعرف معناه ولكن أقطع أن الله لا ينتاقض وأن كلام النبي
صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام الله. وهذا جواب سديد ولكن لا يفهمه إلا من
وفقه الله فلا تستهونه فإنه كما قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا
إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت: ٣٥) .
وأما الجواب المفصل فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة يصدون بها الناس
منها قولهم: نحن لا نشرك بالله، بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا
يضرّ إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه
نفعًا ولا ضرًّا فضلاً عن عبد القادر أو غيره، ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه
عند الله وأطلب من الله بهم. فجاوبه بما تقدم وهو أن الذين قاتلهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم مقرون بما ذكرت ومقرُّون أن أوثانهم لا تدبِّر شيئًا، وإنما أرادوا
الجاه والشفاعة، واقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه ووضحه، فإن قال: هؤلاء
الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين أصنامًا، فجاوبه بما تقدم
فإنه إذا أقر أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا
الشفاعة ولكن أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكر، فاذكر له أن الكفار منهم من
يدعو الصالحين والأصنام، ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم: {أُوْلَئِكَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (الإسراء: ٥٧) ويدعون
عيسى ابن مريم وأمه، وقد قال الله تعالى: {مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ
انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المائدة: ٧٥) واذكر قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ
يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ
كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} (سبأ: ٤٠-٤١) فقل له: أعرفت أن
الله كفَّر من قصد الأصنام وكفر أيضا من قصد الصالحين وقاتلهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ فإن قال: الكفار يريدون منهم، وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار
المدبر لا أريد إلا منه. والصالحون ليس لهم من الأمر شيء ولكن أقصدهم أرجو
من الله شفاعتهم، فالجواب أن هذا قول الكفار سواء بسواء فاقرأ عليه قوله تعالى:
{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: ٣) {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: ١٨) واعلم أن الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم، فإذا عرفت أن الله
وضحها في كتابه وفهمتها فهما جيدًا فما بعدها أيسر منها. فإن قال لك: أنا لا أعبد إلا
الله وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة. فقل له: أنت تقر أن الله
فرض عليك إخلاص العبادة وهو حقه عليك، فإنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها
له بقولك: قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} (الأعراف: ٥٥) إذا
علمت بهذا، هل هو عبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم والدعاء مخ العبادة. فقل له: إذا
أقررت أنها عبادة ودعوت الله ليلاً ونهارًا خوفًا وطمعًا ثم دعوت في تلك
الحاجة نبيًا أو غيره، هل أشركت في عبادة الله غيره إذ قال الله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ} (الكوثر: ٢) وأطعت الله ونحرت له فلا بد أن يقول نعم: فقل له: إذا
نحرت لمخلوق نبي أو جني أو غيرهما هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟ فلا بد
أن يقر ويقول: نعم، وقل له أيضا: المشركون الذين نزل فيهم القرآن هل كانوا
يعبدون الملائكة والصالحين واللات وغير ذلك؟ فلا بد أن يقول: نعم. فقل له:
وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك؟ وإلا
فهم مقرون أنهم عبيد الله تحت قهره، وأن الله هو الذي يدبر الأمر ولكن
دعوهم والتجؤوا إليهم للجاه والشفاعة وهذا ظاهر جدًّا.
فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ منها؟ فقل: لا
أنكرها ولا أتبرأ منه، بل هو صلى الله عليه وسلم الشافع والمشفع، وأرجو
شفاعته لكن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى: {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} (الزمر:
٤٤) ولا تكون إلا من بعد إذن الله كما قال عز وجل: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ
بِإِذْنِهِ} (البقرة: ٢٥٥) ولا يشفع في أحد إلا من بعد أن يأذن الله فيه، كما قال
عز وجل: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء: ٢٨) وهو لا يرضى إلا
التوحيد كما قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل عمران:
٨٥) فإذا كانت الشفاعة كلها لله ولا تكون إلا بعد إذنه ولا يشفع النبي صلى الله
عليه وسلم ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه ولا يأذن إلا لأهل التوحيد تبين أن
الشفاعة كلها لله أطلبها منه، وأقول: اللهم لا تحرمني شفاعته اللهم شفعه في.
وأمثال هذا.
فإن قال: النبي صلى الله عليه وسلم أُعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه
الله. فالجواب أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا، وقال: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ
أَحَداً} (الجن: ١٨) وأيضا فإن الشفاعة أعطيها غير النبي صلى الله عليه
وسلم، فصح أن الملائكة يشفعون والأولياء يشفعون، أتقول: إن الله أعطاهم
الشفاعة وأطلبها منهم، فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في
كتابه وإن قلت: لا. بطل قولك: (أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه
الله) .
فإن قال: أنا لا أشرك بالله شيئًا حاش وكلا، ولكن الالتجاء إلى الصالحين
ليس بشرك فقل له: إذا كنت تقر أن الله حرم الشرك أعظم من تحريم الزنا وتقر
أن الله لا يغفره فما هذا الأمر الذي عظمه الله وذكر أنه لا يغفره؟ فإنه لا يدري،
فقل له كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ أم كيف يحرم الله عليك هذا
ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟ أتظن أن الله يحرمه ولا يبينه لنا؟
فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام. فقل: وما معنى
عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبر
أمر من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن , أو هو قصد خشبة أو حجر أو بنية أو غيره
يدعون ذلك ويذبحون له يقولون: إنه يقربنا إلى الله زلفى، ويدفع عنا ببركته؟ فقد
صدقت هذا هو فعلكم عند الأحجار والبنايا التي على القبور وغيرها. فهذا أقر أن
فعلهم هذا هو عبادة الأصنام، ويقال أيضا قولك: (الشرك عبادة الأصنام) هل
مرادك أن الشرك مخصوص بهذا؟ وأن الاعتماد على الصالحين ودعاءهم لا يدخل
في هذا؟ فهذا يرده ما ذكر الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة وعيسى
والصالحين، فلا بد أن يقر لك من أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصالحين
فهو الشرك المذكور في القرآن، وهذا هو المطلوب.
وسر المسألة أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله فقل وما الشرك بالله؟ فسره لي،
فإن قال: هو عبادة الأصنام فقل وما معنى عبادة الأصنام؟ فسرها لي فإن قال: أنا
لا أعبد إلا الله [وحده] فقل ما معنى عبادة الله وحده؟ فسرها لي، فإن فسرها بما
بينه القرآن فهو المطلوب، وإن لم يعرفه، فكيف يدَّعي شيئًا وهو لا يعرفه، وإن
فسر ذلك بغير معناه بينت له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة
الأوثان الذي يفعلون في هذا الزمان بعينه، وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي
التي ينكرون علينا ويصيحون كما صاح إخوانهم حيث قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً
وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: ٥) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
يتلى