وأصنافهم والدعاوى فيهم لشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية قدس سره
بسم الله الرحمن الرحيم (مسألة) ما تقول السادة العلماء أئمة الدين - رضي الله عنهم - في أهل الصفة كم كانوا؟ وهل كانوا بمكة أو بالمدينة؟ وأين موضعهم الذي كانوا يقيمون به؟ وهل كانوا مقيمين بأجمعهم لا يخرجون إلا خروج حاجة، أو كان منهم من يقعد بالصفة، ومنهم من يتسبب في القوت؟ وما كان تسببهم: هل يعملون بأبدانهم أم يشحذون بالزنبيل؟ وما قول العلماء - وفقهم الله تعالى - فيمن يعتقد أن أهل الصفة قاتلوا المؤمنين مع المشركين؟ وفيمن يعتقد أن أهل الصفة أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ومن الستة الباقين من العشرة، وأفضل من جميع الصحابة؟ وهل كان فيهم أحد من العشرة؟ وهل كان أحد في ذلك العصر ينذر لأهل الصفة؟ وهل تواجدوا على دف أو شبابة أو كان لهم حادٍ ينشد لهم أشعارًا ويتحركون عليها بالتصدية ويتواجدون؟ وما قول العلماء في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الكهف: ٢٨) هل هي عامة أم مخصوصة بأهل الصفة رضي الله عنهم؟ وهل هذا الحديث الذي يرويه كثير من العوام ويقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله لا الناس تعرفه ولا الولي يعرف أنه ولي) وهل تخفى حالة الأولياء أو طرقهم على أهل العلم أو غيرهم؟ ولماذا سمي الولي وليًّا؟ وما الفقراء الذين يسبقون الأغنياء إلى الجنة، والفقراء الذين أوصى الله عليهم في كلامه وذكرهم خاتم أنبيائه ورسله وسيد خلقه محمد صلى الله عليه وسلم في سننه؟ هل هم الذين لا يملكون كفايتهم أهل الفاقة والحاجة أم لا؟ والحديث المروي في الأبدال هل هو صحيح أم مقطوع؟ وهل الأبدال مخصوص بالشام أم حيث تكون شعائر الإسلام قائمة بالكتاب والسنة يكون بها الأبدال بالشام وغيره من الأقاليم؟ وهل صحيح أن الولي يكون قاعدًا في جماعة ويغيب جسده؟ وما قول السادة العلماء في هذه الأسماء التي تَسَمَّى بها أقوام من المنسوبين إلى الدين والفضيلة ويقولون: هذا غوث الأغواث وهذا قطب الأقطاب، وهذا قطب العالم، وهذا القطب الكبير وهذا خاتم الأولياء؟ وأيضًا فما قول العلماء في هؤلاء (القلندرية) الذي يحلقون ذقونهم ما هم؟ ومن أي الطوائف يحسبون؟ وما قولكم في اعتقادهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعم شيخهم قلندر عنبًا وكلَّمَه بلسان العجم؟ وهل يحل لمسلم يؤمن بالله تعالى أن يدور في الأسواق والقرى ويقول: من عنده نذر للشيخ فلان أو لقبره؟ وهل يأثم من يساعده أم لا؟ وما تقولون فيمن يقول: إن (الست نفيسة) هي باب الحوائج إلى الله تعالى وأنها خفيرة مصر؟ وما تقولون فيمن يقول: إن بعض المشايخ إذا قام لسماع المكاء والتصدية يحضره رجال الغيب وينشق السقف والحيطان وتنزل الملائكة ترقص معهم أو عليهم، وفيهم من يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر معهم؟ وماذا يجب على مَن يعتقد هذا الاعتقاد؟ وما صفة رجال الغيب وما معنى قول من يقول: إنه من خفراء التتار؟ وهل يكون للتتار خفراء أم لا؟ وإذا كانوا فهل يغلب حال هؤلاء خفراء الكفار كحال خفراء أمة النبي صلى الله عليه وسلم. وهل هذه المشاهِد المسماة باسم أمير المؤمنين علي وولده الحسين رضي الله عنهما صحيحة أم مكذوبة؟ وأين ثبت قبر علي ابن عم رسول الله؟ والمسئول من إحسان علماء الأصول كشف هذه الاعتقادات والدعاوى والأحوال كشفًا شافيًا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والحالة هذه أفتونا مأجورين أثابكم الله. أجاب رضي الله عنه وأرضاه، آمين: الحمد لله رب العالمين: أما الصُّفَّة التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في مؤخر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في شمال المسجد بالمدينة النبوية، كان يأوي إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل ولا مكان يأوي إليه. وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما أمر نبيه والمؤمنين أن يهاجروا إلى المدينة النبوية حين آمن به من آمن من أكابر أهل المدينة من الأوس والخزرج وبايعهم بيعة العقبة عند منى وصار للمؤمنين دار عز ومَنَعَة - جعل المؤمنون من أهل مكة وغيرهم يهاجرون إلى المدينة، وكان المؤمنون السابقون بها صنفين: المهاجرين الذين هاجروا إليها من بلادهم، والأنصار الذين هم أهل المدينة وكان من لم يهاجر من الأعراب وغيرهم من المسلمين لهم حكم آخر، وآخرون كانوا ممنوعين من الهجرة لمنع أكابرهم لهم بالقيد والحبس، وآخرون كانوا مقيمين بين ظهراني الكفار المستظهرين عليهم، وكل هذه الأصناف مذكورة في القرآن وحكمهم باقٍ إلى يوم القيامة في أشباههم ونظرائهم، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاًّ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال: ٧٢- ٧٤) فهذا في السابقين ثم ذكر من اتبعهم إلى يوم القيامة فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنفال: ٧٥) وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (التوبة: ١٠٠) الآية، وذكر في السورة الأعراب المؤمنين وذكر المنافقين من أهل المدينة وممن حولها، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُواًّ غَفُوراً} (النساء: ٩٧-٩٩) . فلما كان المؤمنون يهاجرون إلى المدينة النبوية كان فيهم من ينزل على الأنصار بأهله أو بغير أهله؛ لأن المبايعة كانت على أن يؤووهم ويواسوهم، وكان في بعض الأوقات إذا قدم المهاجر اقترع الأنصار على مَن ينزل منهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حالف بين المهاجرين والأنصار وآخى بينهم. ثم صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئًا بعد شيء، فإن الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه والنبي صلى الله عليه وسلم يغزو الكفار تارة بنفسه، وتارة بسراياه فيسلم خلق تارة ظاهرًا وباطنًا، وتارة ظاهرًا فقط، ويكثر المهاجرون إلى المدينة من الأغنياء والفقراء والآهلين والعزاب، فكان مَن لم يتيسر له مكان يأوي إليه يأوي إلى تلك الصفة التي في المسجد. ولم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت واحد بل منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له ويجيء ناس بعد ناس وكانوا تارة يكثرون وتارة يقلون. فتارة يكونون عشرة أو أقل، وتارة يكونون عشرين وثلاثين وأكثر وتارة يكونون ستين وسبعين. وأما جملة من آوى إلى الصفة مع تفرقهم فقد قيل: كانوا نحو أربعمائة من الصحابة، وقد قيل: كانوا أكثر من ذلك. جمع أسماءهم الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي ولم يُعرِّف كل واحد منهم في كتاب تاريخ أهل الصفة [١] وكان معتنيًا بجمع أخبار النساك والصوفية والآثار التي يستندون إليها والكلمات المأثورة عنهم، وجمع أخبار زهاد السلف وأخبار جميع من بلغه أنه كان من أهل الصفة وكم بلغوا. والصوفية المستأخرون بعد القرون الثلاثة [٢] وجمع أيضًا في الأبواب مثل حقائق التفسير ومثل أبواب التصوف الجارية على أبواب الفقه، ومثل كلامهم في التوحيد والمعرفة والمحبة ومسألة السماع، وغير ذلك من الأحوال وغير ذلك من الأبواب. وفيما جمعه فوائد كثيرة ومنافع جليلة وهو في نفسه رجل من أهل الخير والدين والصلاح والفضل. وما يرويه من الآثار فيه من الصحيح شيء كثير، ويروي أحيانًا آثارًا ضعيفة بل موضوعة يُعلم أنها كذب. وقد تكلم بعض حفاظ الحديث في سماعه، وكان البيهقي إذا روى عنه يقول: حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه. وما يُظَنُّ به وبأمثاله - إن شاء الله تعالى - تعمُّدُ الكذب [٣] لكن لعدم الحفظ والإتقان يدخل عليهم الخطأ في الرواية، فإن النساك والعباد منهم مَن هو متقن في الحديث مثل ثابت البناني والفضيل بن عياض وأمثالهم ومنهم مَن قد يقع في بعض حديثه غلط وضعف مثل مالك بن دينار وفرقد السنجي ونحوهما. وكذلك ما يؤثره أبو عبد الرحمن عن بعض المتكلمين في الطريق أو ينتصر له من الأقوال والأحوال فيه من الهدى والعلم شيء كثير. وفيه أحيانًا من الخطأ أشياء، وبعض ذلك يكون عن اجتهاد سائغ. بعضه باطل قطعًا مصدره - مثل ما ذكر في حقائق التفسير - قطعة كبيرة عن جعفر الصادق وغيره من الآثار الموضوعة وذكر عن بعض طائفة أنواعًا من الإشارات التي بعضها أمثال حسنة واستدلالات مناسبة وبعضها من نوع الباطل واللغو، والذي جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن في تاريخ أهل الصفة وأخبار زهاد السلف وطبقات الصوفية يُسْتَفَاد منه فوائد جليلة ويجتنب ما فيه من الروايات، ومن أهل الآراء والأذواق من الفقهاء والزهاد والمتكلمة وغيرهم يؤخذ فيما يأثرونه عمن قبلهم، وفيما يذكرونه معتقدين له شيء كثير وأمر عظيم من الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله. ويوجد أحيانًا عندهم من جنس الآراء والأذواق الفاسدة أو المحتملة شيء كثير، ومن له من الأمة لسان صدق عام بحيث يُثْنَى عليه ويُحْمَد في جماهير أجناس الأمة فهؤلاء هم أئمة الهدى ومصابيح الدجى وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم وعامته من موارد الاجتهاد التي يُعْذَرُونَ بها وهم الذي يتبعون العلم والعدل فهم بعداء عن الجهل والظلم وعن اتباع الظن وما تهوى الأنفس. *** (فصل) وأما حال أهل الصفة هم وغيرهم من فقراء المسلمين (الذين) لم يكونوا في الصفة أو كانوا يكونون بها بعض الأوقات، فكما وصفهم الله تعالى في كتابه حيث بين مستحقي الصدقة منهم ومستحقي الفيء. فقال: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (البقرة: ٢٧١) إلى قوله: {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} (البقرة: ٢٧٣) وقال في أهل الفيء: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر: ٨) . وكان فقراء المسلمين من أهل الصفة وغيرهم يكتسبون عند إمكان الاكتساب الذي لا يصدهم عما هو أوجب أو أحب إلى الله من الكسب، وأما إذا أحصروا في سبيل الله عن الكسب فكانوا يقدمون ما هو أقرب إلى الله ورسوله. وكان أهل الصفة ضيف الإسلام يبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون عنده، فإن الغالب كان عليهم الحاجة، لا يقوم ما يقدرون عليه من الكسب بما يحتاجون إليه من الرزق. وأما المسألة فكانوا فيها كما أدَّبهم النبي صلى الله عليه وسلم: حرمها على المستغني عنها، وأباح منها أن يسأل الرجل حقه مثل أن يسأل ذا السلطان أن يعطيه حقه من مال الله أو يسأل إذا كان لا بد سائلاً الصالحين الموسرين إذا احتاج إلى ذلك ونهى خواص أصحابه عن المسألة مطلقًا حتى كان السوط يسقط من يد أحدهم فلا يقول لأحد ناولني إياه. وهذا الباب فيه أحاديث وتفصيل، وكلام للعلماء لا يسعه هذا الكتاب مثل قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه (ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل له ولا مشرف فخذه وما لا، فلا تتبعه نفسك) [٣] . ومثل قوله: (من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر) [٤] . ومثل قوله: (من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشًا - أو خموشًا أو كدوشًا - في وجهه) [٥] . وقوله: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) [٦] إلى غير ذلك من الأحاديث. وأما الجائز منها فمثل ما أخبر الله عز وجل عن موسى والخضر أنهما أتيا أهل قرية استطعما أهلها. ومثل قوله: (لا تحل المسألة إلا لذي ألم مُوجع أو غُرم مُفظع أو فقر مُدقع) . ومثل قوله لقبيصة بن مخارق الهلالي (يا قبيصة لا تحل المسألة إلا لثلاثة: رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فسأل حتى يجد سدادًا من عيش - أو: قوامًا من عيش - ثم يمسك، ورجل يحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته ثم يمسك، وما سوى ذلك من المسألة فإنما هو سُحتٌ أكله صاحبه سحتًا) [٧] . ولم يكن في الصحابة - لا أهل الصفة ولا غيرهم - من يتخذ مسألة الناس والإلحاف في المسألة بالكدية والمشاحذة لا بالزنبيل ولا غيره - صناعة وحرفة بحيث لا يبتغي الرزق إلا بذلك. كما لم يكن في الصحابة أيضًا أهل فضول من الأموال لا يؤدون الزكاة ولا ينفقون أموالهم في سبيل الله ولا يعطون في النوائب، بل هذان الصنفان الظالمان المُصِرَّان على الظلم الظاهر من مانعي الحقوق الواجبة والمعتدين حدود الله في أخذ أموال الناس كانا معدومين في الصحابة المُثْنَى عليهم. (فصل) من توهم أن أحدًا من الصحابة. أهل الصفة أو غيرهم، أو التابعين أو تابع التابعين قاتل مع الكفار أو قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه أو أنهم كانوا يستحلون ذلك أو أنه يجوز ذلك - فهذا ضال غاوٍ بل كافر يجب أن يستتاب من ذلك فإن تاب وإلا قتل {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: ١١٥) . بل كان أهل الصفة ونحوهم كالقُرَّاء الذين قنت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على قَتَلَتِهِم، هم من أعظم الصحابة إيمانًا وجهادًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرًا لله ورسوله كما أخبر الله عنهم بقوله: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر: ٨) وقال: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح: ٢٩) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: ٥٤) . (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))