وتسمى (الموضحة) لأبي علي محمد بن الحسن بن المظفر الكاتب اللغوي البغدادي المعروف بالحاتمي، شرح فيها ما جرى بينه وبين أبي الطيب المتنبي من إظهار سرقاته وإبانة عيوب شعره، وإنا نورد ما ذكره في مقدمتها من السبب في ذلك قال: لما ورد أحمد بن الحسين المتنبي مدينة السلام منصرفًا عن مصر ومتعرضًا للوزير أبي محمد المهلبي بالتخييم عليه، والمقام لديه، التحف رداء الكبر، وأذال [١] ذيول التيه، ونأى بجانبه استكبارًا، وثنى عطفيه جبرية وازورارًا. فكان لا يلاقي أحدًا إلا أعرض عنه تيهًا، وزخرف القول عليه تمويهًا، تخيل عجبًا إليه: أن الأدب مقصور عليه، وأن الشعر بحر لم يرد نمير مائه غيره، وروض لم يجن نواره سواه، فهو يجني جناه، ويقطف قطوفه دون من تعاطاه. وكل مجر في الخلاء يسر، ولكل نبأ مستقر، فعبر جاريًا على هذه الوتيرة مدة مديدة، أجررته رسن البغي فيها، فظل يمرح في تيهه حتى إذا تخيل أنه السباق الذي لا يجارى في مضمار، ولا يساوى عذاره بعذار، وأنه رب الكلام، ومفتض عذارى الألفاظ، ومالك رق الفصاحة نثرًا ونظمًا، وقريع دهره الذي لا يقارع فضلاً وعلمًا , وثقلت وطأته على كثير ممن وسم نفسه بميسم الأدب، وأنبط [٢] من مائه أعذب مشرب، فطأطأ بعض رأسه، وخفض بعض جناحه، وطأمن [٣] على التسليم له طرفه، وساء معز الدولة أحمد بن بويه - وقد صورت حاله أن يرد حضرته وهي دار الخلافة، ومستقر العز وبيضة الملك - رجل صدر عن حضرة سيف الدولة بن حمدان، وكان عدوًّا مباينًا لمعز الدولة، فلا يلقى أحدًا بمملكته يساويه في صناعته، وهو ذو النفس الأبية والعزيمة الكسروية. والهمة التي لو همت بالدهر لما تصرفت بالأحرار صروفه، ولا دارت عليهم دوائره، وتخيل الوزير المهلبي - رجمًا بالغيب - أن أحدًا لا يستطيع مساجلته، ولا يرى نفسه كفؤًا له، ولا يضطلع بأعبائه، فضلاًعن التعلق بشيء من معانيه! ! ، وللرؤساء مذاهب في تعظيم من يعظمونه، وتفخيم من يفخمونه، وتكرمة من يراعونه ويكرمونه، وربما حالت الحال، وأوشكوا عن هذه الخليقة الانتقال، وتلك صورة الوزير المهلبي في عوده عن رأيه هذا فيه. ولم يكن هناك مزية يتميز بها أبو الطيب عن الهجين الجذع من أبناء الأدب فضلاً عن العتيق القارح إلا الشعر، ولعمري إن أفنانه فيه كانت رطبة، ومجانيه عذبة، فنهدت [٤] له متتبعًا عواره، ومقلمًا أظفاره، ومذيعًا أسراره، وناشرًا مطاويه، ومنتقدًا من نظمه ما تسمح فيه، ومتحيّنًا أن تجمعنا دار يشار إلى ربها، فأجري أنا وهو في مضمار يعرف به السابق من المسبوق، واللاحق من المقصر عن اللحوق، وكنت إذ ذاك ذا سحاب مدرار، وزند في كل فضيلة وار، وطبع يناسب صفو العقار، إذا وشيت بالحباب، ووشت بها سائر الأكواب، هذا وغدير الصبا صاف، ورداؤه ضاف، وديباجة العيش غضة، وأرواحه معتلة، وغمائمه منهلة، وللشبيبة شرة [٥] وللإقبال من الدهر غرة، والخيل تجري يوم الرهان بإقبال أربابها، لا بعروقها ونصابها، ولكل امرئ حظ من مواتاة زمانه، يقضي في ظله أرب، ويدرك مطلب، ويتوسع مراد ومذهب. حتى إذا عدت عن اجتماعنا عوادٍ من الأيام، قصدت مستقره، وتحتي بغلة سفواء [٦] تنظر عن عيني باز، وتتشوف بمثل قادمتي نسر، وهي مركب رائع، وكأنني كوكب وقاد، من تحته غمامة يقتادها زمام الجنوب، وبين يدي عدة من الغلمان الروقة [٧] مماليك وأحرار، يتهافتون تهافت فريد الدر عن أسلاكه، ولم أورد هذا متبجحًا ولا متكثرًا بذكره، بل ذكرته لأن أبا الطيب شاهد جميعه في الحال، ولم ترعه روعته، ولا استعطفه زبرجه [٨] ولا زادته تلك الجملة التي ملأت أتهمة طرفه وقلبه إلا عجبًا بنفسه، وإعراضًا عني بوجهه، وقد كان أقام هناك سوقًا عند أغيلمة لم ترضهم العلماء، ولا حركتهم رحا النظراء، ولا أنضوا أفكارًا في مدارسة الأدب، ولا فرقوا بين حلو الكلام ومره، وسهله ووعره، وإنما غاية أحدهم مطالعة شعر أبي تمام، وتعاطي الكلام على نبذ من معانيه، أو على ما تعلقت الرواة مما يجوز فيه، فألفيت هناك فتية تأخذ عنه شيئًا من شعره. فحين أوذن بحضوري، واستؤذن عليه لدخولي، نهض من مجلسه، وإذا تحته أخلاق عباءة قد ألحت عليها الحوادث فهي رسوم دائرة، وأسلاك متناثرة، فلم يكن إلا ريثما جلست فأتانا فنهضت فوفيته حق السلام، غير مشاح له في القيام؛ لأنه إنما اعتمد بنهوضه عن الموضع أن لا ينهض إليَّ، والغرض كان في لقائه غير ذلك، وحين لقيته تمثلت بقول الشاعر: وفي الممشى إليك علي عار ... ولكن الهوى منع القرارا فتمثل بقول الآخر: يشقى رجال ويشقى آخرون بهم ... ويسعد الله أقوامًا بأقوام وليس رزق الفتى من فضل حيلته ... لكن جدود وأرزاق بأقسام كالصيد يحرمه الرامي المجيد وقد ... يرمي فيحرزه من ليس بالرامي وإذا به لابس سبعة أقبية كل قباء منها لون، وكنا في وغرة القيظ وجمرة الصيف، وفي يوم تكاد ودائع الهامات تسيل فيه. فجلست مستوفزًا [٩] وجلس متحفزًا، وأعرض عني لاهيًا، وأعرضت عنه ساهيًا؛ أؤنب نفسي في قصده، وأستخف رأيها في تكلف ملاقاته، فغبر هنية [١٠] ثانيًا عطفه، لا يعيرني طرفه، وأقبل على تلك الزعنفة [١١] التي بين يديه، وكل يومي إليه، ويوحي بلحظه، ويشير إلى مكاني بيديه، ويوقظه من سنته وجهله، ويأبى إلا ازوراراً ونفاراً، وعتوًّا واستكباراً. ثم رأى أن يثني جانبه إليّ، ويقبل بعض الإقبال عليّ، فأقسمت بالوفاء والكرم؛ فإنهما من محاسن القسم، أنه لم يزد على أن قال: إيش خبرك؟! فقلت: بخير أنا، لولا ما جنيته على نفسي من قصدك، ووسمت به قدري من ميسم الذل بزيارتك، وجشمت رأيي من السعي إلى مثلك، ممن لم تهذبه تجربة، ولا أدبته بصيرة، ثم تحدرت عليه تحدر السيل إلى قرارة الوادي، وقلت له: أبِنْ ممَ تيهك وخيلاؤك، وعجبك وكبرياؤك، وما الذي يوجب ما أنت عليه من الذهاب بنفسك والرمي بهمتك إلى حيث يقصر عنه باعك، ولا يطول إليه ذراعك، هل ههنا نسب انتسبت إلى المجد به، أو شرف علقت بأذياله، أو سلطان تسلطت بعزه، أو علم تقع الإشارة إليك به؟ إنك لو قدرت نفسك بقدرها، أو وزنتها بميزانها، ولم يذهب بك التيه مذهبًا، ما عدوت أن تكون شاعرًا مكتسبًا. فامتقع لونه، وغص بريقه، وجعل يلين في الاعتذار، ويرغب في الصفح والاغتفار، ويكرر الأيمان أنه لم يتبيَّني ولا اعتمد التقصير بي، فقلت: يا هذا إن قصدك شريف في نسبه تجاهلت نسبه، أو عظيم في أدبه صغرت أدبه، أو متقدم عند سلطانه خفضت منزلته، فهل المجد تراث لك دون غيرك، كلا والله لكنك مددت الكبر سترًا على نقصك، وضربته رواقًا حائلاً دون مباحثتك. فعاود الاعتذار، فقلت: لا عذر لك مع الإصرار، فأخذت الجماعة في الرغبة إليّ في مباشرته وقبول عذره، واستعمال الأناة التي تستعملها الحرمة عند الحفيظة، وأنا على شاكلة واحدة في تقريعه وتوبيخه وذم خليقته، وهو يؤكد القسم أنه لم يعرفني معرفة ينتهز معها الفرصة في قضاء حقي، فأقول: ألم أستأذن عليك باسمي ونسبي، أما كان لك في هذه الجماعة من كان يعرفني لو كنت جهلتني؟ وهب أن ذلك كذلك ألم تر شارتي، أما شممت عطر نشري، ألم أتميز في نفسك عن غيري؟ وهو في أثناء ما أخاطبه - وقد ملأت سمعه تأنيبًا وتفنيدًا - يقول: خفض عليك، اكفف من غربك [١٢] أردد من سورتك [١٣] استأن فإن الأناة من شيم مثلك، فأصحب [١٤] حينئذ جانبي له، ولانت عريكتي في يده، واستحييت من تجاوز الغاية التى انتهيت إليها في معاتبته، وذلك بعد ما رُضته رياضة الصعب من الإبل، وأقبل عليّ معظمًا، وتوسع في تقريظي مفخمًا، وأقسم أنه ينازع منذ ورد العراق ملاقاتي، ويعد نفسه بالاجتماع معي، ويسوقها التعلق إلى أسباب مودتي. فحين استوفى القول في هذا المعنى استأذن عليه فتى من فتيان الطالبين الكوفيين فأذن له، فإذا حدث مرهف الأعطاف تميل به نشوة الصبا، فتكلم فأعرب عن نفسه، فإذا لفظ رخيم ولسان حلو وأخلاق فكهة وجواب حاضر وثغر باسم في أناة الكهول ووقار الشيوخ، فأعجبني ما شاهدته من شمائله وملكني ما تبينته من فضله، فجاراه أبياتًا. قال ابن خلكان: ومن ههنا كان افتتاح الكلام بينهما في إظهار سرقاته ومعايب شعره، والرسالة طويلة تدخل في ١٢ كراسة، تشهد لصاحبها بالفضل الباهر مع سرعة الاستحضار وإقامة الشاهد.