للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مجمل الأحوال السياسية
لم نَرَ عامًا كثرت مشاكله السياسية كهذا العام. فإنا نرى خلل الرماد وميض
نار ويوشك أن يكون لها ضرام، في الشرق والغرب، في العالم القديم
والعالم الجديد.
ففي مياه الصين تتجمع الأساطيل الأوربية، وتتكاثف تكاثف الغيوم قبل نزول الصواعق. وفي إفريقيا تزحف الجنود وتتسابق الحملات إلى أعالي النيل، تسابق
خيل الطراد، وفي الهند قد سُقِيَتْ الأرض بدم الإنسان وسمدتها فضلات النسور
والعقبان من جثث القتلى، فأخرجت في هذا الربيع نبتًا خصيبًا، وفي كوبا وراء
الأوقيانوس العظيم قد صارت الحرب بين الأسبان والأميركان قاب قوسين أو أدنى،
وفي كريت لا يزال السيف مصلتًا والإخوة العثمانيون يفني بعضهم بعضًا، وفي
النمسا استفحل الخلاف بين العناصر المختلفة، فصار البعض يتوقعون انتشار عقد
الوفاق وسقوط تلك المملكة العظيمة، وفي إيطاليا وفينسيا ساد الجوع إثر غلاء
الخبز وقلة الأعمال، فثار الشعب ينهب الأفران مقتحمًا حراب البوليس، وهجمت
النساء صارخات طالبات لهن ولأولادهن خبزاً، أما في فرنسا فقد مرت الزوبعة
السياسية مرور الزوابع الطبيعية على أعشاب الأرض تعبث بها ولا تجر ضرراً.
ويطول بنا المقال إن رمنا تفصيل تلك الحوادث السياسية الخطيرة. على أنه
لا بد من الإلماع إليها إلماعًا، يطلع قراء المنار على إجمال تفاصيلها الماضية،
ويكون توطئة للحوادث الآتية.
***
المسألة الصينية
قتل بعض أشقياء الصينيين بعض مراسلي الكاثوليك الألمان في البلاد
الصينية، فاتخذت ذلك ألمانيا وسيلة إلى احتلال ثغر من أهم الثغور الصينية يدعى
كياوتشو، أنفذت إليه أسطولها في الشرق الأقصى فاحتله بلا حرب ولا نزاع؛ لأن
الحامية الصينية غادرته حين علمت بقصد الجنود الألمانية. ثم احتل الأسطول
الروسي بورت آرثر مقابل احتلال الألمان لكياوتشو، فأرغت اليابان وأزبدت،
وقامت إنكلترا وقعدت، وأنفذت الدول بوارجها إلى مياه الصين تباعًا، حتى حسب
الناس أن الحرب صارت أقرب من حبل الوريد وظنوا أنه قد حان تقسيم تلك
المملكة الواسعة.
ثم بان أن الدول لا تنوي التقسيم، لما يحول دون ذلك من الموانع السياسية،
وطلبت الصين قرضًا، فتنازع روسيا وإنكلترا عقد هذا القرض، واشترطت إنكلترا
على الصين شروطًا أهمها: فتح تاليان وان، فأثار ذلك تأثر روسيا، وآذنت الصين
بأنها إن هي فتحت (تاليان وان) أساءت الروسية معاملتها، فتنازع الصين عاملان
قويان، فباتت لا تعلم أيهما تعمل، حتى جاء يوم قيل فيه: إن إنكلترا أرجأت
البحث في فتح (تاليان وان) إلى فرصة أخرى. وقد وافت الرسائل البرقية في
الأسبوع الماضي تقول: إن الصين إجابة لطلب اليابان سألت روسيا عما إذا كان
ينسحب أسطولها من بورت آرثر في فصل الربيع، فأجابت روسيا: إن في
احتلالها بورت آرثر مصلحة للصين وكوريا معًا. ثم جاء أن روسيا تلح على
الصين بأن تؤجر هاربورت آرثر وتاليان وان إلى ٩٩ سنة، كما أجرت ألمانيا ثغر
كياوتشو وأنظرتها خمسة أيام، فإذا انقضت ولم تجبها الصين إلى طلبها عملت
روسيا في الصين عملاً عسكريًّا. فقامت التيمس بعد هذا الإنذار تقول: إن إنكلترا
منذ حرب القريم لم تكن يومًا أفرغ صبرًا مما هي الآن، وخطب ناظر البحرية في
مجلس العموم عند عرضه ميزانية البحرية فقال: إن الأسطول في غاية الاستعداد
فإن بقيت السلم كانت سلمًا شريفة، وإن نشبت الحرب (لا قدر الله) خرج
الأسطول ظافراً. أما ناظر الخارجية الإنكليزية فقد صرح أنه لا يرى دليلاً على ما
قيل من أن روسيا قدمت للصين إنذارًا. والله أعلم بمصير المسألة الصينية.
***
المسائل الإفريقية
قلنا: (المسائل الإفريقية) لا المسألة؛ لأن المشاكل في إفريقيا متعددة. أولها
حملة مصر على الدراويش. ثم الحملة الفرنساوية في النيل الأعلى. ثم ثورة أوغندا
ثم مسألة النيجر بين الفرنساويين والإنكليز. ثم مسألة الترنسفال بين البوير
والإنكليز أيضًا.
أما الحملة المصرية، فسنفرد للبحث في أمورها مقالات خصوصية، وأما
الحملة الفرنسية السائرة في مجاهل إفريقيا بقيادة الضابط الباسل مرشان، فلا يعلم
أحد الغرض الذي ترمي إليه حتى الآن. والمشهور أنها زاحفة لاحتلال الأراضي
التي وراء بحر الغزال في أعلى النيل، وبما أن تلك الأراضي هي غرض إنكلترا
أيضاً فالمنتظر أن تقوم قائمة الخلاف والنزاع بين الدولتين بشأن تلك الأصقاع في
وقت قريب. وقد أنفذت إنكلترا من جهة أوغندا إلى أعالي النيل من شهور عديدة
حملة إنكليزية بقيادة الماجور مكدونالد، غير أن تلك الحملة ما قطعت مسافة قصيرة
حتى ثار رجالها وهم من السودانيين على القائد مكدونالد، فتحصنوا في حصن هناك،
فحاصرهم الماجور قمعًا لثورتهم وإرغامًا لأنوفهم، ولطلب المدد تشديدًا للحصار،
غير أن السودانيين رأوا من المحاصرين غفلة، ففروا من الحصن ونجوا بأنفسهم،
فرجع مكدونالد أدراجه، ولم يزل مرشان يغذ السير إلى غرضه بخطى واسعة.
وأشيع يومئذ أن حملة مرشان قد ذبحت عن آخرها، غير أنه ظهر بعد ذلك أن هذا
الخبر كان مكذوبًا. هذا ويرى البعض أن احتلال فرنسا أعالي النيل سيكون بداية
فتح المسألة المصرية.
وأما الخلاف الذي بين فرنسا وإنكلترا بشأن النيجر فهو ناشِئ عن طمع كل
من الدولتين في تلك الأراضي واختلافهما على تحديد أملاكهما فيها. ويقول
الفرنسيون: إن شركة النيجر منشأ ذلك الخلاف كله، وقد عقدت في باريس من عهد
قريب لجنة من الإنكليز والفرنسيين للبحث في دعاوى الطرفين وحل تلك المشاكل
بالطريقة الودية. وقد أضيف في الأسبوع الماضي مشكلة جديدة إلى تلك المشاكل
القديمة، فإن حملة الفرنسيين اجتازت نهر النيجر وحاولت الزحف على أرض تقول
إنكلترا: إنها تحت حمايتها، وقد أمدت إنكلترا سلطان تلك الأرض بجند يساعده
على إرجاع الفرنساويين على أعقابهم، ولم يرد بعد ذلك نبأ جديد.
وأما الخلاف بشأن الترنسفال فمَنْشَؤُهُ طموح إنكلترا إلى تقييد تلك الجمهورية
الصغيرة بقيود سيطرتها، وقد نظم دكتور إنكليزي يدعى جمسن حملة هجم بها على
تلك الجمهورية على حين غفلة، فالتقتها سيوف البوير ونالت منها ما نالته سيوف
الأحباش في موقعة عدوه من الطليان، ولا يزال مستر شامبرلين وزير المستعمرات
الإنكليزية يؤكد لتلك الجمهورية، حتى الآن أنها تحت الحماية الإنكليزية. ولعمر
الحق إن إمبراطورية الأحباش وجمهورية الترنسفال قد أظهرتا بأسلوب عجيب
مقدرة الشرقيين على الدفاع عن حريتهم واستقتالهم في سبيل ذلك الدفاع
الشريف.
وسنتكلم فيما يلي من الأعداد على بقية المشاكل السياسية.
***
الحبشة
بنى السيف في القرن التاسع عشر إمبراطوريتين عظيمتين؛ الأولى:
الإمبراطورية الألمانية، والثانية: الإمبراطورية الحبشية.
فإن تسليم سيدان وباريز ألبس غليوم الأول تاج الإمبراطورية الألمانية،
وانتصار الأحباش على الطليان في موقعة عدوه أنال منليك رئاسة الحبشة وجعله
إمبراطورًا على ملوكها المتحدة.
والحبشة أمة شرقية، قد أيقظها دوي مدافع الطليان من سباتها العميق، فهبت
إلى دخول التمدن من أبوابه، ولا يبعد أن نراها بعد خمسين سنة تضاهي شقيقتها
اليابان الشرقية قوة ومنعة وعزًّا. وإذا بلغت الحبشة مبلغ اليابان كان ذلك دليلاً ثانيًا
على استعداد الشرقيين للتقدم العصري والارتقاء، وعلى قابليتهم للانتظام ومقدرتهم
على الثبات خلافًا لما يشيعه عنهم الأخصام.
وليس غرضنا الآن تبيان ما بلغته الحبشة وما ستبلغه من التقدم إن استمرت
على سيرها الحثيث.
وانما غرضنا ذكر حديث جرى في بورسعيد بين أحد مكاتبي الجرائد
الأوروبية والمسيو أتوجوزف سكرتير منليك الخاص، فإن في ذلك الحديث بعض
اللذة والفائدة، وهو بصور السؤال والجواب.
س: هل تحب مصر؟
ج: لا أحبها لأنها بلاد قوم لا يحبوننا، فهم يزعمون أن الحبشي ملك يدهم،
لذلك يسمونه " عبدا "
س: وما رأيك في الإنكليز؟
ج: لا نخشى لهم بأساً وحسبهم الآن الدراويش خصمًا. وإنا لا نحذر غير
الفرنساويين، ولو أنا انكسرنا في حربنا مع الطليان لبتنا طعمة للفرنساويين.
س: وما صنعتم بأسرى الطليان؟
ج: لقد عاملنا الجميع بكل رفق وتؤدة؛ لأن قوانين الحبشة تنهى عن مضايقة
الأسرى أو تعذيبهم، وقد أطلقنا سراحهم جميعهم، فرحل البعض بسلام إلى بلادهم،
وعلق البعض نساءنا فاستحبوا الإقامة عندنا. وقبل أن يطلق الطليان أسرانا سمعنا
أنهم أساءوا معاملتهم، فلم يحملنا ذلك على مقابلة الإساءة بالإساءة؛ لأنا نعتبر
الأسير مقدسًا، لا يجب أن يمس بسوء.
س: ما قولك فيما شاع من أن إنكلترا ستمنحكم زيلع على أن تلتزموا الحياد
في الحرب التي بين مصر والدراويش؟
ج: لا أعلم في ذلك شيئًا؛ لأني أجهل حوادث بلادي منذ سبعة أشهر، علمًا
أني لا أرى أفضل من الحياد في مثل هذا الظرف، فإن المتحاربين مسلمون، ولا
أرى ما يوجب علينا اختراط الحسام دفاعًا عن المسلمين.
س: وهل تحمل لجلالة الإمبراطور كثيرًا من الهدايا؟
ج: لقد بعث معي جلالة السلطان فرسين من الخيل الجياد، ونيشانًا باهرًا،
وبعث جلالة القيصر كلبي صيد وسيفًا ثمينًا وغير ذلك من الهدايا.
س: هل لك أن تتفضل عليّ بوصف هيئة الحكومة في بلادكم؟
ج: لا عندنا مجالس شورى ولا دستور ولا نواب، فإن جلالة الإمبراطور هو
الحاكم الأعلى وله مجلسان: عقلاء الشيوخ يستدعيهم عند الاقتضاء، وهناك محكمة
فيها قاض واحد لا يحكم في قضية إلا عند شهادة رجلين، أما القاتل فجزاؤه القتل،
وإن شاء الإمبراطور أن يعفو عن القاتل كان لعائلة المقتول أن تعترض على ذلك العفو
ولعائلة المقتول أن تنفذ بيدها حكم الإعدام.
س: وهل الملكة نبيهة متهذبة؟
ج: اسم جلالتها تايتيس أعني الشمس وهي نبيهة وشديدة الاهتمام بالآداب
العمومية.
س: بما أنك ذكرت لي معنى اسم الملكة فأرجو أن تذكر لي ما معنى اسم
(منليك) ؟
ج: إن تاريخ هذه الكلمة قديم، فقد جاء في التقاليد القديمة أن ملكة سبأ سمعت
بحكمة سليمان الحكيم، فوفدت عليه. ثم وضعت منه غلامًا فراعها ذلك فصاحت:
(ماذا يقول سليمان) . فقولها: (ماذا يقول) ترجمته في اللغة الحبشية (منليك) ،
ولذلك سمي به ابن ملكة سبأ.
س: ما عدد سكان الحبشة؟
ج: عددهم خمسة ملايين من الأحباش المسيحيين ومليونان ونصف من
المسلمين، واثنا عشر مليونًا من الوثنيين.
س: وهل يعيش هؤلاء كلهم براحة وسلام؟
ج: يعيشون بالراحة الممكنة على أن الأرض مخصبة والهواء معتدل والحرية
مطلقة للجميع. أما الآداب العمومية فنقية؛ لأن الاهتمام بها عظيم. وفي المدن
الكبرى مدارس للفرير تربي الأولاد أحسن تربية.
س: نسيت أن أسألك عن نظام البوليس؟
ج: لا بوليس في الحبشة. فإن كلاًّ منا يحترم ملك الغير وحقوقه، وعنواننا
كلنا: (أغلق شفتيك وافتح بابك) - يريد: قلة الكلام وكثرة الضيافة. انتهى
على أن تلك الأمة الخارجة من غياهب الهمجية خروج الزهور من أكمامها، لا
تزال في ظلمة التعصب الديني والجهل الوخيم، لذلك لا تُحْسِن معاملة المسلمين من
رعاياها، على أنها ستعلم خطأها حين يسقط عن عينيها برقع الجهل والغباوة وما
سبب التعصب الذميم إلا الجهل الوخيم. اهـ من ترجمة بعض الكتاب.
هذا ما اخترناه من العدد الأول وما بعده إلا (الأخبار المحلية) وبرقيات
الأسبوع.
((يتبع بمقال تالٍ))