لقد مرض أستاذنا منذ أشهر مرضًا كنا نظن أنه من الأمراض الهينة التي كانت تعتاده، ولكن طال الزمان ورأينا كل من عُرِضَ عليه من الأطباء ينهاه عن الأعمال العقلية وإجهاد الفكر، ويأمره بالحمية والراحة التامة وهو لا يزداد إلا إجهادًا لنفسه وجهادًا لأمته، وكان موضع المرض المعدة والأمعاء، فانتقل إلى الكبد فاختلف الأطباء حينئذ بين قائل: إن المعدة هي الأصل والكبد تأثرت منها وقائل: إن الكبد بتمددها تضغط على المعدة فتمنعها من وظيفتها وأجمعوا على اختلافهم في أي العضوين هو الأصل على وجوب ترك العمل بتاتًا والتعجيل بالسفر إلى أوربا، وكل منهم أشار بترجيح بلاد واختيار أطبائها فرضي الأستاذ بالسفر، ولكن لم يرض القدر إذ كانت السفن الدورية التي تنقل الناس إلى أوربا لا تقبل زيادة على من سبق إلى أخذ جوازاتها من السائحين والمصطافين إلى ١٤ من الشهر الإفرنجي الماضي (يونيو) فأخذ جوازًا وصبر عن السفر، ولكنه لم يصبر عن العمل كدأبه وعادته، فكان يبيت على فراش الآلام ويغدو إلى محل عمله؛ فينظر في الفتاوى وفي أعمال مجلس الشورى، ومجلس الأوقاف الأعلى وأعمال الجمعية الخيرية الإسلامية وأوقاف الحنفية، ويشتغل مع اللجنة التي يرأسها لوضع نظام لمدرسة القضاء الشرعي، ويحضر امتحان مدرسة دار العلوم وينظر في حاجات العفاة وطلاب المساعدة، والشفاعة عند الحكام فيقضي حاجاتهم حتى ثقلت عليه وطأة المرض وعجز عن الخروج واشتدت عليه الآلام حتى كان - والذي خلقه حجة على هذه الأمة التي زرئت بالكسل والخمول - يشتغل على فراشه عند سكون نوبة الألم ولم يكن شيء من ذلك الشغل لنفسه ولا لأهله وولده ولكنه للناس، وهل كان الناس يشفقون عليه ادخارًا له أو تأدبا معه أو عملاً بالذوق الذي به أهل هذا البلد؟ كلا إنهم كانوا يكلفونه النهوض بأثقالهم وقوفًا على سريره وهو مضطجع أو مستلقٍ عليه، وكان يعمل ما قدر ويعتذر عما يعجز طالبًا الإنظار والإمهال إلى أن تحسن الحال. جرى على هذه الحال يعمل للناس والمرض يعمل فيه عمله، وينهك قواه وينحل جسده، حتى إذا ما دنا موعد سفره رآه بعض الأطباء فقال: إن المرض ينذر بالخطر ولا يجيز له الإقدام على السفر، فجيء بطبيب آخر؛ فقال قولة الأول، فكتم هذا القول من عرفه من الأصدقاء وذي القربى، وساروا به في اليوم التالي إلى الإسكندرية (١٠ ربيع الآخر) ورآه من ليلته بعض أطبائها؛ فقالوا مثل ما قال الأولان، وهو لم يعلم بهذا القول بل قيل له: إن الأطباء قالوا: إن جسمك لا يقوى على مشقة سفر البحر؛ فيجب أن تتربص في الإسكندرية لعلك بتغيير الهواء تجد قوة تمكنك من السفر، وعند ذلك هيأ له الصديق الوفي محمد بك راسم دار أخيه في رمل الإسكندرية ونقله إليها. كانت الجرائد اليومية أذاعت خبر سفر الأستاذ إلى أوربا، ثم ذكرت أنه أرجأ السفر بأمر الأطباء فعلم القاصي والداني من أهل هذا القطر بمرضه، وظهر من آيات مكانته في نفوس الناس ما لم يكن يعلم كله، فكان شُغلاً شاغلاً للعقلاء والفضلاء من جميع الأصناف والطبقات، فكان أمراء البيت الخديوي ومن حضر من نظار الحكومة لا سيما رئيسهم (القائم مقام الخديوي) وغيرهم من كبراء الأمة يترددون على الدار التي يقيم فيها المرة بعد المرة، وكان بعض الأمراء يرسلون إليه أطباءهم وكانت الرسائل ترد كل يوم في البرق والبريد من جميع أنحاء القطرين - مصر والسودان - تسأل عن صحته، وكلما وجد يومًا راحة تبشر الجرائد بها الأمة فيصبح الناس مطمئنين فإذا سكتت الجرائد يومًا عن البشارة لجّوا في السؤال مستخبرين. أما نحن - معشر أهليه وأقرب أصدقائه ومريديه - فإننا نتراوح بين اليأس والرجاء إذا رأيناه في راحة من الألم يرجح أملنا حتى إذا ما تألم عظم خوفنا ووجلنا، فمثلنا في ذلك مثل مقياس الحرارة كل يوم في صعود وهبوط بحسب ما نرى من حاله، ولا غرو فهو كالهواء لحياتنا المعنوية وكالشمس لأمتنا المسكينة، ونسأل الله تعالى دفع البلاء واللطف في القضاء، وتعجيل الشفاء، إنه سميع الدعاء.