للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(جمعية الشورى العثمانية)
ليس في الدنيا مملكة كالمملكة العثمانية في اختلاف الأجناس واللغات والملل
والنحل , وقد سادت دولة الترك هذه الشعوب المتفرقة بالقوة العسكرية بضعة قرون
ولكنها لم تحولهم عن لغاتهم ولا عن أديانهم , ولم توحد بينهم بجنسية قانونية
يتحدون فيها بالعدل والمساواة في الحقوق، لم تفعل كما فعلت دول العرب في
تحويل الشعوب عن دينها ولغتها معًا أو عن أحدهما بالقوة الأدبية، ولا كما فعلت دول
أوربا في تحويل الوثنيين الأصلاء واليهود والعرب الدخلاء عن دينهم بالقوة القاهرة
وإبادة من تأبَّى وإجلائه، فبقيت هذه الشعوب التي لم تتحد مع الدولة برابطة لغة
ولا دين ولا حكومة مساواة تفترص النهز للخروج عليها والانفصال منها , فمنهم
من قضى مأربه ومنهم من ينتظر.
كان ضعف هذه الشعوب وجهلها وعدم النصير لها هو العون للدولة على
إخضاعها وسيادتها بالقوة , ولكن صروف الزمان قد أفاضت على هذه الشعوب
شعاعًا من نور العلم بشؤون الاجتماع البشري، وأوجدت لهم أنصارًا من دول أوربا
التي أربت قواها على قوة الدولة , واتفق أن اشتد من أول هذا القرن
(الهجري) ظلم الدولة واستبداد السلطة المطلقة فيها حتى كان نفور المتحدين معها
في الدين واللغة والجنس منها (أي الترك) أشد من نفور المتحدين معها في الدين
فقط كالعرب والأكراد؛ لأن سهم الترك من شعاع العلم كان أوفر، وشعورهم بألم
زوال السلطة أقوى , فانبرى بعض أهل الغيرة من الترك إلى تأليف جمعية سرية
تسعى في تلافي الخطر الذي ينذر دولتهم بإزالة الحكم المطلق الاستبدادي المدمر
للممالك والمهلك للأمم وإعادة مجلس (المبعوثان) والعمل بالقانون الأساسي،
ولكن السلطان تتبع بأعوانه أثر الجمعية فمزق شملها قبل أن تبدأ بعمل ما , وظهر من فساد أخلاق بعض أعضائها الذين صاروا أعوانًا للاستبداد بما نالوا من الرواتب
والرتب وما ذهب بثقة الناس حتى من الصادقين من سائرهم.
هذا وإن هذه الجمعية لما لم تكن مؤلفةً من جميع الشعوب العثمانية كانت
جديرةً بأن لا تدرأ الخطر، ولا تنال الظفر، لهذا فكر كثير من عقلاء العثمانيين
بوجوب السعي في تأليف جمعية من الشعوب العثمانية كلها ومازال هذا الفكر يتقلب
في الأطوار حتى تمخض فولد (جمعية الشورى العثمانية) .
تألفت هذه الجمعية في القاهرة من أفراد من الترك والعرب والأرمن والروم
والكرد , والغرض منها اتحاد الشعوب العثمانية على اختلاف أجناسها ومللها في
السعي لجعل الحكومة العثمانية حكومة شورى وعدل , وهذه هي الطريقة المثلى
لصيانة الدولة من التمزيق بالاختلاف الذي هو ظهير الاستبداد، والتفرق الذي هو
نصير الاستعباد، ولو أن مؤسسي جمعية تركيا الفتاة اهتدوا إلى هذا التأليف بين
الشعوب والملل في ابتداء العمل؛ لما نزل ببلاد الأرمن وكريت ومكدونية ما نزل،
ولما تفاقم أمر الاستبداد واستفحل، فعسى أن يسرع العثمانيون إلى الدخول في
هذه الجمعية أفواجًا ويعضدوها بآرائهم وأموالهم , وهذه صورة نشرة منها جاءتنا في
البريد مطبوعةً بالتركية والعربية والفرنسية والأرمنية:
(اللائحة الأساسية لجمعية الشورى العثمانية)
تألف جمعية لجميع سكان المملكة العثمانية باسم جمعية الشورى العثمانية وهذه
لائحتها الأساسية:
مادة ١: القصد من تأسيس هذه الجمعية هو جعل الحكومة العثمانية
دستوريةً شورويةً بالفعل.
مادة ٢: إن الجمعية ستبذل ما في وسعها للوصول إلى غرضها هذا بكل
الوسائل المشروعة.
مادة ٣: إن جمعية الشورى العثمانية تؤلَّف من العثمانيين من غير التفات
إلى الدين والجنسية.
مادة ٤: يكون للجمعية لجنة مركزية أصلية تقوم بوضع نظامات الجمعية
وقوانينها.
مادة ٥: إن قاعدة أعمال اللجنة المركزية هي الآن بمصر القاهرة.
مادة ٦: إن فروع الجمعية تكون كلها تابعة في أعمالها للجنة الكبرى
المعروفة باسم اللجنة المركزية الأصلية.
مادة ٧: إن سير أعمال الجمعية يعين من قِبَل اللجنة المركزية.
مادة ٨: إن مقصد الجمعية الساعية للحصول عليه ليس خفيًّا , لذلك يجوز
من الآن إعلان وجودها.
مادة ٩: إن اللجنة المركزية تقوم بوضع القوانين وطبعها وتسمية الأشخاص
اللازمين للوظائف التي ترد بالقوانين وتعيين وظائف كل فرد من الجمعية ومراقبة
أعمال الموظفين.
مادة ١٠: تطبع هذه اللائحة الأساسية باللغات التركية والعربية والأرمنية
والإفرنسية.
هذا وإن الذين وضعوا هذه اللائحة الأساسية يرجون من جميع إخوانهم
العثمانيين الذين يهمهم خير وطنهم وشرفه ومجده أن ينضموا إليهم ويساعدوهم
للوصول إلى هذه الغاية الشريفة التي تسعى إليها جمعيتهم , والله الموفق.
جميع المخاطبات تُرسل الآن موقتًا إلى صندوق البوستة نمرة ١١٧٤.
... ... ... ... ... ... ... ... (جمعية الشورى العثمانية)
***
(أمير - بل ملك - أفغانستان في الهند)
طالما تمنى الإنكليز أن يزور أمير الأفغان بلاد الهند , وقد نالوا في هذه الأيام
ما تمنوا فسُروا بذلك , ولما وصل حبيب الله خان إلى الهند خاطبه ملك الإنكليز
على لسان البرق بلقب (جلالة الملك) وكان يقال: إن إنكلترا لا تعد أفغانستان
مستقلةً تمام الاستقلال، بل تحت حماية حكومة الهند الإنكليزية فهذا اعتراف من
ملك الإنكليز بأنها مملكة لا إمارة , وهذا هو أثر الحزم وحسن السياسة من الأمير
عبد الرحمن خان رحمه الله والملك حبيب الله خان وفقه الله.
ليس من موضوع المنار أن يذكر أخبار احتفال حكومة الهند بضيفها الجليل ,
ولكن إذا ترك خبر زيارته لمدرسة العلوم في عليكرة يكون قد قصر فيما هو من أهم
موضوعاته. زار الملك المدرسة وبحث فيها بحث مفتش خبير، فكان بحثه من
آيات علمه وعقله , قابله أعضاء مجلس إدارة المدرسة وكانوا ٣٢ فكان جل
مذاكرته معهم في المباحث الدينية حتى قيل: إنهم عجزوا عن مجاراته والإجابة عن
جميع أسئلته , ولما أطلعوه في مكتبة المدرسة على بعض المصاحف والكتب الدينية
قال: إنني عالم بما في هذه الكتب وأريد أن أقف على ما في عقول الذين
يتدارسونها , وبعد أن صلى الظهر في جامع المدرسة طلب أن يرى الدروس
فرتبت الفرق في حجراتها , واطلع على عدة منها وظهر اهتمامه وإصغاؤه في
درس الاقتصاد السياسي ودرس التاريخ ودرس تعليم اللغات ودرس أصول الدين ,
وقد استأذن أستاذ هذا الدرس في سؤال بعض الطلبة وبعد الإذن طفق يسأل مدة
ساعة كاملة، ثم أمر بعض الطلاب بقراءة آيات من القرآن وكانت عينا الملك
تفيضان من الدمع عند سماع التلاوة.
وطلب أن يقف على درس طلبة الشيعة وقد قال لهؤلاء الطلاب: أصيخوا لما
أقوله لكم أيها الطلاب , أنتم في شرخ الشباب وستذكرون ما أقوله لكم متى تقدمتم
في السن، تسمعون الناس يقولون: إن أمير أفغانستان سني متعصب أيلزم أن أكون
متعصبًا؛ لأنني سني؟ ! أتفضلون أنتم الهندوس على أهل السنة؛ لأنكم من
الشيعة؟ ! كلا وإنني - وأنا سني - لا أفضل الهندوس على الشيعة. قرأتم في
الجرائد أنني نهيت في دلهي عن تضحية البقر يوم العيد وأنا هناك مجاملة للهندوس
وتحاميًا لجرح عاطفتهم الدينية، فإذا كان هذا شعوري في مجاملة الهندوس فكيف
يكون شعوري وميلي إلى الشيعة؟ إذًا لا تصدقوا أنني متعصب، إن في رعيتي
السني والشيعي والهندوس واليهود , وقد أطلقت للجميع الحرية في الدين والمذهب.
نعم لا أسمح للشيعة أن تهين الخلفاء الثلاثة وتزدريهم، فإن كان هذا يعد تعصبًا فأنا
متعصب.
كانت المدرسة قد أعدت خطبةً للترحيب به واطلع عليها كما هي العادة في
مثل ذلك فلم يسمح بقراءتها كلها حرصًا على الوقت , وخطب هو بالفارسية خطابًا
افتتحه بالشكر لحكومة الهند على مساعدة المدرسة , وذكر أنه سمع عن المدرسة
الحسن والسيئ، وكان السيئ هو الغالب على ذهنه قال: (فجئت لأعرف الحقيقة
بنفسي؛ لأنني لا أثق في شيء من الأعمال بالروايات) ، ثم صرح بأنه بعد
الاختبار الدقيق علم أن الطاعنين في المدرسة كانوا كاذبين، وأكد ذلك ثلاثًا قال:
(وجدت مجلس الإدارة يبذل العناية التامة لجعل الطلبة على يقين في إيمانهم ,
وأن الطلبة يتقدمون وينمون ليكونوا من المسلمين الصالحين , وإنني سألتهم أسئلةً
يعسر على بعض المسلمين الصالحين حلها فأجابوا عن كل سؤال، ولم تكن
أجوبتهم سطحيةً لا تتجاوز حناجرهم بل كانت علمًا فائضًا عن قلوبهم فأحمد الله أن
وجدتهم على ثبات في دينهم واستقامة في آدابهم , وسيكون حبيب الله خان بعد اليوم
أحرص الناس على قطع ألسنة من يذمون هذه الكلية (وهنا صفق الحاضرون،
فأشار بيده أن أمسكوا) وقال:
(من كان لا يزال يظن أن الدين والعلم لا يتفقان , وأن الدين يضعف حيث
ينمو العلم فليأت إلى هذه الكلية وليرَ كما رأيت ما يفعل العلم لفائدة الدين ومصلحة
النابتة الجديدة.
بلغني أن بعض المسلمين في الهند يسيئون الظن في بعض فروع التعليم
فيالذلك من جهل فاحش. أصيخوا لما أقول: إنني أدافع عن التعليم الغربي وقد
استبدلت بحسبانه طريقًا للشر إنشاء كلية دعوتها (الكلية الحبيبية) إضافة إلى اسمي
تدرس فيها العلوم الأوربية على الطريقة الأوربية إلا أنني أصر على القول بأنه لابد
من جعل التعليم الديني أساسًا تقوم عليه جميع أركان التعليم فإذا هدمتم الأساس هدم
ما بني عليه , لذلك أقول لكم: اجعلوا تمرين الطلبة في علوم الدين غاية الغايات ,
وقد وضعت هذا الشرط في كليتي , وأرجو أن يراعى هنا بالدقة التامة , ولكن مع
مراعاة هذا الشرط أكرر القول بأنني صديق مخلص للتعليم الغربي وأحب له النجاح
التام) .
ثم آذن القوم بأنه قد وهب المدرسة عشرين ألف روبية هبةً معجلةً ومرتبًا
سنويًّا قدره ستة آلاف روبية.