للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أكل لحم الخنزير
هل يشمل شحمه وكل ما يؤكل منه؟

(س٥٠) استفتي في هذه المسألة زميلنا الكريم الأستاذ سيف الدين رحال
الشهير محرر جريدة الفطرة الغراء وناموس مؤتمر الجمعيات العربية بالبرازيل،
فأجاب عنها بالجواب الآتي المتضمن لحكمة التحريم وأرسله إلينا لننشره في المنار
ونعلق عليه رأينا في الفتوى، فلم يسعنا إلا إجابته، وهذا نص ما جاءنا منه مبدوءًا
بخطابه للمستفتي دون خطابه لنا الذي تركنا نشره لطوله.
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة الأخ الصالح السيد أحمد حديد، أدام الله بركته عليه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فقد وصلتني فتواكم حال انعقاد
(مؤتمر الجمعيات الاستقلالية السورية العربية) للبحث في قضية الاستقلال وما
يرتبط بها من القضايا المتعددة وليس في الإمكان إجابتكم بالتفصيل، فأبادر بالإيجاز
مرجئًا التطويل لفرصة أخرى:
نذكر هنا نص سؤالكم ونجيب عليه حسب معلوماتنا القاصرة، ونعتقد بمن هو
أكفى منا في هذا الميدان فلا ضير عليكم أن تلجأوا إلى ساحته؛ فإنكم ولا شك
تجدون فيها خيرًا جوابًا وخيرًا سندًا.
السؤال
تقولون: ما هو المحرم أكله في الخنزير؟ هل هو لحمه فقط أم لحمه
وشحمه وكل ما فيه؟ نرجو الإفادة شرعًا ولكم الفضل والثواب.
الفتوى
حكم كتاب الله في ذلك
نجيب على سؤالكم بالإيجاز:
إن آيات التحريم في القرآن قد وردت بصيغة التخصيص في أن المحرم من
الخنزير لحمه، فقد ورد في سورة المائدة قول الله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ
وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ
وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ
اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ
مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا
عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ * الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (المائدة: ٣-٥) ... إلخ.
وورد في سورة البقرة قوله عز شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ
الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: ١٧٢-١٧٣) .
وورد في سورة الأنعام قوله جل جلاله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً
عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام: ١٤٥) .
فالناظر في الآيات المذكورة يجد أن لحم الخنزير مُحرَّم تحريمًا قطعيًّا لورود
النص الصريح فيه، سواء ورد لفظ لحم بالمعنى الحقيقي، أو ورد مجازًا مرسلاً
مرادًا به كل الخنزير، فإن كان ورود المعنى لأجل الحقيقة الظاهرة فظاهره كون
لحم الخنزير حرامًا، وإن أريد المجاز فالمعنى أن الخنزير كله لحمه وشحمه ودهنه
وكبده وطحاله محرم، فيكون تحريم الجزء الأكبر مرادًا به الكل، هو تحريم قطعي
للكل أيضًا، أي لما بقي من الكل غير اللحم، فمن أصر على أن لفظ اللحم وارد
وقاصر على معناه الحقيقي جاز له القول بالتحريم القطعي في اللحم وبالظني في
غيره إذا قام عليه دليل من السنة والإجماع أو بقياس أهل الحل والعقد، فإن لم يقم
كان التحريم ظنيًّا من باب سد الذريعة، إذ في تحريم الكل سد ذريعة اقتناء الخنزير
للانتفاع بما هو غير اللحم مما يميل المترخص إلى تحليله جمودًا عند النص، وفيه
قطع دابر ما يؤدي إليه الانتفاع من التفريط في التحريم للمحرم بجر المنفعة لما
دونه المظنون في حله، ولا يصح ضرب المثل بضرورة منع زرع العنب والتمر
منعًا لاستخراج الخمر منهما؛ فإنه مثل فاسد لوجود الفرق العظيم في الأمرين؛ لأن
شحم الخنزير ودهنه وكبده وطحاله موجودة فيه بالذات ملاصقة لما حرَّم الله بالنص
بصريح اللفظ والمعنى؛ وإنما الخمر محدثة يأثم عاصرها وبائعها ومشتريها وحاملها
والمحمولة إليه لشربها، ألا ترى أن الله سبحانه وتعالى قد قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
فَلاَ تَقْرَبُوهَا} (البقرة: ١٨٧) ومعنى ذلك أن للحلال حدودًا ينتهي عندها حيث
يبتدئ الحرام، فإذا تطرف المرء فقد ينتهي منها إلى الحرام أو يختلط عليه آخر
المحللات بأوائل المحرمات، فيلج أبواب الشبه والالتباس نجانا الله منها؛ فإنها
أبواب الريبة والحيرة.
وإنك لتجد في آية الأنعام قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (الأنعام:
١٤٥) والهاء في (إنه) يحتمل أن تعود على لحم الخنزير، كما يحتمل أن تعود
على الخنزير نفسه، بل قال النحاة إن الضمير يعود على الأقرب، فالقول بأن
تأكيد النعت بالرجس راجع إلى الخنزير ذاته صحيح، وهو تشنيع وصف الله به
عبادة الأوثان في نهيه عنها بقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} (الحج:
٣٠) كما وصف به الخمر والميسر: {وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ} (المائدة: ٩٠)
في آية أخرى.
نعم قد وردت صيغة التحريم في آية البقرة بصيغة الحصر (بإنما) كما وردت
في سورة الأنعام حصرًا (بإلا) ولكن الحصر وارد هنا لبيان أن الله جلَّ شأنه لم
يحرِّم على المسلمين جميع ما حرَّمه على غيرهم من الأمم الأخرى؛ وإنما حرم
عليهم ما ذكره فقط من المحرمات قليلة العدد التي ذكرها وتكرم بحل غيرها مما دعا
إلى يأس المخالفين الذين ذكرهم بقوله: {اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ
تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} (المائدة: ٣) وقد ذكر في آيات التحريم من قواعد سننه ما
فيه يسر للمسلمين، فذكر ثلاث قواعد هي أصل التشريع الصحيح عند العلم
والاجتماع:
القاعدة الأولى: تحليل الطيبات {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (المائدة: ٤) {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ... } (المائدة: ٥) .
القاعدة الثانية: إن تحريم الله لما حرم لم يكن لمجرد التحريم، بل لغاية أسمى
وهي لتطهير الإنسان من الواجفات الحيوانية كأكل الموتى ولعق الدم المسفوح أو
أكل ما هو رجس سواء أكان لقذره أم لما فيه من الجراثيم المؤذية، ولتبرئته من
الفسق والشرك الخفي بتجنبه استيعاب ما ذبح للأوثان أو لغير الله مطلقًا مثل ما ذُبح
على النصب ... إلخ.
القاعدة الثالثة: منع الحرج عن الإنسان واردة اليسر له لا العسر بالترخيص
له بالاستعمال عند الضرورة {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: ١٧٣) {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ} (الأنعام: ١٤٥) {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المائدة: ٣) .
فإذا تقرر ذلك جاز لنا أن نسأل: هل شحم الخنزير ودهنه وكبده من الطيبات
أم لا؟ والجواب على ذلك يمكن معرفته بتقرير أهل العلم العادلين في هذا الصدد
وإني ذاكر لك ما يحضرني فيها وأنا في مجال بعيد عن المراجعة والتفصيل.
طالعت في دليل (كشرنوفتش) الطبي تحت كلمة (تريكينة) ما معناه
(التريكينة) جرثومة خبيثة توجد خاصة وعلى الغالب في لحم الخنزير ولها تأثير
سيئ جدًّا في الجهاز الهضمي وعلى المصران، ولا تموت إلا بغليان يبلغ (٧٥)
درجة من الحرارة بميزان (فرنهيت) فإذا صادفت إنسانًا لا استعداد له على تحملها
فقلما تركته سليمًا، بل قد تقضي عليه في أقل من ٢٤ ساعة.
وقد ثبت علميًّا أن شحم الخنزير وكبده خاليان خلوًّا كاملاً من هذه الجرثومة
المضرة.
وقد كنت طالعت في كتب أخرى عن الجراثيم ما اتفق في التقرير مع المرشد
المذكور؛ ولكني قرأت أيضًا في كتب الطب فوجدت بعضها في حال وصفه للجرب
والجذام والحكة يقول: (إنها تنتج في بعض الأحيان فيمن يفرط في أكل شحم
الخنزير ودهنه أو في ذريتهم) ومن هذه الكتب كتاب: (ادرس نفسك) للأستاذ
الكبير الفارس دي توليدو [١] .
فأنت تستخلص من ذلك أن شحم الخنزير خالٍ من الجرثومة المضرة إلا أنه
يورث على الغالب كثيرًا من الأمراض المؤذية مباشرة لآكله ولورثته من بعده، فهو
بذلك لا يدخل بين الطيبات ولا يعطى حكمها، فيكون تحريم أكله - ولو تحريمًا
ظنيًّا - جائزًا من باب الحيطة وسد الذريعة، إذا لم يثبت تحريمه القطعي بالنص
الصريح.
ولقد طالعت فتوى على مذهب الإمام مالك عند حداثتي ولا أدري أين طالعتها
بعدم حرمة شحم الخنزير، ولا أدري مقدارها من الصواب، ولا يبعد استفتاء
علماء بذلك، ففي إمكانكم استشارتهم أو استشارة كتبهم وربما عدت فكتبت إليكم
بتفصيل عند خفة عملي الكثير، والله سبحانه وتعالى أعلم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الخادم الفقير
... ... ... ... ... ... ... ... ... سيف الدين رحال
***
تعليق المنار على الفتوى
نقول أولاً: إن إطلاق لفظ اللحم في تحريم الأكل يشمل الشحم وكل ما يؤكل
منه من كبد ورئة وقلب وطحال وكليتين ومعى وغدد، يشمل هذا بالنص اللغوي
الحقيقي كما حققه القاضي أبو بكر بن العربي المالكي، فقد قال في تفسير آية البقرة
من كتابه أحكام القرآن ما نصه: اتفقت الأمة على أن الخنزير حرام بجميع أجزائه،
والفائدة في ذكر اللحم أنه حيوان يذبح للقصد إلى لحمه، وقد شغفت المبتدعة بأن
تقول فما بال شحمه بأي شيء يحرم؟ وهم أعاجم لا يعلمون أنه من قال لحمًا فقد
قال شحمًا، ومن قال شحمًا فلم يقل لحمًا، إذ كل لحم شحم، وليس كل شحم لحمًا،
من جهة اختصاص اللفظ، وهو لحم من جهة حقيقته اللحمية، كما أن كل حمد شكر
وليس كل شكر حمدًا من جهة ذكر النعم، وهو حمد من جهة ذكر فضائل المنعم.
ثم اختفلوا في نجاسته فقال جمهور العلماء: إنه نجس، وقال مالك: إنه طاهر ...
إلخ اهـ المراد منه.
ثانيًا: إن الفقهاء قد أجمعوا على تحريم أكل كل ما يؤكل من الخنزير. أطلق
الجمهور حكاية الإجماع واستثنى بعض المفسرين بعض الظاهرية، وهو مبني على
أن مدلول لفظ اللحم ما هو معروف عند العوام من جسم الحيوان المتصل بأعضائه
المتماسكة بعظامه دون ما في جوفه مما ذكر.
ثالثًا: إذا قيل إن إطلاق لفظ اللحم في الآيات مجاز مرسل من إطلاق الجزء
على الكل أو معظم الشيء على جملته؛ فإنه يصح الاستدلال بالآية على تحريم ما
ذكر كله عند غير الحنفية من أصحاب المذاهب الثلاثة، وعلى الكراهة التحريمية
عندهم لأنهم يشترطون في التحريم الدلالة القطعية من النص وليس هذا منها.
رابعًا: إن علة تحريم أكله وهي الضرر الجسمي والأدبي - كما حققه الأطباء -
متحققة في كل ما يؤكل منه، فيكون تحريم اللحم بالنص وتحريم غيره بالقياس
المساوي.
خامسًا: إن الخنزير نجس العين عند جمهور الفقهاء، طاهر عند الإمام مالك،
ولعل الأستاذ سيف الدين رأى فتوى بطهرة الخنزير عند مالك، وطهارة ما يتخذ
من شحمه أو يدخل فيه شحمه كالصابون فنسيها، ثم ظن أنها فتوى بحل أكل شحمه.
وجملة القول: إن كل ما يؤكل من الخنزير محرم، فأما لحمه فبنص القرآن،
والمختار عندنا أنه يشمل الشحم وكل ما يؤكل منه، وبالإجماع على قول الجمهور
به وعدم اعتدادهم بمن خالف فيه من الظاهرية، وأما شحمه - على القول بأنه لا
يسمى لحمًا والاعتداد بخلاف بعض الظاهرية - فبدلالة المجاز من إطلاق المقصود
بالذات وإرادة كل معناه، وبالقياس.
وقد سبق لنا في المنار وفي التفسير إثبات قول الأطباء بضرره الشديد في
البدن بكونه سبب داء الدودة الشريطية، وضرره في الأخلاق كما أثبته بعض
المجربين فما أفتى به الأستاذ سيف الدين الرحال صحيح في جملته.