نشأت في حجر العبادة، فألفها وجداني ونشطت فيها أعضائي من الصغر، فَخَفَّتْ عليَّ في الكِبَر، كنت من سن المراهقة أذهب إلى المسجد في السَّحَر، ولا أعود إلى البيت إلا بعد ارتفاع الشمس، حتى كانت والدتي رحمها الله تعالى تقول: إنني منذ كبر رشيد ما رأيته نائمًا، فإنه ينام بعدنا ويقوم قبلنا، وقد اتخذت لنفسي حجرة خاصة من غرفتين في أعلى ركني مسجدنا البحريين للمطالعة والعبادة، وهذه الغرفة كان يخلو فيها جدنا السيد علي الكبير الذي بنى المسجد قدس الله روحه، والغرفة الأخرى كانت لخادمه المسمى بالأعرج، وكان أهل القرية يعتقدون أنه من الجن ويتناقلون في ذلك حكايات غريبة. وكانت هذه الغرفة ملتقى العلماء والأدباء الذين يزوروننا في القلمون يطالعون ويراجعون فيها ويتحاورون، وكان شيخنا الجسر يستقرئني فيها إما بعض فصول الفتوحات المكية، وإما بعض فصول كتاب الفارياق ... وكانت تلذ لي صلاة التهجد تحت الأشجار من بساتيننا الخالية، وأفكر في صدق من قال: أهل الليل في ليلهم أنعم من أهل اللهو في لهوهم، وقول آخر: لو يعلم الملوك ما نحن فيه لقاتلونا عليه بالسيوف. نعم إن للبكاء من خشية الله وتدبر كتابه في صلاة الليل حيث يعلم المصلي أنه لا يسمع صوته أحد إلا الله لذة روحية تعلو كل لذات الضحك واللهو على اختلاف أسبابها. وكان كبير أسرتنا الشيخ السيد أحمد أبو الكمال الذي تقدم ذكره يُدَارس أولاد الأسرة القرآن في رمضان لأجل تجويده، فكنا نقرأ معه كل يوم نصف ختمة: خمسة أجزاء من بعد شروق الشمس إلى صلاة الظهر إلى العصر، كل واحد يقرأ ثمن الجزء ويسمع الآخرون، وكان يحضر هذه المدارسة معنا عنده السيدة زلفى ابنة بنته وكانت صبية ولم يكن فينا أحد بالغًا غير ابنه السيد محمد كمال وهو خالها، وكان يقرأ في غير رمضان عشرة أجزاء كل يوم. والسيدة زلفى هذه كانت تكتب إن شاءت وتطالع الكتب وهي أم السيد عبد الرحمن عاصم تلميذي ووكيل المنار، وهو ابن عمي السيد محمد كامل وزوج شقيقتي ويعيشان معي. وأما عمي - والده - فهو على قدم عمه في الانقطاع للعبادة والنسك، ويقوم بوظائف الإمامة والخطابة والتدريس في مسجدنا، وقد عني بكتاب إحياء العلوم كما عنيت به. وكان يعاشرني معاشرة الصديق، ويفيدني في كثير من مسائل العربية والدين، ثم فقته في ذلك حتى كان يحضر درسي؛ لتواضعه وإخلاصه أطال الله بقاءه. وكنت أقرأ ورد السحر في غير رمضان وحدي وفي رمضان مع الجماعة، وكنت إذا بلغت قوله في الجيمية: ودموع العين تسابقني ... من خوفك تجري كاللجج ولم يكن حضرني البكاء أسكت فلا أقرأ البيت حياء من الله تعالى أن أكذب عليه، ولما اشتغلت بالسنة وعلمت أن قراءة هذا الورد وأمثاله من البدع التي جُعِلَتْ من قبيل الشعائر والشرائع التي شرعها الله تعالى على ما فيه من الأمور والأقسام المنتقدة شرعًا تركت قراءته واستبدلت بها قراءة القرآن. وكنت أواظب على قراءة دلائل الخيرات وتلقيت الإجازة بها عن الأستاذ العابد العالم الشيخ أبي المحاسن القاوقجي بسنده إلى مؤلفها، ثم تركتها بعد اشتغالي بكتب السنة كما تركت ورد السَّحَر، واستبدلت بها وردًا آخر في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه شبهة بدعة من توقيت وجهر وصِيَغ منكرة ومضاهاة للشعائر الموهمة للمأثور عن الشارع. وقد حبب إليَّ التصوفَ كتابُ إحياء العلوم لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، فكنت أجاهد نفسي على طريقة الصوفية بترك أطيب الطعام اكتفاء بقليل من الزعتر مع الملح والسماق، وبالنوم على الأرض وغير ذلك، حتى إنه لم يعد يشق عليَّ ترك أطيب الطعام الحاضر عمدًا، ولكنني حاولت أن أتعود احتمال الوسخ في البدن والثياب وهو غير مشروع فلم أستطع، وقد ذكرت هذا وذاك للأستاذ الإمام بمناسبة عرضت فقال لي: وأنا كذلك، وقال مثل هذا في غيره مما اتفق وتشابه من نشأتي ونشأته. وقد طلبت من أعبد عباد شيوخ الطريق في عصرنا الشيخ أبي المحاسن محمد القاوقجي أن يسلكني الطريق على أصولهم في الرياضة والخلوة والترقي في منازل المعرفة، وصرحت له بأنه لا يعجبني أن أسلك طريقة الشاذلية الصورية بقراءة أورادها وحضور اجتماع أذكارها، وكنت حضرت هذا عنده مرارًا وحفظت حزب البر بقراءته معهم، فاعتذر، وقال لي: يا بني إنني لست أهلاً لما تطلب فهذا بساط قد طُوِيَ وانقرض أهله، فرحمه الله رحمة واسعة. ثم أخبرني صديقي الأستاذ العلامة الشيخ محمد الحسيني أنه قد ظفر بصوفي خفي من النقشبندية يرى هو أنه وصل إلى رتبة المرشد الكامل فسلكت هذه الطريقة معه وقطعت مراتب اللطائف كلها، ورأيت في أثناء ذلك كثيرًا من الأمور الروحية الخارقة للعادة كنت أتأول الكثير منها وعجزت عن تأويل بعضها، إلا أنها من خصائص الروح التي تظهرها الرياضة وكثرة الذكر والفكر، ولكن هذه الثمرات الذوقية غير الطبيعية لا تدل على أن جميع وسائلها مشروعة أو تبيح ما كان منها بدعة كما حققت ذلك بعدُ. كان الورد اليومي لي في هذه الطريقة ذكر اسم الجلالة (الله) بالقلب دون اللسان خمسة آلاف مرة مع تغميض العينين وحبس النفس بقدر الطاقة، وملاحظة ربط قلبي بقلب الشيخ، وهذا النوع من الذكر غير مشروع، بل هو مخالف لجميع ما ورد في الذكر المأثور، وهذه الرابطة محل إنكار خاص عند علماء الشرع، وهي مقررة في غير هذه الطريقة، وقد تكون بصفة مخلة بالعقيدة، إذا عبدت عبادة شرعية، فإن مقتضى التوحيد أن يتوجه العبد في كل عبادة إلى الله وحده حنيفًا مسلمًا له الدين، فالتوجه فيها إلى الشيخ قد يكون من الشرك الخفي، وإن لم يقصد به عبادته، وإنما يمكن تفسيرها بأنها ضرب من التربية الروحية الصناعية المجربة في إظهار ما أودعه الله في النفس من الأسرار والسنن الإلهية المخالفة للسنن المودعة في المادة، وبأن الرابطة فيها كالرابطة بين المقتدي وإمام الصلاة لا يقصد بها شيء من إشراكه في عبادة الذكر، ولا تعظيمه بنوع من تعظيم عبادة الرب، ولا تتضمن الاعتقاد بأنه قادر على شيء من النفع أو الضر، من غير طرق الأسباب المشتركة بين الخلق، وإنما هي عندهم وسيلة سببية في ربط الأرواح بعضها ببعض، من المريد إلى الشيخ فمن فوقه من شيوخ السلسلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمن عدها عبادة شرعية فهو مبتدع بلا شك، وهذا التوجيه لها قلما يخطر ببال أحد من سالكيها. وجملة القول: أنني كنت أعتقد أن سلوك طريقة المعرفة وتهذيب النفس والوقوف على أسرارها جائز شرعًا لا حظر فيه، وأنه نافع يُرْجَى به من معرفة الله ما لا يوصل إليه بدونه، ولكنني لم أعتقد قط أن الشيخ الذي أرتبط به فيه قادر على شيء مما تقدم، ولم أكن أستحضره ولا أتصوره في أثناء الذكر وإنما أتصور عند البدء به أنني ربطت قلبي بسلسلة من القلوب المخلصة لله تعالى هو طرفها الأدنى فزدت فيها حلقة جديدة، وأن هذه الرابطة لها تأثير في الإمداد الروحي كما تصل مصباحًا كهربائيًّا بالسلك الممتد إلى مولد التيار الشامل لمصابيح الدار كلها أو البلد كله. ومن الغريب أن الإنسان بعد طول الإكثار من هذا الذكر يصير يسمع للقلب صوتًا، وأغرب منها أن يسمع غيره صوت قلبه. أخبرتني والدتي -تغمدها الله ووالدي برحمته ورضوانه- أنها وضعت أذنها مرة على صدر عمها السيد الشريف الصالح عبد الرزاق حبلص فسمعت منه ترداد اسم الجلالة: الله، الله، الله. وقد أدركت أنا عمها هذا وأنا صغير ولم أكن أعلم من أمر هذه الطريقة شيئًا. وقد لقنني الأستاذ بعد الانتقال من اللطائف كلها أو عند لطيفة السر الذكر بكلمة التوحيد باللسان. (نسيت الآن) . هذا ما أقول في الورد الشخصي والرابطة، وللطريقة النقشبندية ورد آخر مشترك يسمى الختم، وهو عبارة عن اجتماع من كان حاضرًا من أبناء الطريقة على ذكر وقراءة لبعض سور القرآن والتوجه إلى استحضار بعض أرواح سلسلة الطريقة مع تغميض العينين، واستحضار الروح لا يتضمن شيئًا من عبادتها بدعاء ولا تعظيم تعبدي، والاستمداد الروحي ليس عبادة بالفعل ولا بالقصد، إلا أن يكون من جاهل بالشرع شيخه أجهل منها وأضل سبيلا، وإنما هو من قبيل ما يُحْكَى عن الإفرنج من ذلك، وقد سبقهم إليه الصوفية، وسأذكر بعض ما حققته فيه. ولكنه لا يخلو من مثار فتن دينية، وخوف اختلال في القوى العقلية، بما يعرض للجاد المجد فيه من العوارض غير الطبيعية، ولذلك اتفق الصوفية العارفون على أنه لا يجوز سلوك طريقة الرياضة عندهم إلا بإرشاد شيخ عارف. قد سلك الطريف ثم عادا ... ليخبر القوم بما استفادا * * * ما يعرض لسالك الطريق من الأمور الروحية الغريبة أول ما عرض لنا من ذلك أن كانت تتمثل لنا ونحن في الختم مغمضي الأعين صورة من يذكر الشيخ اسمه من رجال السلسلة لعقد الرابطة به وأعلاها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وفوقه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان هذا بعد تكرار، وكنت أعتقد أنه خيال يثيره التخيل، ويدعي الشيخ أن الروح نفسها تحضر الختم وتتجلى للمستعد، وكل شيوخ الطريق يدَّعون هذا ويزعمون أن روح النبي صلى الله عليه وسلم تحضر مجالسهم، فمنهم الكاذبون الدجالون، ومنهم المتخيلون الممثلون، وقد أطلت في تحقيق هذه المسألة في بحثي الفياض في الكرامات، الذي كتبته في كتابي (الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية) الذي ألفته وأنا تلميذ ثم عدت إليه في المجلد الثاني من المنار ثم في المجلد السادس منه، ثم ألممت به في مجلدات أخرى. ثم عرض لي ولغيري في أثناء استحضار هذه الأرواح بالتخيل أن نميز بينها باختلاف صورها ونشم للروح رائحة عطرية مُنْعِشَة لا نظير لها فيما يعرف من الأعطار. فكنت في أول العهد بها أظن أن الشيخ يحفظ في جيبه قارورة أو حُقًّا فيه هذا النوع من العطر فيفتحها في أثناء الختم ولا يراه منا أحد، وهذا من خواطر السوء في الشيخ لا تبيحه آداب الطريقة، بل هو من عوائق السلوك، ولكن الرائحة لم تكن تستمر، ثم صارت تعرض لي في أثناء وردي الخاص، فأظن أنها ذكرى في النفس، تعدى أثرها إلى الأنف بالوهم، وبعد التكرار اعتقدت أن ما يقوله كبار الصوفية من أن للأرواح الشريفة الزكية العالية رائحة طيبة ذكية صحيح، وأن تجلي الأرواح صحيح في الجملة. ومما كنت قرأته في الفتوحات المكية للشيخ محيي الدين بن عربي (وهو من أكابر الصوفية الروحانيين على ما عرض له من الاختلال في معلوماته الدينية والكشفية) أن الشيخ عبد القادر الجيلي كان يعرف مقامات الرجال العارفين بالشم وأنه شم محمد بن قائد فقال له: لا أعرفك، وكان ابن قائد يرى لنفسه مقامًا عاليًا فعرف من إنكار عبد القادر له قصوره، فَعَلَتْ همته حتى صار من الأفراد. ويذكر في رحلة الشيخ عبد الغني النابلسي الصوفي الفقيه المشهور أنه لما جاء طرابلس تَرَجَّلَ قبل أن يبلغ مقبرتها في المكان المعروف بباب الرمل فترجل من معه وسألوه عن السبب فقال: إننا قربنا من مكان فيه بعض قبور الروحانيين. ومما أخبرني به صديقي الأستاذ المصدوق الشيخ محمد كامل الرافعي أن والده الشيخ عبد الغني كان يشم لبدنه ولثيابه رائحة مسكية في أثناء خلوته وانقطاعه فيها لذكر الله تعالى، ومما يتناقله أهل القلمون أنه لما نبش قبر السيد أحمد أخي جد والدي الذي تقدم ذكره، وأن مصطفى آغا بربر تزوج ابنته كانت رائحة ترابه ذكية كالمسك حتى إن بعض الناس أخذوا منها في جيوبهم ما يحفظونه في بيوتهم. وأخبار الشيخ علي العمري الطرابلسي المعاصر لنا في الرائحة كثيرة، ووقائعه فيها مشهورة في طرابلس والآستانة ومصر وكانوا يسمونه شيخ المسك، إذ كان ينفخ على الشيء كمنقوع الشاي والقهوة وعلب التبغ فتصير رائحتها مِسْكِيَّة. وقد أخبرني المشير العثماني أحمد مختار باشا الغازي عنه ببعض ما وقع له في أثناء زيارته لمصر وإقامته في قصر القبة ضيفًا عند الخديو محمد توفيق باشا الذي استحضره من طرابلس لأجل استشفاء بنت له مريضة برقيته وبركته بعد أن عجز عن مداواتها الأطباء فشفيت، والمسألة مشهورة في طرابلس الشام وعند الخواص في مصر. قال لي مختار باشا: إن الشيخ العمري كان يزورني بعد العصر في كل يوم فيشرب الشاي معي ثم نخرج إلى التنزه في الجزيرة ونعود عند الغروب فيذهب هو إلى قصر القبة وأجيء أنا إلى قصر الإسماعيلية هنا (حيث حدثني) . قال: فكان إذا أحضر الشاي ينفخ على الإبريق والفناجين فنجد للشاي رائحة المسك، فقال لي شوقي باشا: (هو زوج بنت الغازي ووالد وزير الجمهورية التركية المفوض بمصر اليوم) في إحدى الليالي: إن المسك طيب شرقي أو عربي معروف ويمكن للشيخ أن يرش شيئًا من مسحوقه في الشاي بخفة لا نشعر بها، فإذا كان هذا التعريف (التطييب) للشاي أمرًا روحانيًّا أي يحدث بالتوجه الروحي المعروف عند الصوفية، فلماذا لا يطيبه لنا بعطر كذا الإفرنجي (وذكر لي الباشا اسم عطر إفرنجي لم أحفظه) . قال: فلما كان اليوم التالي وجاءنا الشيخ علي العمري وأحضر الشاي نفخ عليه أو فيه فإذا رائحته هي رائحة الطيب الذي ذكره شوقي باشا ليلاً ولم يكن معنا أحد. أقول: وقد كنت بعد ذلك أشم أحيانًا هذه الرائحة في الدار وغيرها، ثم تذهب من نفسها بسرعة، وقد يكون بعد السؤال مني لمن في الدار: هل تشمون رائحة طيب؟ فيقال: لا، وقد عرض لي في رمضان شيء من هذا القبيل لا أذكره، وكان قبل سلوك الطريق، ولكن كنت ربما أقرأ في النهار منه ختمة كاملة في حقل لنا. * * * تحقيق مسألة رؤية الأرواح وجملة القول: أنني ما زلت أعالج هذا الأمر حتى أمكنني أن أعرف الفرق بين استحضار الصوفية للأرواح ورؤيتها، وما يحكيه الإفرنج من ذلك، والفرق بين التخيل المحض والكشف الصحيح، وما يكون في يقظة تامة وهو لا يعدو اللمحات القصيرة، وما يكون من غيبة عن الحس، وهو ما يسمونه بين النوم واليقظة كما قال بعضهم. ومن يدعي في هذه الدار أنه ... يرى المصطفى جهرًا فقد فاه مشتطًّا ولكن بين النوم واليقظة الذي ... يحاول هذا الأمر مرتبة وسطى وعلمت من الفرق بينها ما أعتقد أنه أصح مما نقله ابن المبارك عن شيخه عبد العزيز الدباغ، ومنه ما وقع لشيخنا الأستاذ الإمام، وأن ما يسمعه الرائي من الأرواح في هذه الغيبة هو مثل الذي يرونه ويسمعونه في الرؤى المنامية لا يوثق بصحته ولا بضبطه، بدليل أن كل ما نقل عن أشهر الروحانيين منهم متعارض يدل على أنه كان على قدر معارفهم ومعلوماتهم وما يناسبها من مداركهم، كما أشرت إليه في جواب من سألني عن دعوى شيخ التيجانية وتخريفه ونشرته في فتاوى المجلد الثاني والثلاثين من المنار ص٩٩، فسأل عنه بعض أتباعه مجلة الأزهر فردت عَلَيَّ بما لا تعقله من علم الصوفية ولا من علم الشرع، فالحق ما قاله علماء الشرع من أن الرؤى والكشف لا يُعْتَدُّ بهما شرعًا، ولا يحتج بما يرى ولا بما يسمع فيهما. ويعجبني ما نقله الشعراني عن شيخه علي الخواص في كتابه الدر والجواهر أنه سأله لماذا يؤول العلماء ما يشكل من كلام الأنبياء دون ما يشكل من كشف الأولياء فيردونه؟ فقال: لأن النبي معصوم فلا بد من حمل كلماته على الصحة والولي غير معصوم، فيحتمل كلامه الخطأ. اهـ بالمعنى، ولكن الباجوري نقل عنه في حاشيته للسنوسية ضده، وإذا حكمنا الشرع حكم لنقله الأول وهو الحق. * * * الروحانية والتجرد وخطاب أرواح البشر والشياطين كان مما وقفت عليه من أسرار النفس غير ما تقدم من تجلي الأرواح مسألة التجرد وغلبة الروح على الجسد التي تنتهي إلى ما ينقلونه في بحث الكرامات من المشي على الماء والطيران في الهواء، ومن دون ذلك قطع المسافات في زمن قليل، ذلك أنني كنت في أثناء شهر رمضان لا أذكر من أي سنة أتحنث وأطالع الربع الرابع من إحياء علوم الدين فلما كان آخر يوم منه بلغت كتاب التوحيد والتوكل، وقد أحييت معظم ليلة عيد الفطر بالتكبير مع جماعات من أهل بلدنا الذين يبيتون في المسجد كيلا تفوتهم صلاة العيد، وكان منهم شيخ كبير السن عاش في صباه وكهولته عزيزًا منعمًا وافتقر وذل في شيخوخته فكان لرفع صوته الأجش بالتكبير مع شيبته التامة ضراعة خشوع مؤثرة، حتى إذا كان السحر صليت صلاة الليل والوتر إحدى عشرة ركعة وفاقًا للسنة الصحيحة كالعادة، وعدت بعد صلاة الفجر إلى التكبير مع الناس في المسجد إلى وقت صلاة العيد، وبعد أدائها صعدت إلى غرفة خلوتي وأتممت قراءة ما بلغته من الإحياء، وفيه ذلك البحث البليغ العظيم التأثير في الفناء في التوحيد فما أتممته إلا وشعرت بأنني في عالم آخر من اللذة الروحية، وأنه لم يبق لي وزن فكأني روح بغير جسم، ثم عدت أرجع إلى حسي فذكرت ما علي من الذهاب إلى تهنئة والدي بالعيد، وكان يزور قبر والده وأجداده بعد الصلاة ويقرأ سورة يس، ثم يُمَدُّ له سماط فيفطر مع من يوجد من الفقراء ومن شاء من غيرهم، فنزلت من الغرفة وكأنني ريشة طائر وشعرت بأنني لو ألقيت بنفسي من النافذة إلى الأرض لا أكون إلا كما تقع الريشة، وأنه يمكنني المشي على الماء دون الطيران في الهواء، واعتقدت بل أعتقد حتى اليوم أنني لو تركت الطعام زمنًا طويلا مع ملازمة مثل تلك الحال من الذكر والعلم الإلهي الأعلى لقويت معي تلك الروحانية ووصلت إلى غاية ما يذكر عن الروحانيين، ولن يكون ذلك لو كان إلا كشفًا لشيء من استعداد الأرواح قد يفقد صاحبه ميزان بشريته التي هي جسد وروح، فما تعلقت ذلك ولا تكلفته وما كنت متكلفًا في شيء من أمري، ولله الحمد. ولم أكن أذكر مثل هذه الأحوال لأحد كما هو شأن الصادقين المخلصين الذي قرَّره الغزالي وغيره ومنه كتمان كل ما هو غير معتاد، والصوفية الصادقون متفقون على هذا، وعلى أن مبادئ هذه البوارق واللوائح والأذواق مشوقات منشطات للسالك، وأن الذي يغتر بها ينقطع وإلا فقل هو هالك، وقد نفعني ما كنت قرأت في كتاب الغرور من الإحياء، ولا سيما غرور الصوفية قبل ذلك. ثم رأيت شيخنا الأستاذ الإمام عليه، كان يقول: إن هذه أحوال غير طبيعية لا يجوز التحدث عنها إلا مع أهلها؛ لأنها تكون لغيرهم فتنة، وإن الشيخ محيي الدين قد أفسد التصوف بإطلاق العنان لقلمه بشرح كل ما يعرض له، وأنه انقطعت معه سلسلة التوازن فخلط الحق بالباطل. وهذا الذي كان يراه شيخنا هو الحق، فإن الذين أوغلوا في الروحانيات قد فتنوا أنفسهم وفتنوا كثيرًا من الناس، واختل ميزان عقلهم فيما يتصورون، وفيما يصدقون، وفيما يقولون ويكتبون، كما تراه في كتب الشعراني من الخرافات والخيالات التي لا يميز فيها بين معقول ولا مشروع، وفي مقدمة صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) . ومما افتتن به الجماهير من الناس بهؤلاء الروحانيين ظنهم أن كل من يصدر عنه أمر خارق للعادة يكون وليًّا معصومًا وإن ضل وغوى، وخرف وهذى، وإن له عند الله ما يشاء في الدنيا، والحق الذي عرفناه بوزن الكشف بميزان الشرع والعقل أن الذي تعرض له بعض المزايا الروحانية، من عملية أو علمية، هو كالباحث الذي تكشف له بعض الحقائق الكونية، والاختراعات الصناعية، كل منهما بَشَرٌ يخطئ ويصيب في كل علم وحال وعمل، وتحكم عليه الشهوات والخرافات والأهواء في غير ما أصاب فيه، وما تسمعه من الجاهلين بالقرآن من زعمهم أن قوله تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} (الزمر: ٣٤) يراد به هؤلاء الذين تصدر عنهم بعض الغرائب الروحانية من صحيحة أو وهمية، فراجع هذه الآية وما في معناها من سور النحل والفرقان والزمر والشورى وق تجدها كلها في أهل الجنة وما لهم فيها من النعيم. وهم المؤمنون المتقون. فاغتنم هذه الحقيقة العليا، فإنك ربما لا تجدها في كتب، واعتبر بما أذكره بعدها. وأما ما قاله شيخنا في الروحاني الكبير الشيخ محيي الدين بن عربي فهو موافق لما نقله لي علي بك شوقي وزير الترك المُفَوَّض في مصر عن والده شوقي باشا الذي سبق ذكره قريبًا. زارني هذا الوزير إثر قدومه إلى مصر في هذا العهد لعلمه بما كان بيني وبين والده وجده لأمه أحمد مختار باشا من الصداقة، فذكرت له أن والده كان يحدثني بمناجاته للأرواح وحديثه مع السيدة مريم العذراء عن حملها بالسيد عيسى المسيح عليهما السلام وغير ذلك، وأنه كان يكتب ذلك، فهل وجدتم في تركته ما كتبه في هذه الشئون؟ قال: نعم. وأخبرني أن مما قرأه فيه من مناجاة والده لروح الشيخ محي الدين بن عربي أنه سأله عن منزلته في عالم البرزخ، فقال له: إن منزلته دون مقامه من معرفة الله تعالى، وإن سبب ذلك أن اختلط عليه الأمر في عالم المثال، فكتب ما ضل به كثير من الناس، فصاروا خصومًا له عند الله تعالى، وكان من عقابه على ذلك أنه حبس عن الارتقاء إلى المنزلة التي هي لمن كان له مثل معرفته، وأنه هو توسل إلى خصومه ليعفوا عنه، فلم يقبلوا، وأنه يرجو أن يعفوا عنه في موقف الحساب فيعفو الله عنه. اهـ. هذا ما فهمته من السفير مما قرأه فيما كتبه والده، وسأبدي رأيي فيه وفي أمثاله عندما أجد فرصة واسعة لكتابة بحث طويل في مسألة الأرواح التي تشغل العالم المدني في هذا العصر، وأقتصر هنا على كلمة وجيزة اقتضتها الضرورة: * * * استحضار أرواح الموتى وتلبيس الشيطان فيه لا شك أن قليلاً من الناس يرون بعض الأرواح في حالات مخصوصة واستعداد خاص، وإن تربية الإرادة بالرياضة عند الصوفية أقوى وسائل هذه الرؤية، وإن منها ما يستعين عليه الإفرنج بما يسمونه الوسيط من أولي الاستعداد الفطري، وفائدة الرياضة والعمل الكسبي في ذلك صرف الإرادة عن الأشياء الكثيرة المفرقة؛ لقوة إدراك النفس وتوجيهها إلى شيء واحد، والراجح عندي أن أكثر هذه الأرواح التي يرونها هي أرواح الشياطين من قرناء أولئك لا الميتين أنفسهم، وأن بعض الصوفية الذين كانوا يغيبون عن حسهم وعقلهم في رياضتهم كانت تستهويهم الشياطين وتوحي إليهم ما يظنون أنه حقائق كوشفوا بها من الله مباشرة أو من تلقين أرواح شيوخهم المعتقدين، فكل ما خالف الشريعة من كشفهم فهو من الشيطان، ومنه ما يحكيه الشعراني عن السيد البدوي أنه كان يجمع أرواح الميتين من البلاد المختلفة ويسوقهم إلى حضور مولده الذي هو مجمع البدع والفسق والخرافات والضلال، ومنه ما يحكيه الشيخ محيي الدين بن عربي من كشفه الذي تخيل به أن فرعون موسى كان من أكابر العارفين بالله وأوليائه المقربين عنده، وإذا كان التيجاني من أصحاب الرياضات والأحوال فكل ما خالف الشريعة من كلامه - وهو كثير- فهو من وحي الشيطان، وإن لم يكن منهم فهو كذب واختلاق لكسب الشهرة والمال، وإن أسندوه إلى روح النبي عليه أفضل الصلاة والسلام. ولا يهولنك أيها المؤمن العاقل المتبع هذا القول فتستبعده على أناس نقلت عنهم حكم حسنة معقولة، وأفهام في القرآن مقبولة، وأعمال أو أحوال روحية خارقة للعادة، فقد قال علماء الكلام: إن خوارق العادات قد تقع للكفار والفجار، وإنها تختلف باختلاف مَن تقع لهم، وقال بعض كبار الصوفية الراسخين المهديين: إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء فلا تغتروا به أو لا تقتدوا به حتى تنظروا حاله عند الأمر والنهي، وإنما العصمة عند أهل السنة للأنبياء في التبليغ عن الله عز وجل دون أمور الدنيا، وكذا عن معصيته عز وجل. (فإن قيل) : وهل تتمثل الشياطين بصورة الأنبياء عليهم السلام أو كبار الأولياء؟ (قلنا) : إن إغواء الشياطين لمن اختل عقله بشدة الجوع والخلوة والسهر والتخيل كثير، وإن إيهام الشيطان لأحدهم أنه نبي أو ولي يكلمه أو يكشف له الحقائق مع تمثله له بصورة نورانية أو بغير تمثل واقع، ولا يقتضي أن يكون قد تمثل بصورة النبي الحقيقية، وقد نقل عن الولي الكبير الشهير المتفق عليه الشيخ عبد القادر الجيلاني أنه قال: تراءى لي نور عظيم ملأ الأفق وسمعت منه صوتًا يقول لي: يا عبد القادر أنت عبدي وقد أحللت لك المحرمات (قال) فقلت له: اخسأ يا لعين، فتحول ذلك النور دخانًا مظلمًا، وقال لي: قد نجوت مني بعلمك بأمر ربك، وفقهك في أحوال منازلاتك، وقد أضللت بمثل هذه الواقعة سبعين من أهل الطريق. فقلت: لله الفضل. فقيل له: كيف علمت أنه شيطان؟ قال: بقوله قد أحللت لك المحرمات. ومن ليس لهم من العلم بالشريعة مثل ما للشيخ عبد القادر يضلون بهذه الأنوار الشيطانية، وهو لولا تلك الكلمة لاعتقد أن ذلك النور من تجلي الرحمن، وللشيطان مع كبار الصوفية العرافين مناظرات ومجادلات. منها قوله لبعضهم وقد غاب اسمه عني الآن: ألست أنا شيئًا؟ قال الصوفي: بلى؟ قال: وإن الله تعالى يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف: ١٥٦) فهي تسعني. قال: فقلت له: اقرأ ما بعدها يا ملعون يعني: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} (الأعراف: ١٥٦) الآية فقال: التقييد صفتك لا صفته. وقد نقل عن بعضهم أنهم قالوا: إن التكاليف خاصة بغير الواصلين، وأما الواصل الذي بلغ مرتبة اليقين فإن التكليف يرتفع عنه ويباح له كل شيء، ويتأولون لهذا قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} (الحجر: ٩٩) وإنما اليقين في الآية الموت، وسيد الموقنين وأكملهم صلى الله عليه وسلم قد التزم العبادة إلى أن توفاه الله ورفعه إلى الرفيق الأعلى. ومن أولئك المفتونين بوحي الشياطين من ظن أنه تجاوز درجة الأنبياء، ومنهم ابن سبعين الذي قال: لقد تَحَجَّرَ ابن آمنة واسعًا بقوله: (لا نبي بعدي) ومثل هذا الكلام هو الذي جَرَّأَ ميرزا غلام القادياني على ادعاء النبوة. وقد نقل النصارى ما هو أعظم من ذلك، عمن هو أعظم من أولئك، وهو النبي المعصوم عندنا الذي أعاذه الله وأمه من الشيطان في اعتقادنا، وقد اتخذوه ربًّا وإلهًا لهم؛ إذ ذكروا في أناجيلهم أن الشيطان قد جرب السيد المسيح وهو إمام الروحانيين عليه السلام، فقد حملت به أمه بنفخة من روح الله جبريل عليه السلام، وكانت آياته كلها روحانية، ففي الفصل الرابع من إنجيلي متى ولوقا أنه صام أربعين يومًا فجاع فأخذه الشيطان في تلك المدة وجربه عدة تجارب منها أنه أصعده إلى جبل عالٍ وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان، وطلب منها أن يسجد له؛ ليعطيه ذلك كله فأجابه يسوع: اذهب يا شيطان إنه مكتوب (للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد) . ((يتبع بمقال تالٍ))