في الدستور والجيش والسياسة العثمانية والماسونية والاتحاد والترقي
نشرنا في الجزء الماضي مقالاً؛ ذكرنا فيه بعض ما علمناه في الآستانة عن هذا الرجل العظيم، فنقله المقطم إلا قليلاً منه والمؤيد برمته، وعدته بعض الجرائد الإفرنجية من أحسن ما كتب في بابه، ثم جاءتنا جرائد الآستانة بمقال لصادق بك نفسه، يدل على صدق قولنا ورأينا فيه وفي أحوال الدولة، ونشرت ترجمته في بعض الجرائد المصرية، فرأينا أن ننقله عن المؤيد بتنقيح لفظي قليل، وهو هذا: ألجأتني الضرورات إلى ترك السكوت الذي حاولت أن ألتزمه حتى الآن. أنا جندي؛ ولذلك أربأ بقلمي عن زخرف القول والتفنن في إبداء الرأي، والذي دفعني إلى كتابة هذا البيان الصادق؛ رغبتي بقطع الأقاويل المبنية على إشاعات مؤسفة تتعلق بشخصي مباشرة، وليس بينها وبين الحقيقة صلة أو شبه صلة. لا أبحث هنا في مكانتي من انقلاب ١٠ تموز (٢٣ يوليو) وحسبي أن أقول: إن العثمانية لا تحيا إلا بالدستور، ولا ترتقي ارتقاء صحيحًا إلا بالاتحاد، وإن اليوم الذي يعلن فيه إفلاس الدستور هو الذي تقبر فيه العثمانية، وإن العامل الأدبي الذي دفعني قبل الدستور إلى الدستور؛ هو العامل الذي يدفعني اليوم إلى حبه لغير ما غرض ولا فائدة، وإن قوام العثمانية الناهضة منوط بفكرة الاتحاد والترقي السامية، وبالجمعية التي تمثل هذه الفكرة تمثيلاً أدبيًّا. ومن الواجب على العناصر التي أضعف الاستبداد حياتها أن تتمسك أكثر من غيرها بهذا النظام، وتنزله منها بمنزلة الروح. ومن الواجب على الجمعية أن ترتقي في دائرة النواميس الطبيعية؛ بأن تكون جمعية العثمانيين من غير تفريق بين أجناسهم وأديانهم، وما دام في أندية الجمعية وفي لجانها المركزية رجال رسميون، فالجمعية تكون بمنزلة حكومة ثانية، وفي ذلك ما فيه من الضرر وقطع الأمل من المستقبل. يجب على الجيش العثماني أن يكون في معزل عن المناقشات الشخصية ومنافساتها، وما يتولد عن ذلك من المذاهب السياسية. وأن يكون للجيش مكان فوق الأحزاب، يمثل الصلة الجامعة بين العثمانيين؛ ليكون محترمًا من الجميع، وبتعبير آخر يجب أن لا يكون الجيش مرتبطًا بحياة وسياسة أشخاص معينين، بل بحياة الدستور الأساسية وهكذا يجب دائمًا أن يكون. إن فكرة الاتحاد والترقي هي روح الجيش، كما هي روح السلطنة، والضامن لتحقيق هذه الفكرة السامية هو الجيش العثماني الذي هو أشد جيوش الأرض ميلاً إلى الديمقراطية (أو قال: تمثيلاً للديمقراطية أي حكم الأمة لنفسها) . الجيش مظاهر لجميع العوامل الفكرية التي لها مساس بفكرة الاتحاد والترقي مظاهرة مطلقة لا شرط لها ولا قيد. كذلك أنا أعتقد بصفتي واحدًا من هذا الجيش وبصفتي فردًا تهمه عثمانيته. لم يكن الانقلاب العثماني نتيجة لجهاد دهاة كبار يمثلون الحياة الفكرية في السلطنة، كما هي الحال في غاريباري وكافور وأمثالهما. وإنما كان انقلابنا ثمرة قوة كبيرة، تجمعت من قوى رجال صغار، اجتهدوا في أحداث هذا الانقلاب. وكان عهدنا بهؤلاء المجددين الصغار أن يبلغوا أمانيهم بسرعة وسهولة، إذا هم لم ينقصوا من قوتهم. يزعم نفر منها؛ أنهم يمثلون قوة الانقلاب بأشخاصهم. ولكن ما أشبه هذا بحال بولونيا في وقت احتضارها. ومتى ظهرت قوة الأشخاص في مجموع الحكومة، ظهرت معها عوارض الفوضى في السلطة. وما التبدلات الأخيرة [١] التي كانت نتيجة فعلية لأقوال طلعت بك في مأدبة (بكقوز) إلا أساس الإصلاح المطلوب. ولما كان كاتب هذه السطور من الضباط الذين شغلتهم واجبات الدستور بشؤون السياسة، كنت أنظر بعين الاهتمام إلى الجيش، وضرر هذه الصلة التي يمت بها إلى الجمعية منذ زمن طويل. ظهرت العثمانية اليوم بمظهر أمة عسكرية قبل كل شيء؛ ولذلك كانت مسألة الجيش في العثمانية المؤلفة من عناصر مختلفة هي المسألة الحيوية. وسيكون اتحاد العناصر أول ثمرة لفكرة الاتحاد والترقي. على أن هذه الثمرة لا يمكن أن تلائمها جامعة الشخصيات في وقت من الأوقات؛ لأن الأشخاص معرضون للانتقاد والمؤاخذة بحسب نتائج أعمالهم، مهما كانوا من ذوي النية الصالحة، وهم أيضًا مهددون بالسقوط السياسي جزاء خطئهم في التدبير وفي الإدارة. ونتيجة ذلك أن الجيش إذا كان آلة في يد رجال السياسة أو اعتقد الناس أنه تلك الآلة، لا يلبث أن تنفصم عروته الجامعة، ويصبح في جهة الأغراض والتحزبات. (وأقول أيضًا من قبيل الاستطراد: إن دور التحزب الذي يمثله ضابط واحد، لا يقل ضرره عن دور التحزب الذي يمثله الجيش كله) . وإن قيام بعض الضباط بوظيفة مندوب عن الجمعية، أو بأي وظيفة أخرى بدون أن يستقيل من الجندية مخل بأخلاق الجيش ومفسد لنظامه. حب الوطن والغيرة القومية هما مصدر شجاعة الجيش المرابط على الحدود؛ للدفاع عن البلاد والمقيم في البلاد للمحافظة على الدستور. ومن هذه الوجهة لا يجوز أبدًا أن يكون للجيش العثماني صلة باللجان الماسونية أو غيرها. قد تكون الماسونية نافعة للإنسانية، ولكن ذلك لا يمنع وجوب بقائها في دائرتها الخاصة، وليست مقاومتي للماسونية أكثر من الاجتهاد في منعها من الانتشار في صفوف الجند، وأنا أحترم كل عامل من العوامل النافعة للإنسانية. ولكن يجب أن لا يكون لهذه العوامل علاقة بالسياسة. وقد علمتنا التجارب أن أجمل محافل الإنسانية عنوانًا، كانت تجيء نتائج أعمالها معكوسة متى لعبت بها أصبع السياسة، وأن الغرباء ملوثي الأيدي الذي يتربصون بنا الفرص، لا يتأخرون ساعة عن الاستفادة من مواضع الضعف فينا. وخلاص القول: إننا أدركنا الآن كيف يصعب على أناس مثلنا يؤلفون جامعتهم من جديد؛ أن يحلوا مشاكلهم المنزلية، ويعيدوا مياه الصفاء إلى مجاريها. على أنه ليس من الصواب في شيء أن نجاري العامة في أفكارها، من أجل خطة فلسفية ننتصر لها. وأن الذي يفسح المجال للتعصب ويجعل للعامة سلطة الحكم، هو الذي يحفر لهذه السلطنة قبرها، ومن الواجب على كل ذي رأي سليم أن يجتنب طرق الأبواب التي تروج فيها سلطة العامة، فبينا يكون المختلفون منهمكين في اختلافاتهم يتقدم المترقبون للفرص؛ ليستفيدوا من تلك الحال المساعدة لهم بطبيعتها، وعندئذ تضيع الغاية وينقلب القصد. إن في مسألتنا الأخيرة وما حام حولها من الأراجيف والسيئات عبرة للمعتبر. وما كان أسهل حل للمسألة بالسكون لولا وجود تلك الأراجيف. ومن دواعي السرور أن جماعات الحزب ائتلفت بسرعة، وأصبح ائتلافها خطوة في سبل الارتقاء. وأن كل تفرد وسلطة يظهران في بلادنا عن علم أو غير علم لا يأتيان بنتيجة غير القوة الشخصية. وإذا رأى الجيش أن رجال الانقلاب قد ضحوا أنانيتهم واتقوا التفرد والسلطة، وكانوا حول مبدئهم إخوانًا، فهو لا يتردد في القيام بواجباته المادية والأدبية نحو وطنه وما ذلك بالأمر العزيز. أنا كتبت (مذكرات) في أسباب استقالتي من وظيفة (مرخص مسؤول) لجمعية الاتحاد والترقي، وعن حالة الجمعية الآن وقبل الآن، وسأنشر ذلك متى حان حين نشره. والذي أحاوله الآن الاحتجاج على الذين اتهموني بدون إنصاف بأني رجعي، ورموني بغير ذلك من التهم، وبينما أنا أكتب هذه النشرة؛ راجيًا فيها منهم باسم سلامة الوطن أن يكفوا عن هذه السفاسف، كنت أحمل بين جنبي نفس جندي صمم على طلب التقاعد من وظيفته (الإحالة على المعاش) وأملي بكل إخواني الضباط الذين لهم صلة فعلية بانقلاب ١٠ تموز (٢٣ يوليو) وامتزجت حياتهم العسكرية بحياتهم السياسية، والذين يشتركون بأعمال غير أعمالهم العسكرية أن يستقيلوا من الجندية، وينصرفوا بعد ذلك للسياسة بالشروط المشروعة، أو أن يتركوا كل علاقة بالأعمال السياسية، ويتفرغوا لواجباتهم الجندية تمام التفرغ. وفي رأيي أنه قد حل وقت انتباه أصحاب المقامات العالية؛ لتنفيذ هذا القسم من مواد القانون. ... ... ... ... ... ... ... ... ... الأميرآلاي ... ... ... ... ... ... ... ... ... صادق (المنار) حاصل ما كتبه صادق بك: (١) أن الانقلاب الذي نقل الدولة إلى الحكم النيابي الدستوري قد كان من عمله وعمل من كان معه من صغار الضباط؛ وأثر فكرة سارية في جماعة من دهماء الناس، ولم يكن بتدبير بعض الزعماء والكبراء كغاريبالدي الإيطالي. (٢) أن إيهام الناس أن الانقلاب قد أحدثه بعض الزعماء المعينين، فيجب أن يكونوا هم كفلاء الدستور وأصحاب السلطة هو خطأ وخطر على الدولة. (٣) أن فكرة الاتحاد والترقي (أي المعنى الذي يفهم من هاتين الكلمتين) يجب أن تبث في جميع الأمة؛ لأنها عنوان لكل ما نحتاج إليه في حياتنا الجديدة، وهو أن تتفق الشعوب والأقوام في المملكة العثمانية، وتتحد على القيام بما ترتقي كلها به من العلوم والأعمال. ومن الخطأ الضار أن يجعل عنوان الاتحاد والترقي اسمًا لحزب أو جماعة من الأمة يكون منهم كبار الحكام، ويكون لهم أندية خاصة يعرفون بها ويمتازون على غيرهم. (٤) يجب أن لا يكون للماسونية عمل في سياسة الدولة العمومية، وأن لا يدخل فيها ضباط الجيش، ولا تنشر فيه. (٥) يجب أن يكون الجيش بمعزل عن السياسة والتحيز إلى فئة معينة من رجال الأمة؛ لأن كل فئة يجوز أن تخطئ، وأن يسقطها خطؤها ويخفض مكانتها، وحينئذ يتطرق هذا السقوط إلى الجيش الذي يمثل شرف جميع الأمة، وأن وظيفة الجيش هي حفظ الحدود من العدو الخارج وحفظ الدستور في الداخل وهي أشرف الوظائف، فيجب أن لا يتعداها إلى غيرها، وأن يكون دائمًا هو أكمل المظاهر لفكرة الاتحاد والترقي. وأن يكون مظهرًا للحقيقة التي تجمع كلمة عناصر الأمة وترقيها بعدم تفرقه أو تحيزه إلى فريق من المتفرقين، بل يكون فوق الأحزاب والفرق كلها ليكون محترمًا منها كلها، وقد وضح هذا المعنى وأصاب في قوله: إن تحيز واحد من الضباط إلى فئة سياسية ضار كتحزب الجيش كله. (٦) أنه يجب على الضباط الذين كان لهم عمل في الانقلاب، وعلى غيرهم من الذين يشتركون بأعمال غير أعمالهم العسكرية أن يستقيلوا من الجندية أو يتركوا السياسة ويطلقوها ألبتة، كما فعل هو بعزمه على طلب التقاعد حين اضطر إلى الاشتغال بالسياسة، وكتب هذا البيان. (٧) أنه قد حان الوقت في رأيه لتنفيذ مواد القانون المتعلقة بهذه المسألة، فعلى أصحاب المقامات العالية في السلطة أن ينفذوه. يعني أن تنفيذه في أول العهد بالانقلاب وهو عسكري محض كان متعذرًا، أما وقد ثبت مجلس الأمة وتكونت الحكومة الجديدة، فلم يبق لترك تنفيذه عذر. وروح المقال أن بعض الأفراد جعلوا أنفسهم زعماء لجمعية الاتحاد والترقي، واحتكروا لأنفسهم حماية الدستور وتنفيذه، زاعمين أنهم هم الذين أحدثوا الانقلاب، وجعلوا الجمعية عصبية لبعض الأمة على سائرها، ومزجوها بالماسونية وبنوها على قواعدها، وأن بعض ضباط الجيش يؤيدونهم وينصرونهم في سياستهم الماسونية، وأن في هذا خطرًا على السلطنة. هذا، وإن أغرب أعمال احتكارهم أن يتهم من لم يكن له عمل ولا رأي في الانقلاب مثل صادق بك قطب رحى الانقلاب بأنه رجعي؛ لأنه غار على الدستور وعلى السلطنة، وأراد أن يعارض مثل ذلك المتهم في بيع المصلحة العامة بمنفعته الخاصة، ويمنع رهطه من الاستبداد والتفرد بالسلطة، وهذا عين ما كنا بيناه من قبل {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: ٢) . ((يتبع بمقال تالٍ))