للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


اللامركزية الإدارية
حياة البلاد العثمانية

جربت الحكومة المركزية العثمانية عدة قرون بالحكم المطلق وخمس
سنين بالحكم الدستوري النيابي فلم تفلح، وكانت خمس سنين منها دستورية،
أسرع إلى التخريب من خمس مئة سنة استبدادية، فظهر لكل ذي بصيرة أن
هذه المملكة المؤلفة من أقطار متنائية الأرجاء مختلفة العناصر في اللغات
والعادات والتقاليد والأخلاق، لا يمكن أن يحسن إدارتها الداخلية أفراد من
عنصر واحد من عناصرها يتربون ويتعلمون في عاصمتها من علوم الإفرنج
ولغاتهم وقوانينهم ما يريدون الاستعانة به على إدارتها مع جهلهم بلغاتها
وسائر شئونها، ويجعلون جميع مصالحها مرتبطةً بالعاصمة البعيدة عن
أكثرها، والتي يجهل لغتها التركية السواد الأعظم من أهلها، بحيث إذا أراد
رجل عربي أن يفتح مكتبًا أهليًّا في ذروة جبل من اليمن لا يبيح له نظامها
فتحه إلا إذا كتب إلى العاصمة باللغة التركية يستأذن بذلك وجاءه الإذن؛ ولن
يجيئه إلا إذا كان يُعلم بالتركية، ولن يجد من يُعلِّم بها، وإذا هُدم مكان
للحكومة في أبعد أرجائها لا يجوز بناؤه ولا ترميمه إلا بعد استئذان العاصمة
وورود الإذن، ولن يرد إذا اهتموا به إلا بعد عدة شهور وإلا فعدة سنين.
أكبر ما استفاده العثمانيون من إعلان الدستور جواز إبداء آرائهم في
حكومتهم ومصالحهم، وقد صرح بعضهم في السنة الأولى للدستور بأنه لا
يستقيم أمر هذه المملكة إلا بالإدارة اللامركزية، ولكن الجمهور صبروا على
حكم المركز مع اشتداد وطأته بغلوّ الاتحاديين وإسرافهم فيه، فرأوا من بوادر
نتيجته أن الاتحاديين وجهوا قوة الدولة كلها لقتال عناصرها وتذليلهم فنكلوا
بالأرنؤوط وعرب اليمن وعسير والكرك وحوران، وأضاعوا طرابلس
الغرب، فالولايات الأوروبية العثمانية كلها، واضطروا إلى الاعتراف
باستقلال إمام اليمن في بلاده وعرضوا مثل ذلك على السيد الإدريسي في
عسير، فكان كلما حدثت حادثة من هذه الحوادث يقتنع كثيرون من أهل
البصيرة والرأي بأن عدم المركزية خير وأبقى لهذه الدولة؛ فإن لم تبادر إليه
اضمحلت اضمحلالاً، وانحلت انحلالاً.
وقد كان أكبر الشبهات التي يغالط بها المتمتعون بالمركزية العامة
وأشياعهم، أن اللامركزية تمزق الدولة فيسهل على الأجانب ابتلاعها، ولكن
أهل المعرفة والحجة قد بينوا الحقائق للجمهور، فلم يعد يهذي بهذه المغالطة
مع المتمتعين بلذة السلطة المركزية وعظمتها وأموالها إلا منافق متملق لهم؛
ليشاركهم في بعض ما يتمتعون به، أو جاهل غملاج، يتابع كل أحد على
رأيه.
تُكشف هذه الشبهة بكلمة واحدة، وهي: أن المطلوب هو اللامركزية الإدارية
وهو لا دخل له في السياسة الخارجية ولا في الحربية، وحفظ البلاد من
استيلاء الأجانب عليها إنما يكون بالقوة الحربية أو الوسائط السياسية، ولا نعلم أن
أحدًا ينازع العاصمة فيهما، على أن مسألة طرابلس الغرب وحرب البلقان قد
أثبتا لكل ذي عقل وفهم أن حكومة الآستانة لا تقدر أن تصد أية دولة من الدول
الكبرى عن امتلاك ما تطمع فيه من بلادها، فعلم من لم يكن يعلم أن بقاء ما
بقي للدولة منوط أمره بالدول الكبرى إن شاءت أن تقسمه بينها فعلت، وإن
شاءت أن تتركه فعلت، والثاني هو المرجح عندنا الآن لما بيَّناه في موضع آخر
من هذا الجزء، ولا دخل فيه لشكل إدارة الولايات ألبتة. بل نقول: إن جعل ما
بقي تحت نفوذهن بالوسائل المالية أو السياسية وهو الخطر المنتظر لا يتم لهن
بسهولة إلا مع بقاء الحكومة المركزية؛ إذ يكفي إرضاء اثنين أو ثلاثة من أصحاب
النفوذ في مجلس الوكلاء لأخذ كل ما تريده أوربة من الامتيازات والأراضي
العثمانية، ورهن موارد الدولة، ولا يسهل هذا مع اللامركزية؛ لأنه يتوقف على
إقناع مجالس الولايات ثم العاصمة، فالخطر كل الخطر على البلاد إنما هو
من الحكومة المركزية، ولا سيما إذا كانت السلطة بيد جمعية الاتحاد
والترقي.
* * *
حزب اللامركزية ولجان الإصلاح السورية
نشرنا في هذا الجزء بيان هذا الحزب وبرنامجه السياسي، وهو مؤلَّف
من طائفة من أولي البصيرة والرأي وحملة الأقلام من العثمانيين المقيمين في
مصر، وقد تألفت في سورية عدة لجان للتشاور في طلب الإصلاح على
أصول اللامركزية الإدارية؛ وإن لم يذكر هذا الاسم فيها، وكانت حكومة
العاصمة على عهد وزارة كامل باشا راضيةً عن هذه الحركة ومؤيدةً لها،
وكان أمثل تلك اللجان لجنة بيروت فإنها انتخبت انتخابًا قانونيًّا، فكانت مؤلفة من
٨٦ عضوًا من خواص الطوائف كلها وستنشر لائحتها في الجزء الآتي.
والذي يسر في مجموع هذه المطالب وهذه الحركة المباركة، إن شاء الله، هو
أنها صادرة عن الشعور بالحاجة إليها المشترك بين المسلمين وغيرهم، وأنها
كانت أفضل مجلى من مجالي الاتفاق والألفة بين الجميع، وقد ظهر ذلك في
بيروت بصفة لم يسبق لها نظير، ولا أستثني ما كان عقب إعلان الدستور، فإن
تلك نشوة عارضة لا يعتد بمثلها، ولا يوثق بدوامه.
وقد توهم بعض الناس أن هذه الحركة كانت بتحريض أفراد من الأذكياء
يمكن استمالتهم بالمناصب والوظائف والوعود، فاغترت بذلك جمعية الاتحاد
والترقي، ووجهت همتها إلى استمالة هؤلاء الأفراد، أو استمالة من تظن أن
تركهم لطلب الإصلاح يتبعه ترك غيرهم، وسترى الجمعية أنها مخطئة وأن
كل من تستطيع استمالته يسقط من نظر إخوانه، فلا يبقى له عندهم قيمة ولا
تأثير، كما ظهر مثل ذلك لعبد الحميد الذي اتبع هذه السياسة من قبل.
وكتب إلينا وإلى أناس آخرين أن الجمعية تريد إرسال وفد إلى سورية
لأجل التفريق بين طلاب الإصلاح وإيقاع الشقاق بين المسلمين والنصارى،
وربما تستعين على ذلك ببعض جرائد المنافقين التي تمدها بمالها ونفوذها، فإن
الجمعية على محاربتها لكل ما يفيد الإسلام صارت تستخدم اسم الإسلام لتأييد
نفوذها، والمرجو من عقلاء إخواننا البيروتيين عامة وأصحاب الجرائد الرشيدة
منهم خاصة، أن يكونوا إلبًا واحدًا على من يسعى للتفريق بينهم بقول أو عمل، وأن
يحذروا من كل جريدة عرفت بالانتصار للاتحاديين أو تنشأ لترويج سياستهم،
وإذا ظهرت لهم جريدة عربية في الآستانة فليكونوا منها على حذر، ولا سيما
إذا استخدم لها قلم شيطان التفريق السفيه المشهور.
وقد جاء في بعض جرائد أمريكة أن لعزت باشا العابد يدًا في هذه
الحركة، وإنني أجزم - على علم - بأنه لم يكن له ولا لغيره من المقيمين في
خارج البلاد السورية والمصرية يد في ذلك ولا رأي ألبتة، ويتبع ذلك أنه ليس
لأحد منهم نفوذ ولا تأثير في ذلك.
* * *
تمليك الشخص المعنوي في الدولة العلية
جاء في البرقيات العامة من الآستانة أنه قد صدرت الإرادة السنية بجواز
تمليك الشخص المعنوي. قال المؤيد في تعليقه على هذه البرقية: وكان
السلطان السابق ممتنعًا كل الامتناع من أن يفعل هذا، فمثلاً كان لا يجوز لشركة
عثمانية أو أجنبية أن تمتلك، وإذا كان لا بد من هذا فكان التمليك باسم رئيس
الشركة؛ والملك لا ينتقل للشركة ذاتها في سجلات الحكومة، فكانت الشركات تأبى
أن تأخذ ملكًا بأسماء رؤسائها خوفًا من انحلال الملك عنهم إلى الحكومة متى توفوا ولا
وارث لهم.
وكان هذا المنع حتى لا تصبح الشركات مستعمراتٍ أجنبيةً ذات ملك
واسع في البلاد ينتهي أمرها إلى مثل ما انتهت إليه الشركات الإنكليزية في
الهند أو الهولاندية في الترنسفال أو البلجيكية في الكونغو.
أما الآن فقد أجيز تملك الشخص المعنوي، ويخشى أن لا يكون هذا
الشخص المعنوي مقيدًا بقيد العثمانية؛ لأنه إذا لم يكن كذلك أمكن لمثل شركة
حديد الأناضول الألمانية مثلاً أن تملك الأراضي الواسعة حولها فتصبح مستعمرات
ألمانية، ومثل ذلك يقال في الشركات الإنكليزية والفرنساوية في بغداد والبصرة
وسوريا وفي الشركات التي تنشأ من كل دولة أخرى.
ولهذا هرع إلى الآستانة منذ أسبوعين ماليون كثيرون كانوا يتطلعون إلى
أراضٍ واسعة في البلاد العثمانية، ولا يستطيعون شراءها بواسطة الشركات؛
لأنهم رأوا الفرصة سانحةً لهم، وبعض هؤلاء يؤملون أن جمعية الاتحاد
والترقي تأخذ أملاكًا واسعةً باسم شخصها المعنوي وتبيعها لهم سريعًا بثمن
موافق.
ولكنا مع هذا كله نؤمل أن نرى في نص الإرادة السنية ما يقيد الشخص
المعنوي بقيد العثمانية، حتى يزول الخطر الذي كان يخشاه السلطان
عبد الحميد. اهـ.
(المنار)
هذا الخبر يدل على ما أثبتنا عن مقاصد الاتحاديين المالية من قبل، وهو
أخوف ما نخافه من سياستهم المالية، فنسأل الله السلامة.