للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


دروس جمعية شمس الإسلام
(٥)

(أماليّ دينية - الدرس الخامس)
(١٧) وجود الواجب: عرفتم من الدرس الماضي معنى الواجب والمستحيل
والممكن، وأن وجود هذا العالم ممكن، وأن الممكن يحتاج في نظر
العقل إلى مرجح يرجح وجوده على عدمه، لأنهما متساويان عنده، وترجيح أحد
المتساويين بلا مرجح محال، والآن نقول: إن المرجح لوجود هذا العالم الممكن
على عدمه لا بد أن يكون واجبًا، وبيانه أن ترجيح وجود الممكن عبارة عن إيجاده،
وموجد الشيء لابد أن يكون غيره، ولا موجود غير الممكن إلا الواجب، فتعين أن
يكون ما يستند إليه وجود الممكن واجبًا، أما كون موجد الشيء لا بد أن يكون غيره
فهو بديهيّ، لأنه لو أوجد نفسه لكان سابقًا عليها في الوجود إذ المؤثر سابق على
أثره طبعًا، فيقتضي أن يكون موجودًا قبل وجوده، أي موجود غير موجود في آنٍ
واحد وهو محال بالبداهة، فإن قيل: إنما يصح هذا بالنظر إلى طبيعة الممكن التي
تشمل جميع الممكنات، ولنا أن نقول: إن بعض هذه الممكنات أوجد البعض الآخر،
نقول في الجواب: إذا لم نقم لكم الدليل في جملة الممكنات فإننا نقيمه في أول
جزء وجد منها، فإنكم سلَّمتم أنه لا يكون إلا حادثًا وأنه يستحيل أن يحدث الشيء
نفسه، فتعين أن يكون الذي أحدثه هو الواجب؛ لأننا فرضنا أنه لا ممكن قبله فثبت
المطلوب.
(١٨) ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الاعتقاد بوجود بارئ الكون فطري
في الإنسان، بل قال بعضهم: إنه فطري في الحيوان؛ لأنك إذا ضربت الهرة من
ورائها أو صِحت بأي حيوان، يلتفت لما؛ هو مركوز في فطرته من أن كل فعل
لا بد له من فاعل، وكل حادث لا بد له من محدث، وقد سُئل أعرابي عن الدليل على
وجود الله تعالى، فقال: البَعْرة تدل على البعير، وآثار الأقدام تدل على المسير،
فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فِجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على وجود
العليم الخبير؟ ! استدل أهل هذا المذهب بالاستقراء التاريخي، فإنه لم توجد أمة من
الأمم ولا شعب من الشعوب إلا وهو يعتقد بإله للكون وموجد للعالم، أجمع على
هذا الاعتقاد في الجملة المتمدنون والهمج، حتى زنوج إفريقيا وسكان جزائر المحيط
من أكلة لحوم البشر وغيرهم، ويدل عليه ما جاء في القرآن من محاجة الأنبياء
لأقوامهم، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ
وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ
وَقَالُوا إنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي
اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ
مُّسَمًّى قَالُوا إنْ أنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أن تَصُدُّونَا عَمَّا كَأنَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا
بِسُلْطَأنٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ
مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَأنَ لَنَا أن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
المُؤْمِنُونَ} (إبراهيم: ٩-١١) فجواب الأمم لأنبيائهم عن قولهم:] أَفِي اللَّهِ
شَكٌّ [بقولهم:] إنْ أنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا [يدل على أنهم لم يكونوا شاكين في وجود الله
تعالى، وإنما كان شكهم في النبوات لاستبعادهم أن يمتاز بشر مثلهم بالسفارة بين الله
تعالى وبين خلقه، وقد أجابهم الأنبياء بما سمعتم في الآية، وسيأتي توضيحه
في محله إن شاء الله تعالى، حقًّا إن أهم مسائل علم العقائد مسألة الوساطة بين الله
تعالى وبين الناس، فقَصْرُهذه الوساطة على التبليغ فقط يشمل أمرين (أحدهما)
التوحيد الذي يصطلم جراثيم الوثنية التي أهلكت جميع الأمم (وثانيهما) النبوة التي
أخرجت الناس من الظلمات إلى النور، أما وجود الله وعلمه وقدرته فلا يشك فيها
عاقل.
يقول قائل: إن من الناس مَن أنكر وجود صانع للكون، فكيف يكون الاعتقاد
به فطريًّا؟ والجواب: إن هؤلاء شرذمة قليلة كما قال بعض علمائنا، وأظنه السعد
التفتازاني وعبارته التي أذكرها هي: (اتفق الناس على وجود الصانع تعالى خلا
شرذمة قليلة ذهبت إلى أن وجود العالم أمر اتفاقي، وهو بديهي البطلان) وقد رد
عليهم العلماء بالأدلة النظرية كالدليل الذي تشير إليه العبارة من أن هذا الاعتقاد
يستلزم أن يكون العالم وجد بالمصادفة والاتفاق من غير فاعل يرجح وجوده على
عدمه، وهذا كما قال بديهي البطلان وملزومه كذلك بالضرورة، وإنما قلت: يستلزم
ما ذكر لأن منكري الصانع من المشتغلين بالعلوم العقلية لا يقولون بالمصادفة بل
ينكرونها أشد الإنكار، ولئن قال بها بعضهم فلا يقول بها كلهم، والجواب الصحيح
إن هؤلاء الشذّاذ قد أصابهم مرض في عقولهم خرج بهم عن مزاج الفطرة المعتدل
بالنسبة لهذه العقيدة، والعقول تمرض كما تمرض الأجسام فلا تؤدي وظائفها على
الوجه الذي تقتضيه الفطرة المعتدلة، ألا ترى أن الصفراوي يذوق العسل مُرًّا،
والأحْوَل يرى الواحد اثنين، هذا ما أجاب به أستاذنا الأكبر مفتي الديار المصرية
لهذا العهد، وهو جواب لا أحسن منه، ولا يصدنكم عن قبوله أن ممن ينكر الباري
بعض الفلاسفة وهم من أكبر الناس عقولاً، لأنه كما يطرأ الضعف على الجسم
القوي فيعطِّل بعض أعضائه عن وظائفها ويبقى سائر الجسم قويًّا كذلك يفعل بالعقل،
فقد ثبت في العلم الحديث أن لكل نوع من أنواع الإدراك مركزًا مخصوصًا في
الدماغ، وأن المرض قد يطرأ على بعض هذه المراكز دون بعض، وقد اهتدوا
بمعرفة هذا إلى معالجته بالطرق الجراحية، من ذلك أن بعض الناس نسي بعض
الأرقام الحسابية لجلطة دموية أصابت المركز الذي يدركها من الدماغ، فصار لا
يقدر على حل مسألة حسابية فيها ما نسي من الأرقام حتى عولج معالجة جراحية
وشفي، وثبت أيضًا أن من الناس من تختل بعض مراكز الإدراك في دماغه بحيث
يكون مجنونًا، ويقوى مع ذلك بعضها بحيث يفوق في إدراكه به أعقل العقلاء، كان
بعض المجانين يُسأل عن أعوص مسائل الحساب والجبر، فيجيب عنها بالبداهة،
ولو سئل عنها أمهر الرياضيين لاحتاج في حلها إلى ساعات، وحاصل القول إذا لم
يثبت أن الاعتقاد بوجود صانع الكون مودع في غرائز البشر وفطرهم، فإن
البراهين النظرية على ذلك كثيرة، ومنها ما أوردناه في صدر الدرس: {إنَّ فِي
خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (آل عمرأن: ١٩٠) {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} (الذاريات: ٢٠-٢١) .
((يتبع بمقال تالٍ))