للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نساء المسلمين وتربية الدين
ورأيا كاتبة أوربية وأميرة مصرية

يقولون: لا يصلح حال المسلمين إلا إذا صلح حال نسائهم؛ لأن النساء نصف
الأمة الذي يربي كل أفرادها التربية الأولى التي هي أساس وأصل لما بعدها، وهذا
القول صحيح لا خلاف فيه؛ وإنما الخلاف فيما يصلح به حال نساء المسلمين.
يقول قوم: إنه يصلح بالتعليم؛ ولذلك رغب الجماهير في هذا العصر بتعليم
البنات ولكننا نرى أكثر المتعلمات شرًّا من غير المتعلمات! ما زدن بيوت آبائهن ثم
بيوت بعولتهن إلا شقاء وتعاسة جد بما يكلفنهم من أعباء الأزياء وأوزار الزينة
وأثقال الحلية والماعون، وآصار الأثاث والرياش، وما يرهقنهم من العسر في
أمورهم، وما يدفعن من الكيد في نحورهم، ومن غير هؤلاء المتعلمات محصنات
غافلات حافظات للغيب بما حفظ الله، ورأيت منهن بنتًا فقيرة تمشي في شارع
العباسية وقت الغروب فمد يده إليها شاب من مُجَّان الأفندية فصاحت به: ويلك أيها
الوغد الأثيم، والعُتُل الزنيم، أتعرف إلى من مددت يدك؟ كنت مارًّا فسمعت
صوتها فرميت ببصري إلى حيث سمعت الصوت، فرأيت فتاة عليها جلباب أسود
خَلِق وقناع كأنه ملحفة زيَّات، ورأيت ما لم يره صاحب اليد الخاطئة، رأيت على
رأسها تاجًا من العزة والأمانة، وعلى عاتقها حللاً من العفة والصيانة، ورثتها مما
ترك الأمهات والجدات من خشية الله تعالى وحفظ ما أمر بحفظه.
لا أقول: إن التعليم ضار بذاته؛ وإنما ينفع التعليم إذا كان معه تربية قويمة،
فإذا كنا محتاجين إلى مثقال من التعليم فنحن أحوج منه إلى قنطار من التربية، ولا
تربية إلا بالدين وآدابه وفضائله، أرأيت تلك البنت الفقيرة البائسة التي كان من أمر
استقلالها وسلطان عصمتها ما سمعت، إنها لأحسن تربية من اللائي تعلمن أو أخذن
الشهادات من المدارس، إن كان فيهن من تربت في بيت أبيها، وإنني ذاكر لك
واقعة عنهن بإزاء واقعة البائسة الفقيرة:
أخبرنا رجل غريب نبيه أنه دخل في مصر يشتري شيئًا، فألفى بعض بنات
المدارس يبتعن بعض أدوات الدراسة، وألفى صاحب المكتبة يغازلهن ويناغيهن
حتى بلغ من تماديه في غيه أن مد يده إلى صدر إحداهن يعبث بثديها، فكأنهن وقفن
أنفسهن على العلم والتعليم حتى أبحن صدورهن لمن يتعلم فن الثُّديٍّ الفوالك
والكواعب والنواهد.
هذا المَسَن والفنوك والمجون والتهتك والتخنث هو الذي أقام قيامة الناس في
مسألة الحجاب، ورأوا طلب التخفيف فيه من العجب العجاب، فذهبوا في النظر
والاستدلال مذاهب الوهم والخيال، وطال المراء والجدال، ولعمري إن فتاة
العباسية كانت سافرة وفتيات المكتبة كن متبرقعات ولكن بمناديل الشفوف، لا
بحجاب الشرع المعروف (فعليك بذات الدين تربت يداك) .
في مصر الآن كاتبة من عقائل الفرنساويات السائحات لها عناية بالوقوف
على شؤون نساء المسلمين، وقد أقامت في الآستانة العلية زمنًا طويلاً، ومقامها في
هذه السنين بالجزائر وهي تكتب نتائج اختبارها في قصص مما يسمونه (رومان)
مبينة فيه رأيها، وقد كان من تأثير قصة منها طُبعت ونُشرت أن أصدر مولانا
السلطان الأعظم - أيده الله تعالى بالنصر والتوفيق - أمره بمنع المسلمين من اتخاذ
النساء الأوربيات خادمات ومربيات، فأشاع بعض الأتراك أن السبب في المنع أن
هؤلاء المربيات والخوادم ينقلن الأخبار الشفاهية بين وجهاء الآستانة وكبار
الموظفين، وأنه لم يبق لهم غير هذه الصلة الأمينة، فعلم بها السلطان فقطعها حتى
تقطَّع بينهم، والصواب أن السبب في المنع هو ما جاء في تلك القصة التي نشرتها
تلك الكاتبة على ما قالت لبعض وجهاء مصر.
ذلك أنها قالت في القصة: إن ما يظنه الأوربيون من أن خدور نساء
المسلمين، أو ما يسمى عندهم (الحرم) هو عبارة عن ماخور خفي أو بيت فجور
سري - هو ظن آثم وحكم ظالم، ولقد سبرت الأغوار ونبثت البئار، ووفقت على
ما وراء الأستار، فعلمت بعد طول الاختبار، أن النساء المسلمات هن المحصنات
الطاهرات، وأن ما وجد في بعض البيوت من لوث في الأعراض؛ فإنما هو في
البيوت التي تعلم النساء فيها عند الأوربيين، أو دخل فيها الخوادم والمربيات
الأوربيات، فهؤلاء المسلمات تركن بهذا التعليم الناقص آداب دينهن وفضائله
المؤثرة في إصلاح النفوس، فأمسين عابدات الهوى لا وازع لهن من أنفسهن.
قالت الكاتبة: وعندي أنه يستحيل إصلاح حال المسلمين إلا بإرجاع الدين إلى
البيوت، تعني تربية النساء تربية دينية إسلامية، ويالها من حكيمة زكية.
زارت هذه الكاتبة العاقلة أحد فضلاء المسلمين في مصر لتسأله عن أحكام
دينية تريد الكلام عنها في قصة تشتغل بتأليفها الآن على وجه الصواب، ومما قالته
إنها عرفت بعض الأميرات في مصر فأرادت أن تستعين بها على السعي في تربية
البنات تربية دينية فَضَلَّ سعيها وخاب أملها، كتبت إلى الأميرة كتابًا تذكر فيه تأثير
دين الإسلام في إصلاح النفوس وتهذيب الأخلاق وتقيم الحجج القيمة والبراهين
الناصعة على أن حال النساء لا يصلح إلا بالدين، وحال البيوت لا يصلح إلا
بالنساء، وحال الأمة لا يصلح إلا بالبيوت التي تتألف الأمة منها، ثم تستنجد بها
على السعي في (إرجاع الدين إلى البيوت) بعبارات تبعث الشعور في سكان
القبور، وتلين لها الجنادل والصخور، وإن كان لا يلين قلب الختَّار الكفور،
فأجابتها الأميرة الخطيرة سليلة محمد علي الكبير: إنك أيتها المدام تحاولين أن
ترجعي بنا إلى رق الرجال وأسرهم، وأن تسلبينا ما منحته الحرية من إطلاق
السراح وتعيدي أرجلنا إلى تلك المقاطر والقيود، وتجعلي في أعناقنا تلك الأوهاق
والأغلال، فكيف نرضى بأن نترك الحرية للعبودية، ونستبدل الهمجية بالمدنية،
هذا معنى ما كتبته الأميرة بالفرنسوية، فليعتبر المسلمون بأمرائهم وأميراتهم.
إن بركان الفساد والفجور لم ينفجر إلا من تلك القصور، وقد ألقى بقذائفه
الخبيثة على ما جاور القصور وقاربها من البيوت العالية، ومنها تعدى إلى البيوت
الصغيرة، ثم إلى الخيم والأكواخ الحقيرة، ذلك أن مدار التربية العمومية والمذاهب
الاجتماعية على التأسي والقدوة وسنة الكون في الأسوة أن تقتدي كل طبقة بما فوقها
وفي الأمثال السائرة (إن السمكة تنتن من رأسها) فكما أفسد الأمراء رجال الأمة
وأماتوا استقلالهم الشخصي الذي هو أصل استقلال الأمة، كذلك فعل نساؤهم بنساء
الأمة، علمنهن الترف والسرف والمخيلة والانغماس في النعمة وإبداء الزينة،
وحببن إليهن الخلاعة والتهتك، بل أغوينهن بشرب الخمرة أم الخبائث ومنبع الفتن
وآفة العفة والصيانة، فكيف يرجى منهن بعد هذا كله أن يهدمن كل ما بنين ويسعين
ببناء صالح جديد يكون منبعًا لكل صلاح، ألا وهو إعادة الدين إلى البيوت بعدما
فارقها حزينًا مهينًا؟
لقد جرى القلم بسائق الامتعاض والانفعال إلى ميدان لم يكن من القصد جريه
فيه، فلنمسك بعنانه ونصرفه عنه، وإن لنا لعودة إلى بيان هلاك الأمم بالترف
والسرف نفصِّل القول فيه تفصيلاً، أما تربية النساء بالدين أو إرجاع الدين إلى
البيوت كما تقول الكاتبة الفرنسوية الفاضلة فهو عضلة العقد وأكبر المشكلات؛ لأن
الطريقة المثلى التي تجب لا يعرفها إلا الأقلون، ولا بد لها من كتب مخصوصة
تجمع بين السهولة والتأثير لتعين عليها، فهل يتعب نفسه العارف بوضع كتب في
ذلك، وينفق فضل ماله في طبعها وهو يعلم أنها لا تروج في المدارس؛ لأن
الحكومة لا عناية لها بالدين وأن المدارس الأهلية لا غرض لها إلا التجارة، وهي
دون مدارس الحكومة في كل شيء؟ نعم لو أن في البلاد عددًا كبيرًا من أهل
العقل والغيرة يعرفون قيمة هذا العمل، ويؤازرون من يقوم به ويعملون بما يرشد
إليه في بيوتهم - لوُجد القائم به؛ ولكن قومنا مشغولون عن كل هذا باللهو واللعب
يبذل الغني ماله في طلب لقب ضخم يتبجح به، أو وسام لامع يزين به صدره يوم
لقاء الأمير في العيد، وهم غافلون عما في بيوتهم من معاول الخراب، وعن سير
أمتهم في طرق العدم والانقراض، ولخادعيهم المكانة الأولى عندهم (وقد يستفيد
الظنة المتنصح) .
((يتبع بمقال تالٍ))