(١٥) ليس الشأن كل الشأن في استقلال الأمة الإداري ومستقبلها السياسي فقط، فإن هذا وإن كان مطمح كل قبيل، وضالة ينشدها كل شعب، وغاية تتزاحم في الإشراف عليها الأمم، لكن وراءه مزية دونها كل المزايا، نسبة تلك المزية إلى الأمة كنسبة الحياة للشخص، هل يقوم المرء بدون حياة؟ فكذا الأمة لا تقوم بدون تلك المزية، إذا تقلصت الحياة عن هيكل الشخص عاد جمادًا، أو كان الجماد خيرًا منه، الجماد يقاوي الفواعل الطبيعية ويصابرها، أما الشخص بعد زوال حياته فلا بقاء له، بل تتلاعب به تلك الفواعل، وتحلل عناصره، وتمحو وجوده، كذلك الأمة إذا فقدت تلك المزية، تسلط عليها الفناء، وانغمست بالعدم، إذا نفث المرء روحه [١] لا يلبث حتى تتحلل دقائق جسمه، وتتفرق عناصرها، فيتناولها ما أحاط به من المكونات، وتدخل في بُنى (جمع بنية) الأجسام الأخرى، وهذا شأن الأمة إذا زايلتها تلك المزية، انفصمت عُرى هيئتها، وعادت أفرادًا متبددة تدخل في تراكيب بقية المجتمعات البشرية، وتتحد بعناصر الفاتحين والمتغلبين، وتلتحم بأجناسهم، مزية هذا شأنها لا تعذر الأمة إذا تهاملت في احتفاظها وتواكلت في توفيرها والذبّ عنها. أي شخص لا يستميت في الذب عن حياته؟ أي شخص لا يستبسل في الدفاع عن روحه؟ من يرى شخصًا يعرض نفسه للتهلكة ويخاطر بحياته، ولا يحكم بأنه مختلط، أو لا يسجل عليه بالجنون؟ لا جرم أن استقلال الأمة الجنسي هو حياتها، وبدونه لم تكن الأمة أمة. الاستقلال الجنسي مناطه اللغة والدين، فكل أمة حافظت على لغتها، واستمسكت بدينها، كان لها أن تأمن على جنسيتها من الضياع، وكل أمة عرضت لغتها للزوال، ودينها للابتذال، فبشِّرها بانطفاء على جنسيتها قليلاً قليلاً، وانغماسها في غمار الأمم شيئًا فشيئًا، الاستقلال السياسي هو أن تحكم الأمة نفسها بنفسها، والاستقلال الجنسي هو أن تحافظ على لغتها ودينها، إذا فقد القبيل استقلاله السياسي كأهالي الجزائر مثلاً، كان عليه أن يصون استقلاله الجنسي، وإلا لم يمض عليه قرون حتى يتحول جنسه إلى جنس الأمة الغالبة، ويدغم فيها، ويسبك معها في قالب واحد. لتجتهد الأمة المغلوبة في تنمية جنسها وتقوية حياته، كي لا ينفعل بفعل جنس الأمة الغالبة، ويتضاءل أمام مساورته ومغالبته فيتحول إليه ويمتزج بعناصره ويدخل في تكوينه، إذا سدك الحيوان (لبث ولزم) بأرض ملاحة، وافترش معدنها الملحي زمنًا طويلاً تبقى له هيئته الحيوانية ما دامت فيه حياة، فإذا زالت حياته يقوى حينئذ عنصر الملح على جسمه، ويغلب على مواده وعناصره، ويحول كل ذلك إلى عنصره الملحي، ويصير ذلك الحيوان جرمًا معدنيًّا بعد أن كان جسمًا آليًّا، هذا أجلى مثال نضربه للأمة التي تحافظ على جنسها، والأمة التي تهمل ذلك أو تقصر فيه. إذا تغلبت أمة على أخرى وابتزت استقلالها السياسي وملكت عليها أمرها، كانت كمن استرق الآخر وحجر عليه، أما إذا عملت في ضعضعة دينها، واستئصال لغتها لتتوصل بذلك إلى محو جنسيتها، كانت كمن يقتل الآخر ويسلبه حياته، إذا فرط المرء بحريته. وتوانى في صيانتها حتى اختلسها العدو واستعبدها، فالأحجى به حينئذ أن يجدَّ في حفظ حياته وتنمية قوامها، لعلّه يتوصل به يومًا ما لاسترداد حريته ومعاودة استقلاله، وما أشد حمقه لو فرّط في الحياة أيضًا، ومكن العدو من الصيال عليها وإعفاء أثرها، إذا زالت حياة الإنسان لا يمكنه استرجاعها، بله استرجاع حريته. لا جرم أن يكون مَثَل الأمة التي تتوانى في حفظ جنسيتها، كمَثَل ذلك الأحمق الذي يلقي بنفسه في الهلكة، ويعرض حياته للخطر. وبالجملة يجب على الأمة صيانة جنسيتها وبذل أقصى الجهد في مقاومة المتعرض لثلمها، كما يجب على الشخص أن يتذرع بكل ما لديه من الوسائل لحفظ حياته، ولو ببذل حياته، نعم، إن الكريم يموت حرًّا، ولا يموت صبرًا. وإذا لم يكن من الموت بُدّ ... فمن العجز أن تموت جبانًا الفرنسويون في الإلزاس واللورين يغلون غلوًّا كبيرًا في حفظ جنسيتهم الفرنسوية، كما هو شنشنة الألمانيين في البلاد النمسوية، مع أن وراء كل قبيل منهما أمة موطدة الأركان، ودولة مشيدة البنيان، تعمل كل من تينك الأمتين في تأييد جنسيتها، وإلباس ردائها لكل من تصل إليه يدها، فكم هو خليق بالمسلمين أن يجتهدوا في حفظ جنسيتهم، ويعملوا في توثيق عُرى دينهم، وتمديد سرادقات لغتهم وليس لهم من الحكومات حكومة ثابتة الأساس، عاملة على نشر الدين وحمايته، وصيانة اللغة العربية من الضياع والاضمحلال، لعمري إن أوجب ما يجب عليهم أن يتفانوا في صيانة جنسيتهم، ويتقحموا المخاطر في سبيل حفظ دينهم ولغتهم، وإلا غشيتهم من الطمطمانية ظلم، وتلاطمت فوقهم أمواج العدو، والعياذ بالله. فرنسويو الإلزاس واللورين لو أُكرهوا على التجرد من الجنسية الفرنسوية، والاصطباغ بالصبغة الألمانية، لاستحبوا الموت، وتجرعوا كأسه دون ما أُكرهوا عليه، مع أنهم لو تجلببوا بالجنسية الألمانية، كان لهم بعض التسلية والعزاء؛ لأنهم يعلمون أن الجنسية الفرنسوية لها رجال على ضفاف السين يخدمونها خدمة العبد الأمين لسيده، يعلمون أن الجنسية الفرنسوية تتألق شمسها في ربوع فرنسا تألق شمس الضحى في سمائها لا يعتري تلك أفول أو تكور هذه، وتنسلخ عن أضوائها، يعلمون أن الجنسية الفرنسوية تنبعث أشعتها من فرنسا، وتمتد إلى كثير من أطراف المعمور، وتخلل في ظلمات أفريقيا الغربية، يعتقدون أنها عمّا قليل تحول ليلها نهارًا، وغياهبها أنوارًا. هذا شأن القول في الحمس الوطني، والغيرة على الجنس، تُرى ماذا يجب أن يكون شأن أحد الشعوب الإسلامية لو عدا عادٍ على جنسيته، وحاول مسّها والعبث بها؟ أما يجب عليه أن يلتهب ويتبخر تأمور قلبه (دمه) حمية في الدفاع عنها، وصيانة استقلالها، وهو يعلم أن كل قبيل من بين جنسه معرض مثله لضياع الجنس وفساد اللغة، وليس ثمة دولة حية تعمل في تنمية الحياة الإسلامية وتقوية جنسيتها الدينية واللغوية. فقد تبين للسائل الآن أن العمل والجد في الإصلاح لا مندوحة عنه، ولا هوادة فيه، وهو واجب متعين على كل من له قدرة على العمل، سواء سلم للأمة استقلالها السياسي والإداري، أو لم يسلم لها شيء من ذلك، كما في البلاد التي ملك عليها أمرها الأجنبي، فكل جماعات الأمة يلزمها النظر في الإصلاح؛ لتحفظ جنسها، وتصون دينها؛ كي يتسنى لها فيما بعد التفلت من أحبولة الاستعمار، والانطلاق من مطمورة الرق والعبودية. ((يتبع بمقال تالٍ))