(لا بابوية في الإسلام ولا تُباع شفاعة خير الأنام) ذكرنا في الجزء الماضي أن بعض المنافقين زين للاتحاديين أن يستغلوا حجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بوضع دفاتر فيها، يكتب فيها أسماء الناس الذين يبذلون لهم الذهب الأحمر لتكتب أسماؤهم في تلك الدفاتر، وبيّنا قباحة هذه البدعة المشتملة على عدة جرائم منكرة، وبينا أن سلف الأمة الصالح ما كانوا يتسامحون في إحداث بدعة من العادات المباحة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لئلا يدخل محدث ذلك، والراضي به في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في مسجدنا هذا حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ؛ وهو الحديث الذي احتج به الإمام مالك على ابن مهدي العالم الزاهد لمَّا صلى على ثوبه. وبنينا على ذلك أننا لا نظن أن جمعية الاتحاد والترقي تقبل هذا الاقتراح، ولا أن الحكومة تنفذه. ثم بلغنا بعد ذلك أن موضوع المشروع أن تسمى تلك الدفاتر دفاتر المستشفعين؛ أي أن كتابة الأسماء في تلك الدفاتر طريق أو سبب لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فهي إذًا عبارة عن بيع شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم لِمَنْ يريد أن يشتري، وأن أقل ثمن لها ليرة عثمانية. الشفاعة لا تملك فتباع، ومن يدعي أن كتابة اسم أحد ووضعه في الحجرة النبوية يكون سببًا لشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم له فهو مفترٍ على الله ورسوله؛ لأن هذا أمر لا يُعلم إلا بوحي من الله، ولو أنزل الله تعالى فيه شيئًا يدل عليه بالنص أو الفحوى لكان أجدر الناس بمعرفته والعمل به الصحابة - رضي الله عنهم - ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. لهذا ننصح للذين لا يعرفون أصول الدين وفروعه من رجال الدولة الاتحاديين أن يتجنبوا هذه البدعة، فليست هذه المسألة كغيرها من الأمور التي تجرءوا عليها. وليتذكروا أن مسألة بيع البابوات للغفران هي التي أحدثت الانقلاب الديني العظيم الذي آل إلى سلب السلطة السياسية من البابوات، بعد حروب شابت من هولها الولدان، على أن بيع الغفران له وجه ما في دين النصارى؛ إذ يحتجون عليه بقول أناجيلهم أن ما يحلونه أو يعقدونه في الأرض يكون كذلك في السماء، وبيع الشفاعة بدعة في الإسلام ليس لها وجه ولا شبهة؛ بل تدل الحجج الكثيرة على بطلانه. وقرنه بالشرك بالله تعالى لأنه قول على الله بغير علم، وشرع لم يأذن به الله، وزيادة في الدين الذي أكمله، وداخل في عموم الأحداث والبدع التي نهى وحذر الشارع منها ولعن مُحْدِثَها. والآيات والأحاديث في هذا كثيرة، تدعمها الآيات الناطقة بأن يوم القيامة لا يملك فيه أحد لأحد شيئًا لا شفاعة ولا غيرها وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ وحده فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ولا يأذن إلا لمن رضي له قولاً {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ} (الأنبياء: ٢٨) وأجمع المسلمون على أنه ليس لأحد أن يجزم بمستقبل أحد في الآخرة إلا بنص من الشارع، فليس لأحد من رجال الحكومة العثمانية ولا غيرهم أن يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع له أو لأحد معين، فمن لا يملك الشفاعة لنفسه، كيف يبيعها لغيره؟ فإن كانوا في شكٍّ من نصحنا لديننا ولهم في هذه المسألة فليعرضوها على علماء الفاتح وعلماء السليمانية في عاصمتهم ويطلبوا منهم إبداء رأيهم فيها بالحرية التامة، وربما نعود إلى بيان ذلك بالتفصيل، ودلائل السنة والتنزيل {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: ٤) . *** (جمعية خدام الكعبة في الهند) جاءنا من هذه الجمعية رسالة وجيزة ملخصها أن الدولة العثمانية أصبحت على خطر مما يبيّت لها الأعداء، وأن أكبر أماني المسلمين أن تكون غنية قوية، وأن مؤسسي الجمعية أحسوا بما سيصيب الحرمين الشريفين من المصائب الحاضرة فأسسوا هذه الجمعية لا يقصدون منها (إلا مساعدة الدولة العثمانية في المحافظة على الحرمين الشريفين وبذل المال والنفس في سبيل حمايتها من الغوائل) ومن ذلك تعليم العرب الذين يقطعون السبل على الحجاج. كل هذا حسن؛ ولكن جاء بعده أن الجمعية تريد إنشاء جريدة باللغتين العربية والأوردية. قال الكاتب: (حتى ننشر أفكارنا في جميع البلاد الإسلامية وننبه المسلمين إلى ما يجب عليهم نحو دينهم ودولتهم الوحيدة ... إلخ) ، وهذا هو الأمر الذي لم نفهمه: جمعية خدام الكعبة أنشئت لخدمة الحرمين الشريفين فكيف يجوز لها صرف المال الذي تجمعه للحرمين الشريفين في إنشاء جريدة سياسية، وما هي هذه الأفكار التي يريد رئيس تحرير الجريدة أن يبثها في العالم الإسلامي؟ هل هي أفكاره أم أفكار الذين يتبرعون بالمال لخدمة الحرمين الشريفين؟ ومن أين وقف على أفكارهم؟ وهل دفعوا المال لأجل نشر الأفكار السياسية أم لأجل خدمة الحرمين؟ قد بينا رأينا من قبل في هذه الجمعية وفيما يجب أن تكون عليه فلا نعيده. ونقول الآن: إنه لا يجوز لها - بحسب قانونها الذي نشرناه وبحسب ما اقترحناه من تعديله - أن تنفق شيئًا من مالها على إنشاء الجرائد، فهذه الفكرة الجديدة قد أزالت ثقتنا بالجمعية إلا أن يرجعوا عنها. أما مساعدة الدولة العثمانية بالمال والنفس فهو عمل نشكره لكل من قام به في الهند وغيرها، فمن شاء فليؤلف له جمعية مستقلة ولينشئ له ما شاء من الجرائد بما شاء من اللغات، وأما خدمة الكعبة والحرمين الشريفين فيجب أن يكون بمعزل عن السياسة وأهلها، وهو عمل تخدمه جميع الجرائد الإسلامية في جميع الأقطار، وتنشر لجمعيته ما شاءت من غير أجرة فلا يحتاج إلى جريدة خاصة. إن مساعدة الدولة بالمال والنفس وبث فكرة الجامعة الإسلامية يوشك أن تقاومه حكومة تلك البلاد وتبطله وتصادر جريدته، فإذا كان ملصقًا بجمعية خدام الكعبة يوشك أن يكون شؤمًا عليها وسببًا لزوالها؛ لأجل هذا نحب أن تكون بمعزل عن السياسة. وما دمنا نرى هذا الرأي فإننا ننصح لكل مسلم أن يقاوم هذه الفكرة الجديدة التي عزمت عليها جمعية خدام الكعبة؛ لتكون جمعية خيرية محضة. والسلام على من اتبع الهدى، ورجّح الحق والمصلحة على الهوى. *** (مفاسد المتفرنجين في أمر الاجتماع والدين) يهاجم الإسلام والمسلمين جيش خارجي من دعاة النصرانية، وجيش آخر داخلي من دعاة التقاليد الإفرنجية. والثاني أنكى من الأول وأضرّ، وأدهى وأمرّ؛ لأن جُلّ أفراده من المارقين الذين يعدهم المسلمون منهم وما هم منهم، ولسبعون عدوًّا خارج الدار أهون من عدو واحد في الدار فقد تمر السنون ودعاة النصرانية تبحّ أصواتهم من الصياح بالخطب والجدل؛ ولا يقع في شركهم في القطر الكبير إلا واحد أو آحاد يلجئهم الفقر إلى أن يكونوا من خِرَافِهم؛ لأنهم يجدون من المرعى عندهم ما لا يجدون عند غيرهم. وقد ورد في الحديث: (كاد الفقر أن يكون كفرًا) وقلَّما تجد واحدًا من هؤلاء الخِراف يأنس مرعًى له خارج دمنتهم إلا ويتفلت منها. وأما هؤلاء المنافقون المتفرنجون فإنهم يغشون المسلمين بأنهم منهم، ينفعهم ما ينفعهم ويضرهم ما يضرهم، وإنهم إنما يدعونهم إلى الترقي عمّا هم عليه إلى مدنية أعلى وحضارة أسمى، وهي أن يكونوا مثل الإفرنج في عزهم وثروتهم وزخرفهم، ويحسبون - لصغر عقولهم وقصر نظرهم - أن ما يفوقنا به الإفرنج من الثروة وأسباب القوة، قد جاءهم من رقص نسائهم مع رجالهم، ومن اختلاطهن بهم في مجامعهم ومحافلهم، أو من عدم مبالاة كثير منهم بالدين، وإن كان الأكثرون يتعصبون له ويبذلون له الملايين، أو من عاداتهم في طعامهم وشرابهم وأزيائهم، وفسقهم وفجورهم، واجتماعهم وافتراقهم، فطفقوا يقلدونهم في شر ما عندهم، ويدْعون المسلمين إلى تقليدهم في أمثال هذه الظواهر، على أن منها ما هو من سيئات مدنيتهم وقبائحها التي ينكرها عليهم حكماؤهم وعقلاؤهم، ومنها ما هو مناسب لطبيعة بلادهم وأجيالهم دوننا، ومنها ما لا نفع فيه ولا ضر لذاته ولكنه يضرنا من حيث هو تقليد لهم يضعف روابطنا القومية، ومشخصاتنا الاجتماعية، ويحقر أمتنا في أنفسنا ويعظم أممهم فيها، فيكون تمهيدًا لقبول سيادتهم علينا بغير امتعاض، دع ما يتوقف عليه البقاء من الجهاد. وقد قوي هجوم هؤلاء المتفرنجين في فاتحة هذا العام فكان أشد مما كان عليه في العام الماضي، فكان شأنهم عنا كشأن دعاة النصرانية سواء. ومنبت هذه الفتن ومطلع رؤوس شياطينها الآستانة ومصر، وقد اشتركت المدينتان في مسألة الدعوة إلى تهتك النساء باسم تحرير المرأة، وامتازت الآستانة بالغلو في عصبية الجنسية، وقطع ما أمر الله به أن يوصل من الوشائج الدينية، بمثل كتاب (قوم جديد) و (ترجمة القرآن) بالتركية وغير ذلك. *** (مسألة تحرير المرأة أو تهتكها) إن الآستانة ومصر فرسا رهانٍ في تهتّك النساء وفي تجريء المتفرنجين على ذلك، وقد نشر بعض الشبان في الجرائد المصرية دعوة إلى جمعية تسعى لهتك ما بقي من آثار الحشمة التي يسمونها حجابًا وإبطال ذلك بالفعل، وعقدوا اجتماعًا في إدارة (الجريدة) التي هي لسان حالهم وأقنعوا بعض النساء بحضوره حاسرات فهجم بعض الشبان عليهن لمعانقتهن وتقبيلهن فمنعهم آخرون. وقد اختلفت الروايات علينا في تفصيل ما كان في هذا الاجتماع فلا نجزم بشيء منه، ولا فائدة في شرحه. قام هؤلاء الشبان بهذه الدعوة في وقت جاءتنا فيه البرقيات الأوروبية ببيان ضرب من ضروب فضائح اختلاط النساء بالرجال ما كان يذاع مثله من قبل، وهو أنه قد افتض عدة من العذارى اللواتي يتلقين العلوم العالية في مدارس ألمانيا الجامعة. هذا وإن الألمانيين أشد عناية من السكسونيين - دع اللاتينيين - في التربية الدينية والصيانة المنزلية. وإن كثيرًا من الدعاة إلى هتك النساء الذي يعبرون عنه بتحرير المرأة، لا يبغون إلا أن يمهدوا السبيل لأنفسهم للتمتع بالحسان من ثيبات وأبكار، وقليل منهم يريد الظهور بلباس المصلح المدني وهو عاجز عن كل إصلاح، فلا يرى أهون عليه من اللغط بالكلام في هذه المسألة؛ لأنه لا يتوقف على علم ولا عمل، فما على اللاغط إلا أن يبرز ما كتب غيره من قبل في قالب جديد، ويزيد عليه من لغو الكلام ما يشاء أن يزيد. يقول لي أهل الصيانة: ما لك لا تردّ على ما يكتب هؤلاء المفسدون، فمنك نطلب، وإياك نرجو، أن تتبّع عوارهم، وتقلّم أظفارهم. وإني أرى أن الذين قاموا في وجههم صائحين متهكمين قد كالوا لهم الصاع صاعين أو عدة آصع، وليس عندهم شبهات قوية تحتاج إلى علم واسع وحجج قيمية؛ بل لا يكاد يفهم مرادهم من كلامهم، ولا أراهم يبينون ما يريدون. فليست المرأة مستعبدة فيكون طلبهم تحريرها طلب حق لها شرعي أو عقلي، وليست محجوبة في مصر حجابًا مانعًا لها من التصرف والرياضة ولا التبرج المذموم أو غير المذموم بل هي تفعل ما تشاء. إلا أن القاعدة العامة في نساء الأغنياء والمتوسطين في المدن أنهن لا يحضرن أندية الرجال ومجامعهم العامة، وأما المجالس الخاصة والمحاكم ومحالّ التجارة فيحضرها كثير منهن، وأنهن لا يخلون بالرجال الأجانب في البيوت إلا شذوذًا. فالظاهر أن هؤلاء المتفرنجين يطلبون الآن إبطال هاتين العادتين دفعة واحدة. ولا يشك ذو عقل أن ذلك مما يستشرى به الفساد، وتتفاقم به فوضى الأعراض، وليس له حسنة تمحو سيئة من سيئاته. على أن دفع المفاسد مقدم عقلاًً ونقلاً على جلب المصالح، وأين هي في مسألتنا؟ إن نساءنا في حاجة إلى علم وأدب تثقف بهما عقولهن، وتصلح بهما عاداتهن، ويقدرون بهما على تدبير المنازل وتربية الأولاد، ويكن عونًا للرجال على تجديد حياة الأمة الاجتماعية بمقوماتها ومشخصاتها من الدين واللغة والعادات الحسنة، ولا يتم هذا إلا بتأليف جمعية من أهل البصيرة والرأي تنشئ المدارس الداخلية للتعليم والتربية الدينية والمدنية بالعلم، وجمعية أخرى للنساء المتعلمات المهذبات غير المفتونات بالتفرنج للبحث في إصلاح البيوت الموقت. والمتفرنجون لا يطلبون هذا وإنما يودون أن ينسلخ جميع نساء المدن مما بقي من عاداتهن، ويقلدن نساء الإفرنج في الاختلاط بالرجال غير المحارم في البيوت والمجامع والأندية والملاعب والملاهي والمتنزهات، وما يتبع ذلك من العادات في الزي والمعيشة. ولو فرضنا أن جميع ما ينسلخن منه بهذه الصفة قبيح أو ضار من بعض الوجوه، وجميع ما يدخلن فيه حسن في ذاته ونافع لأهله، لما صدنا ذلك عن إنكار هذا التحول والانقلاب، لما يترتب على التغيرات القومية من المضار وضعف مقومات الأمة ومشخصاتها، وتراخي روابطها وانفصام عرى جامعتها. وناهيك به إذا كان تقليدًا لأمة أخرى تراها أرقى منها. فكيف إذا كان ما يطلب من نسائنا التحول إليه إما قبيح ضار لذاته أو ضار بأمتنا دون الإفرنج. إن الضرر في تفرنج نسائنا أنواع: ديني وسياسي واجتماعي واقتصادي، ولا يمكن شرح هذا في عجالة كهذه؛ ولكن التفرنج فتنة، ولكل جديد لذة، ونحن نرى أن ما يطلبه المتفرنجون لنسائهم من هتك الحجاب الرقيق الحائل دون تمام التمتع - وهو ما ذكرناه من بقايا العادات - قريب غير بعيد، فقد بدأ به بعضهم - ولا أحد يقاوم سريان التقليد فيه -: بأن الذين يسافرون بنسائهم إلى أوربة يلبس نساؤهم ما يلبس نساء الإفرنج ويأكلن مع الرجال ويجلسن معهم في الملاهي والملاعب. ومنهم الذين يأمرون نساءهم بلقاء أصدقائهم ومجالستهم ومؤاكلتهم، يكون هذا بينهم بالمبادلة. وكل هذا لم يرض بعض الشبان لأنه تدريج وهم يطلبون الطَّفْرة. ومَنْ تتبّع عورات أولئك الهاتكين لأحسن ما بقي من عادات نسائهم - لرأى وسمع من الفضائح ما يستحيا من نشره وتدوينه، وإنا ليحزننا أن نرى هذه العدوى قد سَرَتْ إلى بعض البيوت الطاهرة أيضًا. وجملة القول أن متفرنجي مصر والآستانة يستعجلون بتغيير عادات النساء والجمع بينهن وبين الرجال تقليدًا للإفرنج، على أنه ليس لهم ولا لنسائهم من عِلم الإفرنج وتربيتهم وآدابهم وأخلاقهم الموروثة ما يجعل المقلِّد التابع كإمامه المقلد المتبوع، فنحن لا نُعنى بأشد ما نحتاج إلى أنواع مثله من مزايا الإفرنج وفضائلهم لأن في تحصيله مشقة، بل نُعنى بمحاكاتهم في مظاهر الزينة واللذة، وطالما أهلكت اللذة والزينة الأمم القوية، فكيف يكون فعلها بالأمم الضعيفة؟ إن مسلمي الهند من أشد أهل الأرض مبالغة في حجب النساء ولم يمنع ذلك الطبقة العصرية منهم أن تكون أرقى من مثلها في الآستانة ومصر. ولكن من كان له هوًى في شيء لا يلتفت إلى ما يخالف هواه، وإن كان مؤيدًا بأقوى الحجج، ومبينًا بأوضح الشواهد والأمثال. فالمصريون والترك يريدون بالتفرنج أن يكونوا مثل الإفرنج؛ وهو الذي يبعدهم عن أن يكونوا مثلهم، بما يجعلهم عالة عليهم، ويذهب بما بقي من استقلالهم السياسي؛ لأنه منوط باستقلالهم الاجتماعي والخلقي. إن السواد الأعظم من الشعب التركي والشعب المصري يمقت هذا التفرنج، ولكن ليس للسواد الأعظم زعماء يستعملون قوته المعنوية في المحافظة على مقومات الأمة ومشخصاتها مع اقتباس ما يقويها من الفنون والصناعات العصرية، وأما المتفرنجون فهم على قلتهم يعتزون بالإفرنج أنفسهم، وناهيك بنفوذهم وسلطانهم، وكون جُلّ رجال الحكومة من سبك معاملهم، ولا حظ لهؤلاء الإفرنج إلا جعل جميع ممالك الشرق مزارع ومناجم لهم، وأهلها فَعَلَة لخدمتهم، وسوقًا لأنواع سلعهم؛ وللهِ دَرُّهُمْ! فإن أرقى ما وصلوا إليه من العقل والعلم هو ما جعلهم يتصرفون في الأمم والشعوب كما يتصرفون في الحيوان والنبات والجماد. هذا ما أحببت أذكر به الكارهين لهذا الغلو والاستعجال، بالجمع بين النساء والرجال، وهو لا يغير شيئًا من هذه الأحوال، وإنما الذي يمكن أن يغيرها هو العمل الذي أشرنا إليه دُون سواه. *** (العصبية الجنسية) إن روح التعليم الأوربي والسياسة الأوربية أحدث في أمم الشرق كلها نزعة جنسية، وقد كان المسلمون أبعد الناس عن هذه النزعة فلذلك كانوا ضعافًا فيها، وكان العرب أشدهم بعدًا عنها وضعفًا فيها، ولذلك كتبت في مقالات (العرب والترك) - التي نشرتها في الآستانة ثم في المنار - أن تكوين عصبية جنسية للعرب لا يمكن أن يكون إلا من عمل الآستانة. إن في الترك من غلاة العصبية الجنسية من يعز نظيرهم في غيرهم، واتفق أن كان زعماء جمعية الاتحاد والترقي من هؤلاء الغلاة، فلما صار إليهم أمر الدولة اندفعوا اندفاعًا شديدًا في تقوية العصبية التركية، ومحاولة تتريك جميع الشعوب العثمانية، فهيّجوا بذلك عصبية هذه الشعوب حتى نجمت قرون الفتن، وسفكت الدولة دماءً غزيرة في بلاد الأرنؤوط وبلاد العرب، وانتهت سياسة الشدة والقوة بحرب البلقان التي خذلت بها الدولة، وورث البلقانيون جميع ولاياتها الأوربية إلا (أدرنة) فبقيت لها، وبلاد الأرنؤوط فإنها استقلت بنفسها، فاضطر الاتحاديون إلى سياسة المداراة وتعزيز الجنسية التركية في نفسها بالمدارس ونشر الكتب والرسائل والصحف، مع ترك سائر الشعوب العثمانية تتخبط بجهلها إذا لم ترض الاصطباغ بالجنسية التركية في مدارس الدولة الرسمية، والمدارس الأهلية التركية، التي يجمعون لها الإعانات بنفوذ الدولة والخلافة من العثمانيين ومن مسلمي الممالك الأجنبية. يرى هؤلاء العاملون أنه ليس في طريقهم عقبة تحول دون بلوغ المقصد بالسرعة التي يبغون من وراء هذا العمل إلا حاجة الترك إلى اللغة العربية لأجل الدين. ويرون أن هذا الدين ولغته مما يعيق تكوين أمة تركية ودولة تركية محضة على الطراز الإفرنجي الفرنسي، فاجتهدوا في إزالة هذا المانع بمزيلين: (أحدهما) ترجمة القرآن بالتركية ودعوة الترك إلى الاستغناء عن القرآن العربي بما سمّوه القرآن التركي، وإذا استغنوا عن القرآن يستغنون بالأولى عن غيره من كتب الحديث والتفسير والفقه وسائر العلوم والفنون العربية. (الثاني) نشر الكتب والرسائل التي تجعل الجنسية التركية أعلى وأسمى في النفوس من رابطة الدين تمهيدًا لنسخ الثانية بالأولى، بمعونة الكتب الكثيرة التي تطعن في الإسلام ككتاب عبد الله بك جودت؛ بالتركية، فكان له تأثير شديد عند طلبة المدارس العالية ولاسيّما مدرستي الطب والحربية، الذين لا يكادون يعرفون من الإسلام شيئًا. وقد نشروا في الآستانة كتابًا تركيًّا اسمه: (قوم جديد) كان أفصح معبّر عن رأي هؤلاء المتفرنجين من الترك، ومما جاء فيه الإنكار الشديد على وضع أسماء الخلفاء الراشدين وسبطي الرسول (رضوان الله عليهم) في ألواح معلقة في قباب المساجد التركية مع أن أولئك الرجال من العرب، فالكتاب ينكر عليهم ذلك ويقول للترك: أليس عندكم من الخلفاء والرجال العظام من الترك من هم خير من أولئك العرب؟ ! انزعوا هذه الأسماء وضعوا مكانها أسماء عظام الترك مثل طلعت بك وفتحي بك وأنور بك (صلوات الله عليهم) (! !) . ويقول: إن كل من يساعد رجال الدولة على الأعمال العسكرية يكون أفضل من الأئمة المجتهدين ومن شيخ الأولياء العارفين الشيخ عبد القادر الكيلاني ... إلخ، وهذا قليل من كثير، والأمر لله العلي الكبير.