تحقيق الحق في مذاهب السلف واختلاف الخلف فيها فتوى للإمام الشوكاني رحمه الله تعالى
اعلم أن الكلام في الآيات والأحاديث الواردة في الصفات قد طالت ذيوله، وتشعبت أطرافه، وتباينت فيه المذاهب، وتفاوتت فيه الطرائق، وتخالفت النحل؛ وسبب هذا عدم وقوف المنتسبين إلى العلم حيث أوقفهم الله، ودخولهم في أبواب لم يأذن الله لهم بدخولها، ومحاولتهم لعلم شيء استأثر الله بعلمه؛ حتى تفرّقوا فرقًا وتشعبوا شعبًا وصاروا أحزابًا، وكانوا في البداية، ومحاولة الوصول إلى ما يتصورونه من العامة مختلفي المقاصد، متبايني المطالب. فطائفةٌ؛ وهي أخف هذه الطوائف المتكلفة علم ما لم يكلفها الله سبحانه بعلمه إثمًا، وأقلها عقوبة ورجمًا، وهي التي أرادت الوصول إلى الحق والوقوف على الصواب؛ لكن سلكت في طلبه طريقة متوعرة، وصعدت في الكشف عنه إلى عقبة كؤود، لا يرجع من سلكها سالمًا، فضلاً عن أن يظفر فيها بمطلوب صحيح. ومع هذا أصَّلوا أصولاً ظنوها حقًّا، فدفعوا بها آيات قرآنية، وأحاديث صحيحة نبوية، واعتلوا في ذلك الدفع بشبهة واهية، وحالات مختلفة. وهؤلاء هم طائفتان: الطائفة التي غلت في التنزيه فوصلت إلى حد يقشعر عنده الجلد، ويضطرب له القلب؛ من تعطيل الصفات الثابتة بالكتاب والسنة ثبوتًا أوضح من شمس النهار، وأظهر من فلق الصباح، ظنوا هذا من صنيعهم موافقًا للحق مطابقًا لما يريده الله سبحانه، فضلوا الطريق المستقيمة وأضلوا من رام سلوكها. والطائفة الأخرى هي الطائفة التي غلت في إثبات القدرة غلوًّا بلغ إلى حدّ أنه لا تأثير لغيرها، ولا اعتبار بما سواها وأفضى ذلك إلى الجبر المحض، والقسر الخالص فلم يبق لبعثة الرسل وإنزال الكتب كبير فائدة، ولا يعود ذلك على عباده بعائدة، وجاؤا بتأويلات للآيات البيّنات. ومحاولات لحجج الله الواضحات، فكانوا كالطائفة الأولى في الضلال والإضلال، مع أن كلا المقصدين صحيح، ووجه كل منهما صبيح، لولا ما شانه من الغلو القبيح. وطائفة توسطت [١] ورامت الجمع بين الضب والنون وظنت أنها قد وقفت بمكان بين الإفراط والتفريط، ثم أخذت كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث تجادل وتناضل وتحقق وتدقق في زعمها. وتجول على الأخرى وتصول بما ظفرت به مما يوافق ما ذهبت إليه. وكل حزب بما لديهم فرحون. وعند الله تلتقي الخصوم. ومع هذا فهم متفقون فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم، ولكن زعموا أن طريق الخلف أعلم، فكان غاية ما ظفروا به من هذه (الأعلمية) بطريق الخلف أن تمنى محققوهم وأذكياؤهم في آخر أمرهم دين العجائز، وقالوا هنيئًا للعامة! فتدبر هذه الأعلمية التي كان حاصلها أن يهنأ من ظفر لأهل الجهل (؟) البسيط، ويتمنى أنه في عدادهم، وممن تدين بدينهم، ويمشي على طريقتهم. فإن هذا ينادي بأعلى صوت يدل بأوضح دلالة، على أن هذه الأعلمية التي طلبوها الجهلُ خير منها بكثير. فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه أن الجهل خير منه، ويتمنى عند البلوغ إلى غايته والوصول إلى نهايته، أن يكون جاهلاً به عاطلاً عنه؟ ففي هذا عبرة للمعتبرين، وآية بينة للناظرين، فهلاّ عملوا على جهل هذه المعارف التي دخلوا فيها بادئ بدء، وسلموا من تبعاتها، وأراحوا أنفسهم من تعبها، وقالوا كما قال القائل: رأى الأمر يفضي إلى آخر ... فصير آخره أولاً وربحوا الخلوص من هذا التمني والسلامة من هذه التهنئة للعامة! فإن العاقل لا يتمنى رتبة مثل رتبته أو دونها. ولا يهنئ لمن هو مثله أو دونه؛ بل لا يكون ذلك إلا لمن رتبته أرفع من رتبته، ومكانه أعلى من مكانه، فيالله العجب من علم يكون الجهل البسيط أعلى رتبة منه. وأفضل مقدارًا بالنسبة إليه! وهل سمع السامعون بمثل هذه الغريبة أو نقل الناقلون ما يماثلها أو يشابهها. وإذا كان حال هذه الطائفة [٢] التي قد عرفناك أنها أخف الطوائف تكلفًا، وأقلها تبعة فما ظنك بما عداها من الطوائف التي قد ظهر فساد مقاصدها، وتبين بطلان مواردها ومصادرها، كالطوائف التي أرادت بالمظاهر التي تظاهرت بها كيد الإسلام وأهله، والسعي في التشكيك فيه، بإيراد الشبه وتقرير الأمور المفضية إلى القدح في الدين وتنفير أهله عنه [٣] . وعند هذا تعلم أن خير الأمور السالفات على الهدى، شر الأمور المحدثات البدائع [٤] ؛ وأن الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة، هو ما كان عليه خير القرون ثم الذين يلونهم، وقد كانوا - رحمهم الله تعالى وأرشدنا إلى الاقتداء بهم والاهتداء بهديهم - يُمرُّون آيات الصفات على ظاهرها، ولا يتكلفون علم ما لا يعلمون، ولا يحرفون ولا يؤلون، وهذا المعلوم من أقوالهم وأفعالهم، والمتقرر من مذاهبهم، لا يشك فيه شاك، ولا ينكره منكر، ولا يجادل فيه مجادل، وإن نزغ من بينهم نازغ، أو نجم في عصرهم ناجم، أوضحوا للناس أمره، وبيّنوا لهم أنه على ضلالة، وصرّحوا بذلك في المجامع والمحافل، وحذروا الناس من بدعته، كما كان منهم لمَّا ظهر معبد الجهني وأصحابه وقالوا (إن الأمر أنف) [٥] فتبرأوا منه، وبيّنوا ضلالته وبطلان مقالته للناس؛ فحذروه إلا من ختم الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة. وهكذا كان من بعدهم يوضح للناس بطلان أقوال أهل الضلال ويحذرهم منها، كما فعله التابعون - رحمهم الله - بالجعد بن درهم ومن قال بقوله وانتحل نحلته الباطلة [٦] . ثم ما زالو هكذا لا يستطيع المبتدع في الصفات أن يتظاهر ببدعته، بل يتكتمون بها كما يتكتم الزنادقة بكفرهم. وهكذا سائر المبتدعين في الدين على اختلاف البدع وتفاوت المقالات الباطلة. ولكنا نقتصر ههنا على الكلام في هذه المسئلة التي ورد السؤال عنها وهي مسألة الصفات وما كان من المتكلفين علم ما لم يأذن الله بأنه يعلموه، وبيان أن إمرار آيات الصفات على ظاهرها هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وأن كل من أراد من نزّاع المتكلفين، وشذّاذ المحرفين المتأولين، أن يظهر ما يخالف المرور على ذلك الظاهر، قاموا عليه وحذروا الناس منه. وبينوا لهم أنه على خلاف ما عليه أهل الإسلام. فصار المبتدعون في الصفات، القائلون بأقوال تخالف ما عليه السواد الأعظم من الصحابة والتابعين وتابعيهم - في خبايا وزوايا لا يتصل بهم إلا مغرور، ولا ينخدع بزخارف أقوالهم إلا مخدوع، وهم مع ذلك على تخوّفٍ من أهل الإسلام، وترقب لنزول مكروه بهم من حماة الدين من العلماء الهادين والرؤساء والسلاطين، حتى نجم ناجم المحنة، وبرق بارق الشر من جهة الدولة، ومَن لهم في الأمر والنهي والإصدار والإيراد أعظم صولة. وذلك في الدولة المأمونية بسبب قاضيها أحمد بن أبي دؤاد. فعند ذلك أطلع المكمشون في تلك الزوايا رؤوسهم، وانطلق ما كان قد خرس من ألسنتهم، وأعلنوا مذاهبهم الزائغة، وبدعهم المضلة، ودعوا الناس إليها، وجادلوا عنها، وناضلوا المخالفين لها، حتى اختلط المعروف بالمنكر، واشتبه على العامة الحق بالباطل، والسنة بالبدعة. ولما كان الله سبحانه قد تكفل بإظهار دينه كله وحفظه عن التحريف والتغيير والتبديل، أوجد من علماء الكتاب والسنة لهم في كل عصر من العصور من يبين للناس دينهم، وينكر على أهل البدع بدعهم، فكان لهم - ولله الحمد - المقامات المحمودة، والمواقف المشهودة في نصر الدين وهتك المبتدعين. وبهذا الكلام القليل الذي ذكرناه تعرف أن مذهب السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم هو إمرار آيات الصفات على ظاهرها، من دون تحريف لها، ولا تأويل متعسف لشيء منها، ولا جبر ولا تشبيه ولا تعطيل، يفضي إليه كثير من التأويل وكانوا إذا سأل سائل عن شيء من الصفات تَلَوْا عليه الدليل، وأمسكوا عن القال والقيل وقالوا: قال الله هكذا، ولا ندري بما سوى ذلك ولا نتكلف ولا نتكلم بما لم نعلمه ولا أذن الله لنا بمجاوزته، فإن أراد السائل أن يظفر منهم بزيادة على الظاهر زجروه عن الخوض فيما لا يعنيه، ونهوه عن طلب ما لا يمكن الوصول إليه إلا بالوقوع في بدعة من البدع التي هي غير ما هم عليه وما حفظوه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحفظه التابعون عن الصحابة، وحفظه مَنْ بعد التابعين عن التابعين. وكان في هذه القرون الفاضلة الكلمة في الصفات متحدة، والطريقة لهم جميعًا متفقة، وكان اشتغالهم بما أمرهم الله به، وكلفهم القيام بفرائضه، من الإيمان بالله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصيام والحج والجهاد وإنفاق الأموال في أنواع البر، وطلب العلم النافع، وإرشاد الناس إلى الخير على اختلاف أنواعه، والمحافظة على موجبات الفوز بالجنة والنجاة من النار، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم بحسب الاستطاعة، وبما تبلغ إليه القدرة، ولم يشتغلوا بغير ذلك مما لم يكلفهم الله بعلمه، ولا تعبدهم بالوقوف على حقيقته؛ فكان الدين إذا ذاك صافيًا عن كدر البدع، خالصًا عن شوب قذر التمذهب. فعلى هذا النمط كان الصحابة والتابعون وتابعوهم بهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اهتدوا، وبأفعاله وأقواله اقتدوا، فمن قال: إنهم تلبسوا بشيء من هذه المذاهب الناشئة في الصفات أو غيرها، فقد أعظم عليهم الفرية، وليس بمقبول في ذلك؛ فإنّ نُقُول الأئمة المطلعين على أحوالهم العارفين بها الآخذين لها عن الثقات الأثبات، ترد عليه وعليهم وتدفع في وجهه. يعلم ذلك كل من له علم، ويعرفه كل عارف. فاشدد يديك على هذا واعلم أنه مذهب خير القرون ثم الذين يلونهم، ودع عنك ما حدث من تلك التمذهبات في الصفات وأرح نفسك من تلك العبارات التي جاء بها المتكلمون واصطلحوا عليها، وجعلوها أصلاً يرد إليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن وافقاها فقد وافقا الأصول المقررة في زعمهم، وإن خالفاها فقد خالفا الأصول المقررة في زعمهم، ويجعلون الموافق لها من قسم المقبول والمحكم، والمخالفَ لها من قسم المردود والمتشابه؛ ولو جئت بألف آية واضحة الدلالة ظَاهرة المعنى أو ألف حديث مما ثبت في الصحيح - لم يبالوا به ولاء رفعوا إليه رؤوسهم، ولا عدوه شيئًا. ومن كان منكرًا لهذا فعليه بكتب هذه الطوائف المصنفة في علم الكلام. فإنه يقف على الحقيقة ويسلم هذه الجملة ولا يتردد فيها. ومن العجب العجيب، والنبأ الغريب، أن تلك العبارات الصادرة عن جماعة من أهل الكلام التي جعلها مَن بعدهم أصولاً، لا مستند لها إلا مجرد الدعوى على العقل، والفرية على الفطرة، وكل فرد من أفرادها تنازعت فيه عقولهم، وتخالفت فيه إدراكاتهم، فهذا يقول: حكم العقل في هذا كذا، وهذا يقول: حكم العقل في هذا كذا. ثم يأتي بعدهم مَن يجعل ذلك الذي يعقله مَن يقلده ويقتدي به أصلاً يرجع إليه ومعيارًا لكلام الله وكلام رسوله، يقبل منهما ما وافقه ويرد ما خالفه فيالله وياللمسلمين! ويالعلماء للدين! من هذه الفواقر الموحشة التي لم يصب الإسلام وأهله بمثلها. وأغرب من هذا وأعجب وأشنع وأفظع، أنهم بعد أن جعلوا هذه التعقلات التي تعقلوها على اختلافهم فيها وتناقضهم في معقولاتها أصولاً ترد إليها أدلة الكتاب والسنة - جعلوها أيضًا معيارًا لصفات الرب سبحانه، فما تَعَقَّله هذا من صفات الله قال به جزمًا، وما تعقله خصمه منها قطع به. فأثبتوا لله الشيء ونقيضه، استدلالاً بما حكمت به في صفات الله عقولهم الفاسدة وتناقضت في شأنه، ولم يلتفتوا إلى ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ بل إن وجدوا ذلك موافقًا لما تعقلوه جعلوه مؤيدًا له ومقويًا، وقالوا: قد ورد دليل السمع مطابقًا لدليل العقل؛ وإن وجدوه مخالفًا لما تعقلوه جعلوه واردًا على خلاف الأصل، ومتشابهًا وغير معقول المعنى ولا ظاهر الدلالة، ثم قابلهم المخالف بنقيض قولهم، فافترى على عقله بأنه قد تعقل خلاف ما تعقله خصمه، وجعل ذلك أصلاً يرد إليه أدلة الكتاب والسنة، وجعل المتشابه عند أولئك محكمًا عنده، والمخالف لدليل العقل عندهم موافقًا له عنده. فكان حاصل كلام هؤلاء أنهم يعلمون من صفات الله ما لا يعلمه! وكفاك بهذا وليس بعده شيء؛ وعنده يتعثر القلم حياء من الله عز وجل. وربما استبعد هذا مستبعد واستكبره مستكبر، وقال: إن في كلامي هذا مبالغة وتهويلاً، وتشنيعًا وتطويلاً، وإن الأمر أيسر من أن يكون حاصله هذا الحاصل الذي ذكرت، وثمرته مثل هذه الثمرة التي أشرت إليها فأقول: خذ جملة البلوى ودع تفصيلها * واسمع ما يصك سمعك، ولولا هذا الإلحاح منك ما سمعته ولا جرى القلم بمثله. هذا أبو علي [٧] وهو رأس من رؤوسهم، وركن من أركانهم، وأسطوانة من أسطاينهم، قد حكى عنه الكبار منهم، وآخر من حكى ذلك عنه صاحب شرح القلائد يقول: والله لا يعلم الله من نفسه إلا ما يعلم هو! ! فخذ هذا التصريح، حيث لم تكتف بذلك التلويح، وانظر هذه الجرأة على الله التي ليس بعدها جرأة، فيالأم أبي علي الويل! أينهق بمثل هذا النهيق، ويدخل نفسه في هذا المضيق، وهل سمع السامعون بيمين أفجر من هذه اليمين الملعونة، أو نقل الناقلون كلمة تقارب معنى هذه الكلمة المفتونة؟ بلغ مفتخر إلى ما بلغ إليه هذا المختال الفخور؟ أو وصل من يفجر في أيمانه إلى ما يقارب هذه الفجور؟ وكل عاقل يعلم أن أحدنا لو حلف أن ابنه أو أباه لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو لكان كاذبًا في يمينه فاجرًا فيها؛ لأن كل فرد من أفراد الناس ينطوي على صفات وغرائز لا يحب أن يطلع عليها غيره، ويكره أن يقف على شيء منها سواه، ومن ذا الذي يدري بما يجول في خاطر غيره ويستكن في ضميره؟ ومن ادعى علم ذلك وأنه يعلم من غيره من بني آدم ما يعلمه ذلك الغير من نفسه، ولا يعلم ذلك الغير من نفسه إلا ما يعلمه هذا المدعي، فهو إما مصاب العقل، يهذي بما لا يدري، ويتكلم بما لا يفهم، أو كاذب شديد الكذب عظيم الافتراء، فإن هذا أمر لا يعلمه غير الله سبحانه، فهو الذي يحول بين المرء وقلبه، ويعلم ما توسوس به نفسه، وما يسر عباده وما يعلنون، وما يظهرون وما يكتمون كما أخبرنا بذلك في كتابه العزيز في غير موضع، فقد خاب وخسر من أثبت لنفسه من العلم ما لا يعلمه إلا الله سبحانه من عباده، فما ظنك بمن تجاوز هذا وتعداه، وأقسم بالله إن الله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو؟ ولا يصح لنا أن نحمله على اختلال العقل ١ فلو كان مجنونًا لم يكن رأسًا يقتدي بقوله جماعات من أهل عصره ومن جاء بعده، وينقلون كلامه في الدفاتر ويحكون عنه في مقامات الاختلاف. ولعل أتباع هذا ومَن يقتدي بمذهبه لو قال لهم قائل وأورد عليهم مُورد قول الله عز وجل: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه: ١١٠) وقوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إلا بِمَا شَاءَ} (البقرة: ٢٥٥) وقال لهم: هذا يرد ما قاله صاحبهم ويدل على أن يمينه هذه فاجرة مفتراة - لقالوا: هذا ونحوه مما يدل دلالته ويفيد مفاده من المتشابه الوارد على خلاف دليل العقل بالأصول المقررة. وبالجملة فإطالة ذيول الكلام في مثل هذا المقام إضاعة للأوقات، واشتغال بحكاية الخرافات المبكيات لا المضحكات؛ وليس مقصودنا هنا إلا إرشاد السائل إلى أن المذهب الحق في الصفات هو إمرارها على ظاهرها من دون تأويل ولا تحريف، ولا تكلف ولا تعسف ولا جبر ولا تشبيه ولا تعطيل، وإن ذلك هو مذهب السلف الصالح والصحابة والتابعين وتابعيهم. فإن قلت: وماذا تريد بالتعطيل في مثل هذه العبارات التي تكررها؟ فإن أهل المذاهب الإسلامية يتنزهون عن ذلك ويتحاشون عنه، ولا يصدق معناه ويوجد مدلوله إلا في طائفة من طوائف الكفار، وهم المنكرون للصانع (قلت) يا هذا إن كنت ممن له إلمام بعلم الكلام الذي اصطلح عليه طوائف من أهل الإسلام؛ فإنك لا محالة قد رأيت ما يقوله كثير منهم، ويذكرونه في مؤلفاتهم، ويحكونه عن أكابرهم، أن الله سبحانه وتعالى وتقدس لا هو جسم ولا جوهر ولا عرض ولا داخل العالم ولا خارجه [٨] فأنشدك الله أي عبارة تبلغ مبالغ هذه العبارة في النفي؟ وأي مبالغة في الدلالة على هذا النفي تقوم مقام هذه المبالغة؟ فكان هؤلاء في فرارهم من شبهة التشبيه إلى هذا التعطيل كما قال القائل: فكنت كالساعي إلى مثعب ... موائلاً من سبل الراعد [٩] أو كالمستجير من الرمضاء بالنار، والهارب من لسعة الزنبور إلى لدغة الحية، أو من قرصة النملة إلى قضمة الأسد. وقد كان يُغني هؤلاء وأمثالهم من المتكلمين المتكلفين كلمتان من كتاب الله تعالى وصف بهما نفسه، وأنزلهما على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهما: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه: ١١٠) و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: ١١) فإن هاتين الكلمتين قد اشتملتا على فصل الخطاب، وتضمنتا ما يغني أولي الألباب، السالكين في تلك الشعاب والهضاب، الصادعين في متوعرات هاتيك العقاب. فالكلمة الأولى منهما دلت دلالة بيّنة على أن كل ما تكلم به البشر في ذات الله وصفاته على وجه التدقيق ودعاوى التحقيق، فهو مشوب بشعبة من شعب الجهل، مخلوط بخلوط هي منافية للعلم مباينة له، فإن الله سبحانه قد أخبرنا أنهم لا يحيطون به علمًا، فمَن زعم أن ذاته كذا أو صفته كذا؛ فلا شك أن صحة ذلك متوقفة على الإحاطة. وقد نفيت عن كل فرد؛ لأن هذه القضية هي في قوة: لا يحيط به فرد من الأفراد علمًا، فكل قول من أقوال المتكلفين صادر عن جهل، إما من كل وجه أو من بعض الوجوه، وما صدر عن جهل فهو مضاف إلى جهل، ولا سيّما إذا كان في ذات الله وصفاته، فإن في ذلك من المخاطرة بالدين ما لم يكن في غيره من المسائل، وهذا يعلمه كل ذي علم ويعرفه كل عارف، ولم يحظ بفائدة هذه الآية ويقف عندها ويقتطف من ثمارها، إلا الممرون للصفات على ظاهرها، المريحون أنفسهم عن التكلفات والتعسفات والتأويلات والتحريفات، وهم السلف الصالح كما عرفت، فهم الذين اعترفوا بعدم الإحاطة، وأوقفوا أنفسهم حيث أوقفها الله وقالوا: الله أعلم بكيفية ذاته وماهية صفاته؛ بل العلم كله له، وقالوا كما قال مَن قال، ممن اشتغل بطلب هذا المحال فلم يظفر بغير القيل والقال: العلم للرحمن جل جلاله ... وسواه في جهالته يتغمغم ما للتراب وللعلوم وإنما ... يسعى ليعلم أنه لا يعلم بل اعترف كثير من هؤلاء المتكلفين بأنه لم يستفد من تكلفه وعدم قنوعه بما قنع به السلف الصالح إلا مجرد الحيرة التي وجد عليها غيره من المتكلفين فقال. وقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسرحت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعًا كف حائرِ ... على ذقن أو قارعًا سنَّ نادمِ وها أنا (ذا) عن نفسي أوضح لك ما وقعت فيه في أمسي، فإني أيام الطلب وعنفوان الشباب، شغلت بهذا العلم الذي سمّوه تارةً علم الكلام، وتارة علم التوحيد، وتارة علم أصول الدين وأكببت على مؤلفات الطوائف المختلفة منهم، ورمت الرجوع بفائدة، والتعود بعائدة، فلم أظفر من ذلك بغير الخيبة والحيرة؛ وكان ذلك من الأسباب التي حببت إليّ مذهب السلف على أني كنت من قبل ذلك عليه، ولكن أردت أن أزداد فيه بصيرة وبه شغفًا، وقلت عن النظر في تلك المذاهب: وغاية ما حصلته من مباحثي ... ومن نظري من بعد طول التدبر هو الوقف ما بين الطريقين حيرة ... فما علم مَن لم يلق غير التحير على أنني قد خضت منه غماره ... وما قنعت نفسي بدون التبحر وأما الكلمة الثانية وهي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: ١١) فبها يستفاد نفي المماثلة في كل شيء فيدفع بهذه الآية في وجه المجسمة، ويعرف به الكلام عند وصفه سبحانه بالسميع والبصير، وعند ذكر السمع والبصر واليد والاستواء ونحو ذلك ما اشتمل عليه القرآن والسنة، فيتقرر بذلك الإثبات لتلك الصفات، لا على وجه المماثلة والمشابهة للمخلوقات، فيدفع به جانبي [١٠] الإفراط والتفريط وهما المبالغة في الإثبات المفضي إلى التجسيم، والمبالغة في النفي المفضية إلى التعطيل، فيخرج من بين الجانبين، وغلو الطرفين، حقية مذهب السلف الصالح، وهو قولهم بإثبات ما أثبت لنفسه من الصفات على وجه لا يعلمه إلا هو، فإنه القائل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: ١١) . ومن جملة الصفات التي أمرّها السلف على ظاهرها وأجروها على ما جاء به القرآن والسنة من دون تكلف ولا تأويل - صفة الاستواء التي ذكرها السائل؛ فإنهم يقولون: نحن نثبت ما أثبته الله لنفسه، من استوائه على عرشه، على هيئة لا يعلمها إلا هو، وفي كيفية لا يدري بها سواه [١١] ولا نكلف أنفسنا غير هذا، فليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا يحيط عباده به علمًا. وهكذا يقولون في مسئلة الجهة التي ذكرها السائل وأشار إلى بعض ما فيه دليل عليها. والأدلة في ذلك طويلة كثيرة في الكتاب والسنة، وقد جمع أهل العلم منها - لا سيّما أهل الحديث - مباحث طوّلوها بذكر آيات قرآنية وأحاديث صحيحة، وقد وقفت من ذلك على مؤلف بسيط في مجلد جمعه مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي استوفى فيه كل ما فيه دلالة على الجهة من كتاب أو سنة أو قول صاحب [١٢] والمسألة أوضح من أن تلتبس على عارف، وأبين من أن يحتاج فيها إلى التطويل، ولكنها لما وقعت فيها تلك القلاقل والزلازل الكائنة بين بعض الطوائف الإسلامية، كثر الكلام فيها وفي مسئلة الاستواء وطال، خصوصًا بين الحنابلة وغيرهم من أهل المذاهب. فلهم في ذلك تلك الفتن الكبرى، والملاحم العظمى، وما زالوا هكذا في عصر بعد عصر. والحق هو ما عرفناك من مذهب السلف الصالح: فالاستواء على العرش، ولكن في تلك الجهة، قد صرّح به القرآن الكريم في مواطن يكثر حصرها؛ ويطول نشرها. وكذلك صرّح به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غير حديث؛ بل هذا مما يجده كل فرد من أفراد المسلمين في نفسه، ويحسّه في فطرته، وتجذبه إليه طبيعته، كما تراه في كل مَن استغاث بالله سبحانه، والتجأ إليه ووجه أدعيته إلى جنابه الرفيع، وعزه المنيع، فإنه يشير عند ذلك بكفه، أو يرمي إلى السماء بطرفه، ويستوي في ذلك عند عروض أسباب الدعاء، وحدوث بواعث الاستغاثة، ووجود مقتضيات الانزعاج، وظهور دواعي الالتجاء - عالم الناس وجاهلهم، والماشي على طريقة السلف، والمقتدي بأهل التأويل القائلين بأن الاستواء هو الاستيلاء - كما قاله جمهور المتأولين - أو الإقبال كما قاله أحمد بن يحيى ثعلب والزجّاج والفراء وغيرهم، أو كناية عن الملك والسلطان [١٣] كما قاله آخرون. فالسلامة والنجاة في أمرار ذلك على الظاهر والإذعان بالاستواء والكون [١٤] على ما نطق به الكتاب والسنة من دون تكييف ولا تكلف ولا قيل ولا قال، ولا فضول في شيء من المقال، فمن جاوز هذا المقدار بإفراط أو تقريظ فهو غير مقتد بالسلف ولا وافق طريق النجاة، ولا معتصم عن الخطأ، ولا سالك في طريق السلامة والاستقامة. وكما نقول هذا في الاستواء والكون في تلك الجهة؛ فكذا نقول في مثل قوله سبحانه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (الحديد: ٤) وقوله: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إلا هُوَ سَادِسُهُمْ} (المجادلة: ٧) وفي نحو: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: ١٥٣) {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل: ١٢٨) إلى ما يشابه ذلك وما يماثله ويقاربه ويضارعه، فنقول في مثل هذه الآيات: هكذا جاء القرآن أن الله سبحانه مع هؤلاء، ولا نتكلف بتأويل ذلك كما يتكلف غيرنا بأن المراد بهذا الكون وهذه المعية هو كون العلم ومعيته، فإن هذه من شعبة التأويل تخالف مذاهب السلف، وتباين ما كان عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم [١٥] . ... وأذا انتهيت إلى السلا ... مة في مداك فلا تجاوز