معرَّبة عن الفرنسوية بقلم الأستاذ الحكيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده الشهير
قال حفظه الله: رأيت في وقائع بسمارك التي نشرت بعد موته بقلم كاتم أسراره موسيو بوش كلامًا جاء به البرنس وهو على مائدة الطعام مع جلسائه يتعلق بالدين، فاستحسنت ترجمته ليطلع عليه من لم يُعن بقراءة هذا الكتاب من شبابنا الذين يعُدون النسبة إلى دينهم سُبّة، والظهور بالمحافظة عليه مَعَرّة، وليعلموا أن الإيمان بالله وبالوحي الإلهي إلى أنبيائه ليس نقصًا في الفكر، ولا ضلة عن صحيح العلم، ولا عيبًا في الرياسة، ولا ضعفًا في السياسة. جلس البرنس بسمارك على مائدة الطعام فرأى بقعة من الدهن على غطاء المائدة فقال لأصحابه: كما تنتشر هذه البقعة في النسيج شيئاً فشيئاً، كذلك ينفذ الشعور باستحسان الموت في سبيل الدفاع عن الوطن في أعماق قلوب الشعب، ولو لم يكن هناك أمل في الأجر والمكافأة، ذلك لِما استكنَّ في الضمائر من بقايا الإيمان ذلك لما يشعر به كل أحد من أن واحدًا مهيمنًا يراه وهو يجالد ويجاهد ويموت وإن لم يكن قائده يراه، فقال بعض المرتابين: أتظن سعادتكم أن العساكر يلاحظون في أعمالهم تلك الملاحظة، فأجابه البرنس: ليس هذا من قبيل الملاحظات وإنما هو شعور ووجدان، هو بوادر تسبق الفكر، هو ميل في النفس وهوى فيها كأنه غريزة لها، ولو أنهم لاحظوا لفقدوا ذلك الميل وأضلوا ذلك الوجدان، هل تعلمون أنني لا أفهم كيف يعيش قوم وكيف يمكن لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم من الواجبات أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما يجب عليه إن لم يكن لهم إيمان بدين جاء به وحي سماوي، واعتقاد بإله يحب الخير، وحاكم ينتهي إليه الفصل في الأعمال في حياة بعد هذه الحياة، ثم ساق الوزير كلامه على هذا النمط بأسلوب آخر فقال: لو نقضت عقيدتي بديني لم أخدم بعد ذلك سلطاني ساعة من زمان. إذا لم أضع ثقتي في الله لم أضعها في سيد من أهل الأرض قاطبة، لكن انظروا إلي تجدوني قد ملكت من موارد الرزق ما يكفيني، وارتقيت من المناصب ما لا مطمع بعده، فلماذا أشتغل؟ ولمَ أُجهد نفسي في العمل؟ ولمَ أُعرضها للهموم والآلام؟ لا يبعثني على شيء من هذا إلا شعوري بأنني في جميع ذلك أعمل عملي لوجه الله. لو لم يكن لي إيمان بالعناية الإلهية التي قضت بأن يكون لهذه الأمة الألمانية شأن كبير وأثر في الخير عظيم، لطرحت لساعتي ما حملته من أثقال وظائف الحكومة. ماذا أقول؟ بل لولا ذلك الإيمان لما قبلت شيئًا من هذه الوظائف؛ لأن الرتب والألقاب لا بهاء لها في نظري. لولا يقيني بحياة بعد الموت ما كنت من حزب الملكية، لو لم يكن هذا اليقين لكنت جمهوريًّا. نعم، أنا جمهوري بالفطرة، يتبين ذلك من الغارات التي أشنها على هنات (خصال الشر) رجال الحاشية من مدة تزيد عن عشر سنين. من هذا يظهر أن إيماني قد بلغ من القوة أعلاها، حتى حملني بقوته على أن أكون ملكيًّا. اسلبوني هذا الإيمان. اسلبوني محبتي لوطني، اعلموا أنني لو لم أكن مسيحيًّا مخلصاً لم يكن لكم وزير كبير مثلي، يدبر أمر الاتحاد الألماني، لو لم أكن مخلصاً في ديني لوليت ظهري جميع الحاشية، ولو وجدتم لي في الغد خلفًا يكون أخلص مني في يقينه لانفلتُّ من المنصب في الحال، ما أعظم مسرتي بهجر الوظائف، لو تعلمون أني أحب المعيشة في القرى والحقول، أحب الآجام ومناظر الخليقة. انزعوا مني هذه الرابطة التي تصلني بالله تجدوني من الغد رجلاً يأخذ أهبته للسفر إلى (وارزين) ليشتغل بحراثة أرضه وتنمية غرسه. إن لم أكن خاضعاً لأمر إلهي فلمَ أضع نفسي تحت طاعة هذه العائلة المالكة مع أنها تتصل بأصل ليس بالأعلى ولا بالأنبل من الأصل الذي تتصل به عشيرتي. هذا كلام بسمارك، وهو يدلنا على أن هذا الرجل العظيم كان يعتقد أن عظائم أعماله إنما كانت من مظاهر إيمانه، وأن الاعتقاد بالله والتصديق باليوم الآخر هما الجناحان اللذان طار بهما إلى ما لم يدركه فيه مُفاخر ولم يكثره مُكاثر.