(تتمة الكلام على من زهد في رواية الشعر وحفظه وذم الاشتغال بعلمه وتتبعه) كان آخر القول في النبذة الماضية أن النبي كان يستنشد عائشة فتنشده ما تقدم. قالت: فيقول عليه السلام (يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده صنع إليك عبدي معروفًا فهل شكرته عليه فيقول يا رب علمت أنه منك فشكرتك عليه قال فيقول الله عز وجل: لم تشكرني إذ لم تشكر من أجريته على يده) . (وأما) علمه عليه السلام بالشعر فكما روي أن سودة أنشدت (عدِيٌّ وتَيم تبتغي من تحالف) فظنت عائشة وحفصة رضي الله عنهما أنها عَرَّضَتْ بهما وجرى بينهن كلام في هذا المعني فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليهن وقال: (يا ويلكن ليس في عديكن ولا تيمكن قيل هذا، وإنما قيل هذا في عدي تميم وتيم تميم) وتمام هذا الشعر: فحالف ولا والله تهبط تَلْعة ... من الأرض إلا أنت للذل عارف [١] ألا من رأى العبدين أو ذكرا له ... عدي وتيم تبتغي من تحالف وروى الزبير بن بكار. قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه برجل يقول في بعض أزقة مكة: يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا نزلت بآل عبد الدار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر هكذا قال الشاعر) قال: لا يا رسول الله ولكنه قال: يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا سألت عن آل عبد مناف فقال رسول الله صلى الله وعليه وسلم هكذا كنا نسمعها. (وأما) ارتياحه صلى الله عليه وسلم للشعر واستحسانه له فقد جاء فيه الخبر من وجوه من ذلك حديث النابغة الجعدي قال: أنشدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قولي: بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق مظهرا فقال النبي صلى اله عليه وسلم: (أين المظهر يا أبا ليلى؟) فقلت: الجنة يا رسول الله قال: (أجل إن شاء الله) . قال: (أنشدني) فأنشدته من قولي: ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوة أن يكدرا [١] ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا فقال صلى الله عليه وسلم: (أجدت، لا يفضض الله فاك) قال الراوي: فنظرت إليه فكأن فاه البَرَد المنهلّ ما سقطت له سن ولا انفلت تَرَف غُرُوبه [٢] (ومن ذلك) حديث كعب بن زهير روي أن كعبًا وأخاه بجيرًا خرجا إلى رسول الله عليه وسلم حتى بلغا أبرق العَزَّاف فقال كعب لبجير: القَ هذا الرجل وأنا مقيم ههنا فانظر ما يقول وقدم بجير على رسول الله صلى الله وعليه وسلم فعرض عليه الإسلام فأسلم وبلغ ذلك كعبًا فقال في ذلك شعرًا فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه فكتب إليه بجير يأمره أن يسلم ويقبل إلى النبي صلى الله وعليه وسلم ويقول: وأن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسقط ما كان قبل ذلك فقدم كعب وأنشد النبي صلى الله عليه وسلم قصيدته المعروفة: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفيد مغلول [٤] وما سعاد غداة البين إذ رحلت ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول سحَّ السقاة عليه ماء مَحْنِيَة ... من ماء أبطح أضحى وهو مشمول [٥] أكرم بها خلة لو أنها صدقت ... موعودها أولو أن النصح مقبول حتى أتى على آخرها فلما بلغ مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرسول لسيف يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول في فتية من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما بهم عن حياض الموت تهليل شهم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسيج داود في الهيجا سرابيل أشار رسول الله صلى الله وعليه وسلم إلى الحِلَق أن اسمعوا قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون من أصحابه مكان المائدة من القوم يتحلقون حلقة دون حلقة فيلتفت إلى هؤلاء وإلى هؤلاء، والأخبار فيما يشبه هذا كثيرة والأثر به مستفيض. وإن زعم أنه ذم الشعر من حيث هو موزون مقفى حتى كان الوزن عيبًا، وحتى كان الكلام إذا نُظِمَ نَظْمَ الشعر اتضع في نفسه وتغيرت حاله. فقد أبعد وقال قولاً لا يُعرف له معنى، وخالف العلماء في قولهم: إنما الشعر كلام، فحسنه حسن وقبيحه قبيح [٦] وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا. فإن زعم أنه إنما كره الوزن؛ لأنه سبب لأن يغني في الشعر ويلتهى به فإنا إذًا كنا لم نَدْعُه إلى الشعر من أجل ذلك وإنما دعوناه إلى اللفظ الجزل، والقول الفصل، والمنطق الحسن البين، والى حسن التمثيل والاستعارة، وإلى التلويح والإشارة، وإلى صنعة تعميم المعنى الخسيس فتشرفه، وإلى الضئيل فتفخمه، وإلى المشكل فتجليه، فلا متعلَّق له علينا بما ذكر، ولا ضرر علينا فيما أنكر، فليقل في الوزن بما شاء، وليضعه حيث أراد، فليس يعنينا أمره، ولا هو مرادنا من هذا الذي راجعنا القول فيه، وهذا هو الجواب لمتعلِّق إن تعلّق بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} (يس: ٦٩) وأراد أن يجعله حجة في المنع من الشعر ومن حفظه ومن روايته، وذاك أنا نعلم أنه صلى الله عليه لم يمنع من الشعر من أجل أن يكون قولاً فصلاً، وكلامًا جزلاً ومنطقًا حسنًا وبيانًا بينًا، كيف وذلك يقتضي أن يكون الله تعالى قد منعه البيان والبلاغة، وحماه الفصاحة والبراعة، وجعله لا يبلغ مبلغ الشعراء في حسن العبارة، وشرف اللفظ وهذا جهل عظيم. وخلاف لِمَا عرفه العلماء وأجمعوا عليه من أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب. وإذا بطل أن يكون المنع من أجل هذه المعاني وكنا قد أعلمناه أنا ندعو إلى الشعر من أجلها ونحدو بطلبه على طلبها كان الاعتراض بالآية مُحالاً والتعليق بها خطلاً من الرأي وانحلالاً: فإن قال إذا قال الله تعالى {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} (يس: ٦٩) فقد كره للنبي صلى الله عليه وسلم الشعر ونزّهه عنه بلا شبهة وهذه الكراهة كانت لا تتوجّه إليه من حيث هو كلام ومن حيث إنه بليغ بيّن وفصيح حسن ونحو ذلك فإنها تتوجه إلى أمر لا بد لك من التلبس به في طلب ما ذكرت أنه مرادك من الشعر وذلك أنه لا سبيل لك إلى أن تميز كونه كلامًا عن كونه شعرًا حتى إذا رويته التبست به من حيث هو كلام ولم تلتبس به من حيث هو شعر هذا مُحال. وإذا كان لا بد لك من ملابسة موضع الكراهة فقد لزم العيب براوية الشعر وإعمال اللسان فيه. قيل له [٦] : هذا منك كلام لا يتحصل وذلك أنه لو كان إذا وزن حطّ ذلك من قدره وأزرى به وجلب على المفرِّغ له في ذلك القالب إثمًا، وكسبه ذمًّا. لكان من حق العيب فيه أن يكون على واضع الشعر أو من يريده لمكان الوزن خصوصًا دون من يريده لأمر خارج عنه ويطلبه لشيء سواه فأما قولك: إنك لا تستطيع أن تطلب من الشعر ما لا يكره حتى تلتبس بما يكره فإني إذًا لم أقصده من أجل ذلك المكروه ولم أرده له وأردته لأعرف به مكان بلاغة. وأجعله مثالاً في براعة. أو أحتج به في تفسير كتاب وسنة وأنظر إلى نظمه ونظم القرآن، فأرى موضع الإعجاز وأقف على الجهة التي منها كان، وأتبين الفصل والفرقان، فحق هذا التلبس أن لا يعتد عليّ ذنبًا وأن لا أؤاخذ به إذ لا تكون مؤاخذة حتى يكون عَمْدٌ إلى أن تواقع المكروه وقصد إليه [١] وقد تتبع العلماء الشعوذة والسحر وعُنُوا بالتوقف على حيل المموِّهين ليعرفوا فرق ما بين المعجزة والحيلة فكان ذلك منهم من أعظم البر إذ كان الغرض كريمًا والقصد شريفًا هذا وإذا نحن رجعنا إلى ما قدمنا من الأخبار، وما صحَّ من الآثار، وجدنا الأمر على خلاف ما ظن هذا السائل ورأينا السبيل في منع النبي صلى الله عليه وسلم الوزن وأن ينطلق لسانه بالكلام غير ما ذهبوا إليه وذاك أنه لو كان منع تنزيه وكراهة لكان ينبغي أن يكره له سماع الكلام موزونًا وأن ينزّه سمعه عنه كما ينزه لسانه ولكان صلى الله عليه وسلم لا يأمر به ولا يحثّ عليه. وكان الشاعر لا يعان على وزن الكلام وصياغته شعرًا ولا يؤيد فيه بروح القدس، وإذا كان هذا كذلك فينبغي أن يعلم أن ليس المنع في ذلك منع تنزيه وكراهة بل سبيل الوزن في منعه عيه السلام إياه سبيل الخط حين جعل عليه السلام لا يقرأ ولا يكتب في أن لم يكن المنع من أجل كراهة كانت في الخط بل؛ لأن تكون الحجة أبهر وأقهر، والدلالة أقوى وأظهر، ولتكون أعم للجاحد [٢] وأقمع للمعاند، وأردّ لطالب الشبهة، وأمنع في ارتفاع الريبة. وأما التعليق بأحوال الشعراء بأنهم قد ذُمُّوا في كتاب الله تعالى فما أرى عاقلاً يرضى به أن يجعله حجة في ذم الشعر وتهجينه، والمنع من حفظه وروايته، والعلم بما فيه من بلاغة، وما يختص به من أدب وحكمة؛ ذاك لأنه يلزم على قول هذا القول أن يعيب العلماء في استشاهدم بشعر امرئ القيس وأشعار أهل الجاهلية في تفسير القرآن وغريبه وغريب الحديث، وكذلك يلزمه أن يدفع سائر ما تقدم ذكره من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالشعر وإصغائه إليه واستحسانه له، هذا ولو كان يسوغ ذم القول من أجل قائله، وأن يحمل ذم الشاعر على الشعر لكان ينبغي أن يُخص ولا يعم وأن يستثنى فقد قال الله عز وجل: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} (الشعراء: ٢٢٧) ولولا أن القول يجر بعضه بعضًا وأن الشيء يذكر بدخوله في القسمة لكان حق هذا ونحوه أن لا يتشاغل به وأن لا يعاد ويبدأ في ذكره اهـ.