للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة من سنغافورة
عن القرآن بالفونغراف

(س ٣٦ و ٣٧) عون الله الحضرمي بتصرف في لفظه: ظهرت آلة تنطق
بالأحرف بالغناء والأشعار المختلفة، وتغني وتنوح ثم ظهرت فيها قراءة القرآن
والأذان، وصارت تتداوله أيدي الكفرة وأهل الطغيان، في كل قهوة و (مخدرة
وزق زقاق) كأنه للتفرج والفرح، ويباع في كل دكان، من أهل الإسلام وأي دين
كان؛ لأن الأمة زاغت بهذه الفنون كأنهم أصيبوا بالجنون، ولا ندري ماذا يكون،
والله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: ٤٣) .
فأجبنا سؤال مجلة المنار عن حكم الشريعة في المسألة، فإن منهم من قال:
ذلك جائز، ومنهم من قال: ذلك لا يجوز. فنرجو أن تجتهدوا فيها وتملأوا
صحيفتكم بفتواها. وهذا عندي من أكبر الكبائر، والله أعلم بما في الضمائر.
(س) من السيد حسن بن علوي بن شهاب:
إلى المنار المنير: ما حكم الإسطوانات المودع فيها صوت القارئ للقرآن،
فهل هي كالمصحف في الحكم: حملاً ومسًّا وحرمةً أم لا؟ وقد اختلفت الأفهام هنا
وأنا أعتقد أن لا حكم لها، بل هي كغيرها من الجمادات.
(ج) قد جاءتنا أسئلة أخرى في معنى هذين السؤالين من مصر وغيرها
فاكتفينا بهما عنها، فأما استعمال هذه الآلة في تأدية القرآن، فهي فيما نرى تابعة
لقصد المستعمل، فإذا قصد بذلك الاتعاظ والاعتبار بسماعه، فلا وجه لحظره، وإذا
قصد به التلهي وهو ما عليه الجماهير فى كل ما يسمعونه من الفونغراف، فلا
وجه لاستباحته، وأخشى أن يدخل فاعله في عداد من اتخذوا دينهم هزؤًا ولعبًا،
فيتناوله وعيد قوله عز وجل: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ
الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيع} (الأنعام: ٧٠) الآية، وقوله تعالى في وصف الكافرين أهل النار: {الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا} (الأعراف: ٥١) ، وأن يدخل
مشتري الإسطوانات أو الألواح التي تؤدي القرآن بهذا القصد في عداد من نزل
فيهم {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا
هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (لقمان: ٦) كلا بل ربما كان شرًّا من هؤلاء
الناس، فإنه جعل الآيات نفسها مع ذلك اللهو في قرن، فصرف النفس عن
الاعتبار، حتى إذا تليت عليه كان كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرًا. وقد كان
الأستاذ الإمام يتأثم من استعمال الفونغراف في تأدية القرآن مطلقًا فيما ظهر لي منه.
ولكن وجد في أصحاب العمائم هنا من تجرأ على القول بإباحته مطلقًا. ولعل
ما ذكرناه من اختلاف الحكم فيه باختلاف القصد أقرب. والله أعلم بالسرائر.
وقد يكون لبعض الناس من المقاصد الصحيحة غير قصد الاعتبار والاتعاظ
بسماع القرآن، ما يبيح لهم ذلك، أو يجعله مطلوبًا، كأن يستعين به من لا يضبط
القراءة أو لا يحسنها على ضبطها وتجويدها أو تحفظ فيه أثرًا تاريخيًّا.
وأما حكم حمل ومس الإسطوانات أو الألواح التي بها تتأدى القراءة الذي
بني السؤال عنه على الاعتقاد بحرمة حمل المصحف أو مسه على المحدث، وهو
من يحتاج في صحة صلاته إلى الوضوء أو الغسل، ففيه وجهان:
(أحدهما) : أن يقال إن إسطوانة الفونغراف، أو لوحه الذي ينشأ عن قرع
الإبرة له الصوت المشتمل على الكلام ليس قرآنًا مكتوبًا؛ إذ لا يرى الناظر فيه
شيئًا من كلمات القرآن ولا حروفه، فلا يتناوله الضمير فى قوله تعالى: {لاَ يَمَسُّهُ
إِلاَّ المُطَهَّرُونَ} (الواقعة: ٧٩) ، الراجع الى قوله: {كِتَابٍ مَّكْنُون} (الواقعة:
٧٨) بناءً على أن المراد بالكتاب: القرآن وهو وجه ضعيف في التفسير؛ لأنه ليس
بكتاب.
وهذا الوجه ظاهر على طريقة الفقهاء الذين ينظرون في استنباط الأحكام
إلى مدلولات الألفاظ في الغالب، وهو الذي لاح للسائل فيما يظهر.
(والوجه الثاني) : أن ينظر في المسألة إلى حكمتها وسرها، فيبني الحكم
على ذلك. وبيان ذلك أن تلك النقوش التي تسمى كتابًا ما كان لها حكم الكلام؛ إلا
لأنها وسيلة للعارف بها إلى أدائه ونقله، وكذلك إسطوانات الفونغراف أو ألواحه
وسيلة إلى ذلك. فإذا كانت الألواح والصحف المكتوب فيها القرآن كله أو بعضه
محترمة؛ لأنها وسيلة إلى أدائه، فلماذا لا تكون ألواح الفونغراف وإسطواناته
محترمة كذلك؟
ولصاحب هذا الوجه أن ينقض الوجه الأول بأن العرف يسمي ما في هذه
الإسطوانات والألواح قرآنًا؛ إذ يقال: إن هذا اللوح فيه سورة كذا أو قوله تعالى
كذا. وإذا نظرنا في الكتابة نظر الفيلسوف، نرى أن النقوش الدقيقة التي في ألواح
الفونغراف أجدر من النقوش الكتابية بأن تسمى كلامًا؛ ذلك بأنها كتابة طبيعية
حدثت من تموج الهواء بالقراءة اللفظية بواسطة الإبرة المعروفة، وهي تعيد الكلام
كما بدأه القارئ لا تخطئ.
وأما الكتابة الخطية المعروفة فهي كتابة اصطلاحية، لا تؤدي الكلام بطبعها،
بل بالمواضعة والاصطلاح، وقد يقع الخطأ فيها من الكاتب، فلا يؤدي ما أُملِي
عليه كما هو، ومن القارئ فلا يؤدي ما كُتِب على وجهه، وإن كان عارفًا بالكتابة،
بل المتلقي القراءة لا يضبطها كما هي؛ لذلك قال بعض علماء الأصول: إن تواتر
القرآن خاص فيما ليس من قبيل الأداء، فإننا لا نقطع بأن أداءنا لهذا القرآن المتواتر
كأداء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو كان في عهده فونغراف حفظت به قراءته،
لقطعنا بذلك، ولعدَّ الأداء أيضًا متواترًا. ومن ثَمَّ قلنا: إن من المقاصد الصحيحة أن
يستعمل الفونغراف في أداء القرآن؛ لأجل ضبطه إن احتيج إلى ذلك.
هذا وإن تحريم مس المصحف على المُحْدِثِ لا ينهض عليه دليل من الكتاب
ولا من السنة. ولكن بعضهم ادَّعى الإجماع على حرمة مسه للجنب، ولا تسلم له
هذه الدعوى، والخلاف في غير المتوضئ أقوى.
نعم إن احترام القرآن واجب قطعًا، وإهانته من كبائر المحظورات، بل من
الكفر الصريح إذا كانت عن عمد. ولكن حمل المحدث له ينافي الاحترام، ولا يستلزم
الإهانة، فرب محدث يحمل القرآن وهو له أشد احترامًا، ورب متوضئ يحمله وهو
مقصر في احترامه.