بسم الله الرحمن الرحيم (١) وقال رحمه الله ورضي عنه في رجل تزوج بنتًا بكرًا بالغًا ودخل بها فوجدها بكرًا ثم إنها ولدت ولدًا بعد مُضي ستة أشهر بعد دخوله بها؛ فهل يلحق به الولد أم لا، وأن الزوج حلف بالطلاق منها أن الولد ولده من صلبه فهل يقع الطلاق أم لا والولد ابنًا سويًّا كامل الخلقة، وعمَّر سنين، أفتونا مأجورين. أجاب رضي الله عنه: الحمد لله؛ إذا ولدت لأكثر من ستة أشهر من حين دخل بها ولو بلحظة لَحِقه الولد باتفاق الأئمة؛ ومثل هذه القصة وقعت في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- واستدل الصحابة على إمكان كون الولد يولد لستة أشهر بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف: ١٥) مع قوله: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} (البقرة: ٢٣٣) فإذا كان مدة الرضاع من الثلاثين حولين يكون الحمل ستة أشهر؛ فجمع في الآية أقل الحمل وتمام الرضاع، ولو لم يستلحقه فكيف إذا استلحقته وأقرّ به، بل لو استلحق مجهول النسب، وقال: إنه ابني لحقه باتفاق المسلمين؛ إذا كان ذلك ممكنًا ولم يذع به أنه ابنه كان بارًّا في يمينه ولا حنث عليه، والله أعلم. *** بسم الله الرحمن الرحيم (٢) مسألة في الفقر والتصوف صورتها: ما تقول الفقهاء ـ رضي الله عنهم ـ في رجل يقول: إن الفقر لم يتعبد به، ولم نؤمر به، ولا جسم له، ولا معنى وأنه سبيل غير موصل إلى رضى الله - تعالى- وإلى رضى رسوله، وإنما تعبدنا بمتابعة أمر الله واجتناب نهيه من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ وأن أصل كل شيء العلم والتعبد والعمل به، والتقوى والورع عن المحارم، والفقر المسمى على لسان الطائفة والأكابر هو الزهد في الدنيا، والزهد في الدنيا يفيده العلم الشرعي؛ فيكون الزهد في الدنيا العمل بالعلم وهذا هو الفقر، فإذًا الفقر فرع من فروع العلم، والأمر على هذا، وما ثم طريق أوصل من العلم، والعمل بالعلم على ما صح وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: إن الفقر المسمى المعروف عند أكثر أهل الزي المشروع في هذه الأعصار من الزي والألفاظ والاصطلاح المعتادة غير مرضي لله ولا لرسوله، فهل الأمر كما قال، أو غير ذلك أفتونا مأجورين. نسخة جواب الشيخ تقي الدين بن تيمية ـ رضي الله عنه ـ الحمد لله. أصل هذه المسألة أن الألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة علينا أن نتبع ما دلت عليه مثل لفظ الإيمان والبر والتقوى والصدق والعدل والإحسان، والصبر والشكر والتوكل والخوف والرجاء والحب لله والطاعة لله وللرسول وبر الوالدين والوفاء بالعهد، ونحو ذلك مما يتضمن ذكر ما أحبه الله ورسوله من القلب والبدن؛ فهذه الأمور التي يحبها الله ورسوله هي الطريق الموصل إلى الله مع ترك ما نهى الله عنه ورسوله كالكفر والنفاق والكذب والإثم والعدوان والظلم والجزع والهلع والشرك والبخل والجبن وقسوة القلب والغدر وقطيعة الرحم، ونحو ذلك؛ فعلى كل مسلم أن ينظر فيما أمر الله به ورسوله فيفعله وما نهى الله عنه ورسوله فيتركه. هذا هو طريق الله وسبيله , ودينه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا الصراط المستقيم يشتمل على علم وعمل، علم شرعي وعمل شرعي؛ فمن علم ولم يعمل بعلمه كان فاجرًا ومن عمل غير العلم كان ضالاًّ، وقد أمرنا سبحانه أن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: ٦-٧) . قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اليهود المغضوب عليهم , والنصارى ضالون) وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يعملوا به , والنصارى عبدوا الله بغير علم ولهذا كان السلف يقولون: (احذر فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل؛ فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون) ، وكانوا يقولون: (من فسد من العلماء ففيه شبه باليهود، ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى) فمن دعا إلى العلم دون العمل المأمور به كان مضلاًّ، وأضل منهما من سلك في العلم طريق أهل البدع فيتبع أمورًا تخالف الكتاب والسنة يظنها علومًا وهي جهالات، وكذلك من سلك في العبادة طريق أهل البدع فيعمل أعمالاً تخالف الأعمال المشروعة يظنها عبادات وهي ضلالات فهذا وهذا كثير في المنحرف المنتسب إلى فقه أو فقر، يجتمع فيه أنه يدعو إلى العلم دون العمل، والعمل دون العلم؛ ويكون ما يدعو إليه فيه بدع تخالف الشريعة، وطريق الله لا تتم إلا بعلم وعمل يكون كلاهما موافق الشريعة. فالسالك طريق الفقر والتصوف والزهد والعبادة إن لم يسلك بعلم يوافق الشريعة، وإلا كان ضالاً عن الطريق، وكان ما يفسده أكثر مما يصلحه، والسالك من الفقه والعلم والنظر والكلام إن لم يتابع الشريعة ويعمل بعلمه وإلا كان فاجراً، ضالا عن الطريق، فهذا هو الأصل الذي يجب اعتماده على كل مسلم. وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من الله فهو من عمل الجاهلية، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، ولا ريب أن لفظ الفقر في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والتابعين وتابعيهم لم يكونوا يريدون به نفس طريق الله، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه والأخلاق المحمودة ولا نحو ذلك، بل الفقر عندهم ضد الغنى، والفقراء هم الذين ذكر الله في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين} (التوبة: ٦٠) وفي قوله: {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه} (البقرة: ٢٧٣) وفي قوله: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} (الحشر: ٨) والغني هو الذي لا يحل له أخذ الزكاة، أو الذي يجب عليه الزكاة، أو ما يشبه هذا، لكن لما كان الفقر مظنة الزهد طوعًا أو كرهًا؛ إذ من العصمة أن لا تقدر، وصار المتأخرون كثيرًا ما يقرنون بالفقر معنى الزهد، والزهد قد يكون مع الغنى، وقد يكون مع الفقر، ففي الأنبياء والسابقين الأولين ممن هو زاهد مع غناه كثير. والزهد المشروع ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، وأما كل ما يستعين به العبد على طاعة الله فليس تركه من الزهد المشروع، بل ترك الفضول التي تشغل عن طاعة الله ورسوله هو المشروع، وكذلك في أثناء المائة الثانية صاروا يعبرون عن ذلك بلفظ الصوفي نسبة إلى الصفة أو الصفاء أو الصف الأول؛ أو صوفة بن مر بن أد بن طابخة، أو صوفة القفا؛ فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، لكن من الناس من قد لمحو الفرق في بعض الأمور دون بعض بحيث يفرق بين المؤمن والكافر، ولا يفرق بين البر والفاجر، أو يفرق بين بعض الأبرار وبين بعض الفجار، ولا يفرق بين آخرين اتباعًا لظنه وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوَّى بين الأبرار والفجار، ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه. ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر وكان من القدرية، كالمعتزلة ونحوهم الذين هم مجوس هذه الأمة , فهؤلاء يشبهون المجوس وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس، ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضًا؛ فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب سبحانه وخاصمه كما نقل ذلك عنه، فهذا التقسيم من القول والاعتقاد وكذلك هم في الأحوال والأفعال فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي الله فيفعل المأمور ويترك المحظور ويصبر على ما يصيبه من المقدور , فهو عند الأمر والدين والشريعة يستعين بالله على ذلك على ذلك كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) وإذا أذنب استغفر وتاب لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ولا يرى المخلوق حجة على رب الكائنات؛ بل يؤمن بالقدر، ولا يحتج به كما في الحديث الصحيح الذي فيه: سيد الاستغفار أن يقول العبد: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) فيقر بنعمة الله عليه في الحسنات ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى، ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها، كما قال بعضهم: (أطعتك بفضلك والمنة لك وعصيتك بعلمك والحجة لك فأسألك بوجوب حجتك عليّ وانقطاع حجتي إلا ما غفرت لي) . وفي الحديث الصحيح الإلهي (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها , فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع، وآخرون قد يشهدون الأمر فقط فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما يوجب لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر، وآخرون يشهدون القدر فقط فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك لكنهم لا يلتزمون أمر الله ورسوله واتباع شريعته وملازمة ما جاء به الكتاب والسنة من الدين فهؤلاء يستعينون الله ولا يعبدونه، والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه والمؤمن يعبده ويستعينه. (للكلام بقية)