للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مشروع إحياء الآداب العربية
تقاومه جريدة قبطية [*]

عزمت الحكومة المصرية على طبع بعض الآثار العربية من المصنفات النافعة
النادرة بالمال الخاص بدار الكتب المصرية (الكتابخانة الخديوية) ، وكان لديها في
الميزانية ألف جنيه؛ لتنشيط الآداب العربية، فقررت إضافته إلى المحبوس على
دار الكتب والاستعانة به على طبع تلك الآثار.
عَزْم شَرِيفٌ على عمل صالح يحمده كل أديب عربي، ولا ينتقده عاقل
أعجمي؛ لأن هذه الحكومة عربية والأمة الذي تحكمها عربية، وهي حكومة غنية
تعد الألف الجنيه قليلة منها على مثل هذا العمل التي تنفق حكومات أوربة وشعوبها
في سبيله ألوفًا كثيرة من الجنيهات، حتى صارت دور الكتب في بلادهم كباريس
ولندن وليدن وبرلين أغنى من دار الكتب المصرية بمصنفات سلفنا العرب من
المصريين وغيرهم، وصاروا يطبعون من نفائسها ما نضطر إلى ابتياعه منهم بل
صرنا نرسل أولادنا ليتعلموا الآداب العربية في أوربا وهذا عار علينا عظيم.
لم تكن العناية ببذل المال على جمع الكتب العربية ونشرها قاصرًا على
الحكومات ورجال العلم من الأوروبيين، بل رأينا بعض الجمعيات الدينية النصرانية
تفعل ذلك كجمعية اليسوعيين، فقد رأينا مكتبتها في بيروت جامعة لنفائس الكتب
العربية التي يعز نظيرها في مكتبتنا المصرية، وقد طبعت لنا كثيرًا من هذه
النفائس.
لا ريب في أن العمل الذي شرعت فيه الحكومة المصرية العربية جليل، ولا
ريب في أن المال الذي خصصته له في هذه العام من ميزانيتها قليل، فهي تتفق
أكثر منه في ضيافة أحد ضيوف الأمير يومًا واحدًا، وتتفق أكثر منه في مساعدة
التمثيل الإفرنجي الذي يرى جمهور الأمة أن إثمه أكبر من نفعه، وتتفق أكثر منه
في البحث عن أسماك النيل والوقوف على أنواعها، وهو عمل قلما يوجد مصري
ينتفع به، وإنما يُعَدُّ مثله من كماليات فروع العلوم في أوربا، وأين نحن من مبادئ
أصول هذا الفرع الآن.
على هذا كله حمد العقلاء والأدباء مشروع الحكومة الجديد، وهم يرجون منها
المزيد، ولم يكن يخطر في البال أن يلقى هذا المشروع اعتراضًا، ولا أن يصادف
امتعاضًا، حتى سمعنا نعاب صاحب جريدة الوطن القبطية يدعو بالويل والثبور،
وينعي على الحكومة المصرية عملها، ويندب الشعب المصري مدعيًا أن الحكومة
تريد بهذا العمل إفساد آدابه ومنعه من العلوم والمعارف والآداب الصحيحة التي
ترقيه وتجعله من الشعوب العزيزة الراقية، وزجه في ظلمات (الخرافات
والسفاهات والسخافات والجهالات العربية) وزعم الكاتب أنه لا يوجد في الكتب
العربية غير تلك المضار التي استفرغ كل ما في جوفه، وجعله وصفًا لها وكل إناء
ينضح بما فيه.
رأيت في بعض الجرائد بعض عبارات جريدة الوطن البذيئة في هذه المسألة
وأطلعني بعض الناس على عدد منها، رأيت الكاتب فيه لم يكتف بتحقير جميع
العرب، والقدح في كل ما كتبوا وصنفوا، حتى صرح بذم دينهم في ضمن ذلك،
فقال في سياقه البذئ: (وهل أصبح كل ما في مصر آداب العرب وتاريخ العرب
وحضارة العرب ودين العرب وكتب العرب وخرافات العرب وغلاطات العرب،
وحرم علينا أن نلم بالمفيد، وأن ينفق مالنا فيما يرقي الآداب والمعيشة، ويرفعنا من
هذا الحضيض القذر إلى مقام الذين تطهروا من سخفافات الأجداد) .. إلخ.
يعني الكاتب بدين العرب دين الإسلام، وهو يريد أن يمحى الإسلام ولغته
وآدابهما في مصر وتحل محلها القبطية، وهذا هو السبب الذي جعل مشروع طبع
الكتب العربية ينقض عليه انقضاض الصاعقة، كما قال في مقالة يوم السبت ٨ ذي
الحجة، التي نقلنا هذه الجملة منها آنفًا، وهي أهون ما كتب وأقله بذاء، وما هو
بالمصاب الكبير في نفسه الذي يصعق له الناس، فيصرعون فيقومون كما يقوم الذي
يتخبطه الشيطان من المس لا يدرون ماذا يقولون.
صاحب الوطن جاهل بلغة العرب وآداب العرب وحضارة العرب، وتاريخ
العرب ودين العرب لا يعرف من ذلك ما يجيز له الحكم في نفعها وضررها , لكن
الجهل وحده لا يستطيع أن يهبط بصاحبه إلى الدرك الأسفل الذي وقع فيه صاحب
الوطن ومن عاونه على تلك الكتابة، وإنما ذلك الغلو في التعصب الديني وبغضه
لمسلمي وطنه جعله يصعق من كل شيء يستفيدون منه في دينهم، وإن كان
نافعًا للبلاد المصرية.
لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها في هذه المسألة بإعلامه أن
اللغة العربية ليست خاصة بالمسلمين، وإنما هي مشتركة بينهم وبين غيرهم في
نفس جزيرة العرب لا في مصر وحدها، وقد كانت لغة لليهود والنصارى فيها قبل
ظهور الإسلام، وقد صارت بعده اللغة الطبيعية لجميع العراقيين والسوريين
والمصريين وسائر القسم الشمالي من أفريقية، وأنه ليس في استطاعة صاحب
جريدة الوطن وصاحب جريدة مصر القبطيتين، ومن على رأيهما من المتعصبين
نسخها واستبدل القبطية بها، وإذا كان الأمر كذلك وكان من البديهيات أن ارتقاء أمة
بدون ارتقاء لغتها وآداب لغتها من المحال، وكان يجب ارتقاء المصريين عامة في
العلوم والفنون والمدنية كما يدعي، فالواجب عليه أن يشكر للحكومة عملها في خدمة
آداب لغتها ولغة أمتها لا أن يصعق عند علمه بذلك.
لو كانت علته هي الجهل وحده؛ لأمكن مداواتها بإعلامه بما قال منصفو
علماء الإفرنج في بيان فضل لغة العرب وآدابهم وحضارتهم كغوستاف لوبون
صاحب كتاب مدنية العرب، وسديو صاحب تاريخ العرب، ودرابر وغيرهم،
وقد سئل أحد علماء الإنكليز إذا أراد البشر أن يوحدوا لغتهم، فأي اللغات تختار أن
تكون لغة جميع البشر؟ قال اللغة العربية. وقد قال لي مرة مستر: (متشل أنس)
الإنكليزي الذي كان وكيلا لنظارة المالية: ما أظن أنه يوجد في العربية شعر أرق
كالشعر الإنكليزي، فقلت: وأنا أظن العكس ولا عبرة برأي ولا برأيك في ذلك،
فيجب أن نرجع إلى بالعارف باللغتين، صاحب الذوق في الشعرين، ثم لقيت مستر
(بلنت) الكاتب الشاعر الإنكليزي المشهور، والذي نظم المعلقات السبع العربية
بالإنكليزية، فذكرت له ذلك فقال: قل (لمتشل أنس) : إن العرب كانوا ينطقون
بالحكمة في شعرهم عندما كان الإنكليز مثل الوحوش يطوفون في الغابة عراة
الأجسام.
لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإعلامه أن الأمم الحية تبحث
عن الكتب القديمة في لغتها وكذا في لغة غيرها؛ لأجل الوقوف على سير العلوم
والفنون والآداب فيها توسعًا في التاريخ وتحقيقًا لمسائله، ولا سيما إذا كانت كتب
تلك اللغات من حلقات سلسلة المدنية والحضارة كاللغة العربية التي هي الحلقة
الموصلة بين المدنية الأوربية الحاضرة، والمدنيات القديمة بإجماع العارفين.
لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإعلامه بما في الكتب العربية من
الآداب والفضائل ولو بالإجمال، وبوجه حاجة الأمة التي تسير في طريق الارتقاء من
معرفة تاريخ لغتها وآثار سلفها فيه، وبأن تكونها من شعوب كثيرة لها سلف آخرون
في النسب والدين أو المدنية، لا ينافي حاجتها إلى إحياء آثار سلفها في اللغة؛ لأن
رابطة اللغة هي التي تربط هذه الشعوب بعضهم ببعض، وتجعل ارتقاءهم بها
وحياتهم العامة بحياتها.
لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإعلامه أن البشر متشابهون في
الصفات والأعراض البشرية، وأن ذلك خيره وشره يظهر في لغاتهم، فإذا كانت
عين التعصب أرته في بعض الكتب العربية طعنًا من مسلم في دين النصارى فيعلم
أن في الكتب العربية القديمة والحديثة طعنًا من النصارى في الإسلام مثل ذلك أو أشد،
إذا كان قد عمي عما يكتبه هو وغيره من قومه في هذا العصر من الطعن في
الإسلام، وحسبه منه العبارة التي نقلناها آنفًا التي جعل فيها دين العرب وآدابهم من
الأقذار التي قاءها في جريدته، ويوجد في كتب الإفرنج من الطعن في الدين
الإسلامي والمسلمين ما هو أشد من ذلك وأقبح، وكله بهتان لم يخطر على بال أحد
من أجهل جهلاء المسلمين بالإسلام، وإذا كان قد رأى أو سمع أن في بعض الكتب
العربية مجونًا؛ فليسأل المطلعين على اللغات الأوربية، يخبروه أن في بعضها من
فنون المجون ما لم يكن يخطر على بال أحد من العرب، ولا يجري على لسانه ولا
على قلمه، وهل أنتنت الدنيا إلا بفواحش بغايا أوربة، وبقيت لغاتهم منزهة عن
التعبير عن ذلك.
لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإعلامه أن طبع الحكومة
لبعض الكتب العربية؛ لا تقصد أن تستغني به عما تستفيده من الإفرنج مما لا بد لنا
منه من الفنون الصناعية والزراعية والاقتصادية، ولا أن تبطل به نظام التعليم في
المدارس، فتعلم تلاميذها الجغرافيا والقديمة بدلاً من الجغرافية الحديثة مثلاً، بل لا
نظن أن هذا مما يخفى عليه.
لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإطلاعه على نظام التعليم في
مدارس الحكومة التي يدعي أنها تريد قتل الأمة بجهالات العرب، وإخباره بأن
نظارة المعارف قد أنشأت قلمًا جديدًا لترجمة الكتب المفيدة، فهي إذا التفتت إلى
ترقية لغتها بإحياء تاريخها الماضي لفتة واحدة، فقد نظرت إلى ترقيتها بإدخال
العلوم الأوربية فيها قبل ذلك، ولك مدارسها شاهدة على ذلك، وإنما قلم الترجمة
الجديد حسنة من حسنات الناظر الجديد أحمد حشمت باشا.
ليست علة صاحب جريدة الوطن هي الجهل فنداويها بما ذكرنا، وما لم نذكر
من العلم الصحيح، فإن الجهل وحده لا يستطيع إلى أن يهبط به إلى هذه الدركة من
الخذلان، وإنما علته هي الغلو في التعصب القبطي وكراهة كل شيء ينفع الإسلام
والمسلمين وإن نفع غيرهم ولم يضرهم، وقد بلغني وأنا في الآستانة أن التعصب قد
لج به وبزميله صاحب جريدة مصر في هذا العام، حتى أنكر ذلك عليهما قومهما،
وهذه العلة لا علاج لها ولا دواء ولكن يمكن تخفيف أعراضها بحكمة الحكومة
وعدلها أو بإظهار جمهور القبط السخط عليها إن كانوا يفعلون.
نشرنا هذه المقالة في المؤيد، ثم إن الحكومة أنذرت صاحب جريدة الوطن
بهذا الذنب وكان قد أُنْذِر من قبل، فإذا أتى بعد هذا بأي ذنب يعاقب عليه القانون
تقفل جريدته. وأما القبط فقد ظهر من جمهور كبير منهم أنهم راضون من وقاحة
جريدة الوطن وتهجمها؛ ولذلك ساعدتها جريدتهم الثانية (مصر) على ذلك،
وأيدتهما جريدة (الأخبار) أيضًا، والظاهر أن القوم يريدون بهذا التهجم الذي لا
يعقل له سبب إحداث فتنة بين المسلمين والقبط، يظنون أن ذلك يكون سبب
البطشة الكبرى من إنكلترا، فلا تبقى للمسلمين في هذه الحكومة باقية.