للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كتابة القرآن بالحروف الإنكليزية
كتب بعض المسلمين في الترنسفال إلى جريدة في مصر ثلاثة أسئلة لتعرضها
على بعض علماء الأزهر، فعرضتها على الشيخ محمد بخيت فأجاب عنها ونشرت
الجريدة أجوبته. أحد الأسئلة عن التزوج بأخت الرضيعة وجوابه معروف وهو أنه
لا يحرم على الرجل إلا مَن رضعت هي وإياه من امرأة وأما أخت الرضيعة فلا
تحرم. والسؤال الثاني يتعلق بالاقتداء بالمخالف وبينَّا الراجح فيه عندنا في آخر
الجزء الماضي وأن في المسألة قولين مصححين، ولكن الشيخ ذكر أن الأصح خلاف
ما رجحناه وهو المذكور في كتب الفقه وهم أسرى تلك الكتب.
وأما السؤال المهم فهو ما جعلناه عنوانًا لهذه النبذة وقد أجاب عنه الشيخ
بجواب ننقله عن تلك الجريدة مع السؤال ثم نبين رأينا فيه وهو:
سؤال: ما قولكم علماء الإسلام ومصابيح الظلام أدام الله وجودكم: هل
يجوز كتابة القرآن الكريم بالحروف الإنكليزية والإفرنسية مع أن الحروف
الإنكليرية ناقصة عن الحروف العربية ومعلوم أن القرآن الكريم أنزل على لسان
قريش فالإنكليزي مثلاً إذا أراد أن يكتب مصر بالإنكليزية تُقرأ (مسر) أو أحمد
تكتب (أهمد) ويكتب (شيك) بمعنى شيخ لا سيّما وإخواننا المسلمون في مصر
يعرفون اللغة الإنكليزية وغيرها والبعض من المسلمين في جنوبي إفريقيَّة في جدال
عنيف، منهم من يجوّز ومنهم من يقول غير جائز.
أفيدونا ولكم الأجر والثواب من الله تعالى.
جواب:
اعلم أن القرآن هو النظم، أي اللفظ الدال على المعنى لأنه الموصوف بالإنزال
والإعجاز وغير ذلك من الأوصاف التي لا تكون إلا للفظ. وأما المعنى وحده فليس
بقرآن حقيقة. وقيل: إن القرآن حقيقة هو المعنى ويطلق على اللفظ مجازًا. والحق
هو الأول، وعليه فلا يجوز قراءة القرآن بغير العربية لقادر عليها وتجوز القراءة
والكتابة بغير العربية للعاجز عنها بشرط أن لا يختل اللفظ ولا المعنى، فقد كان تاج
المحدثين الحسن البصري يقرأ القرآن في الصلاة بالفارسية لعدم انطلاق لسانه
باللغة العربية. وفي (النهاية والدراية) أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي أن
يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتب فكانوا يقرأون ما كتب في الصلاة حتى لانت
ألسنتهم. وقد عرض ذلك على النبي e ولم ينكر عليه. وفي (النفحة القدسية في
أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية) ما يؤخذ منه حرمة كتابة القرآن بالفارسية
إلا أن يكتب بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته، ويحرم مسه لغير الطاهر
اتفاقًا، وفي كتب المالكية أن ما كتب بغير العربية ليس بقرآن بل يعتبر تفسيرًا له.
وفي (الإتقان) للسيوطي عن الزركشي أنه لم ير كلامًا لعلماء مذهبه في كتابة القرآن
بالقلم الأعجمي وأنه يحتمل الجواز لأنه قد يحسنه من يقرأه بالعربية. والأقرب المنع،
كما تحرم قراءته بغير العربية ولقولهم: القلم أحد اللسانين. والعرب لا تعرف قلمًا
غير العربي وقد قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: ١٩٥) .
فتلخص من ذلك أن المنصوص عند الحنفية جواز القراءة والكتابة بغير
العربية للعاجز عنها بالشروط المار ذكرها وأن الأحوط أن يكتبه بالعربية ثم يكتب
تفسير كل حرف وترجمته بغيرها كالإنكليزية. اهـ.
(المنار)
عندنا مسألتان: إحداهما ترجمة القرآن إلى لغة أعجمية، أي التعبير عن معانيه
بألفاظ أعجمية يفهمها الأعجمي دون العربي وهذه هي التي سأَلَنا عنها الفاضل
الروسي ونشرنا السؤال والجواب في هذا الجزء. والثانية كتابة القرآن العربي
بحروف غير عربية، وهذه هي التي يسأل عنها السائل الترنسفالي. وقد رأى
القراء أن جواب المجيب عنها مضطرب والنقول التي نقلها مضطربة، لذلك رأينا
أن ننقله ونحرر القول في المسألة تحريرًا.
المقصود من الكتابة أداء الكلام بالقراءة فإذا كانت الحروف الأعجمية
التي يراد كتابة القرآن بها لا تغني غناء الحروف العربية لنقصها كحروف اللغة
الإنكليزية فلا شك أنه يمتنع كتابة القرآن بها لما فيها من تحريف كَلِمه ومن رضي
بتغيير كلام القرآن اختيارًا فهو كافر. وإذا كان الأعجمي الداخل في الإسلام لا
يستقيم لسانه بلفظ محمد فنطق بها (مهمد) وبلفظ خاتم النبيين فيقول (كاتم النبيين)
فالواجب أن يجتهد بتمرين لسانه حتى يستقيم، وإذا كتبنا له أمثال هذه الكلمات
بحروف لغته فقرأها كما ذكر فلن يستقيم لسانه طول عمره. ولو أجاز المسلمون
هذا للرومان والفرس والقبط والبربر والإفرنج وغيرهم من الشعوب التي دخلت في
الإسلام لعلة العجز لكان لنا اليوم أنواع من القرآن كثيرة ولكان كل شعب من
المسلمين لا يفهم قرآن الشعب الآخر.
وإذا كانت الحروف الأعجمية التي يراد كتابة القرآن بها مما تتأدى بها القراءة
على وجهها من غير تحريف ولا تبديل كحروف اللغة الفارسية مثلاً، ففي المسألة
تفصيل والذي نقطع به أن الكتابة بخطها لا تكون إخلالاً بأصل الدين ولا تلاعبًا به
وإن هو خالف الخط العربي، فالفرق بين الخط العربي والخط الكوفي أبعد من الفرق
بين الخطين العربي والفارسي ونرى علماء المذاهب متفقين على هذه الخطوط كلها
ولكنهم يعتدونها عربية. وإذا قيل: إنها مختلفة اختلافًا لا يكفي لمتعلم أحدها أن يقرأ
الآخر كالكوفي والفارسي - نقول: قصارى ما يدل عليه ذلك أن كل خط جائز
بشرطه، ولكن عندنا ما يدل على أنه ينبغي الاتفاق علي خط واحد. فهم المسلمون
هذا من روح الإسلام فكانوا متحدين في كل عصر على كتابة القرآن بخط واحد
يتبع فيه رسم المصحف الإمام لا يتعدى إلا إلى زيادة في التحسين والإتقان. ذلك
من آيات حفظ الله له وهو عندي واجب فإن القرآن هو الصلة العامة بين
المسلمين والعروة الوثقى التي يستمسك بها جميع المؤمنين. ومن التفريط فيه أن
يفد المسلم القارئ على مصر قادمًا من الصين فلا يستطيع القراءة في مصاحفها،
وكذا يقال في سائر الشعوب وتصريح كثير من الأئمة بأن خط المصحف توقيفي
وأنه لا يجوز التصرف فيه يؤيد ما ذهبنا إليه.
ولقائل أن يقول: إن في هذا الرأي تضييقًا على نشر القرآن وتوسيع دائرة
الدعوة إلى الإسلام، وإننا نرى النصارى قد ترجموا أناجيلهم إلى كل لغة. وكتبوها
بكل قلم، حتى إنهم ترجموا بعضها بلغة البرابرة. فما بال المسلمين يضيقون
وغيرهم يتوسعون؟ ولنا أن نقول في الجواب: إننا جوَّزنا ترجمة القرآن لأجل
الدعوة عند الحاجة إلى ذلك ولا شك أن الترجمة تكتب باللغة التي هي بها؛ ولكن
المسلم الذي يقرأ القرآن بالعربية لا يحتاج إلى كتابته بحروف أعجمية إلا في حالة
واحدة وهي تسهيل تعليم العربية على أهل اللسان الأعجمي الذين يدخلون في
الإسلام وهم قارئون كاتبون بحروف ليست من جنس الحروف العربية.
وإذا وجد للإسلام دعاة يعملون بجد ونظام كالدعاة من النصارى فلهم أن يعملوا
بقواعد الضرورات ككونها تبيح المحظورات وكونها تتقدر بقدرها. فإذا رأوا أنه لا
ذريعة إلى نشر القرآن واللغة العربية إلا بكتابة الكلام العربي بحروف لغة القوم
الذين يدعونهم إلى الإسلام ويدخلونهم فيه فليكتبوه به ماداموا في حاجة إليه ثم
ليجتهدوا في تعليم من يحسن إسلامهم الخط العربي بعد ذلك ليقووا رابطتهم بسائر
المسلمين.
وكما يعتبر هذا القائل بترجمة القوم لكتبهم فليعتبر بحرص الأمم الحية منهم
على لغاتهم وخطوطهم. اللغة الإنكليزية أكثر اللغات شذوذًا في كلمها وخطها ونرى
أهلها يحاولون أن يجعلوها لغة جميع العالمين وهم يبذلون في ذلك العناية العظيمة
والأمور الكثيرة فما لنا لا نعتبر بهذا؟ !
وفي جواب الشيخ محمد بخيت مباحث ليس من غرضنا الإحفاء فيها، ونكتفي
بأن نقول إن ما يصح أن ينظر فيه من نقوله هو ما ذكره عن السلف، فأثر سلمان إن
أريد به أنه كتب لهم ترجمة الفاتحة بلغة الفرس فكيف يكون ذلك وسيلة للين ألسنتهم،
وهم لم يقرءوا إلا بلغتهم؟ ! وإن أريد به أنه كتبها بالخط الفارسي فالخط الفارسي
قريب من العربي ولا دخل له أيضًا بلين الألسنة، والصواب أن الأثر غير صحيح.
وأما الحسن البصري الذي ذكره فما هو الحسن التابعي المشهور وكأنه أحد
الفرس الحنفية، ولا حجة في قوله فكيف يحتج بعمله؟ على أن فيه ما في الذي قبله
وهو أن القراءة بالفارسية لا يلين بها اللسان للعربية إلا أن يقال: كان يقرأ الترجمة
حتى تمرن لسانه على العربية باستعمالها وممارسة الكلام فيها.