(جاءتنا هذه الرسالة الممتعة من جماعة شبان المغرب في باريس وكان قد تم تحرير هذا الجزء من المنار وجمع حروفه فأخرنا طبع آخره وتصديره ونشرناها فيه لجمعها للحقائق في المسألة التي نحن بصددها، ولا سيما بيان هؤلاء الشبان لمطالب مسلمي المغرب من حكومة بلادهم التي لا يرضون بدونها. وهذا نصها) : استغربنا ما كتبته جريدة (الأهرام) في أحد أعدادها من تكذيبها ما تسعى إليه فرنسة من هدم الديانة الإسلامية في المغرب الأقصى. وحجة الأهرام في ذلك أن علماء المغرب الأقصى أكبر علماء الإسلام، ولا ندري أتريد بذلك تهكمًا مقصودًا؟ أم هي تنطق بلسان الحق؟ ثم حجتها الأخرى هي كون فرنسة الدولة اللادينية الوحيدة في أوربة، كأنها تجهل كلمة غامبتا: (إن اللادينية بِضاعة لا تصدر إلى خارج فرنسة) . وكأنه غاب عن الأهرام أن فرنسة سمحت منذ ثلاثة أشهر للمؤتمر الأفخارستي الذي ينظر في مسائل التبشير بأن يعقد في تونس، واشتركت في المؤتمر رسميًّا يمثلها مندوبها السامي في تونس الذي حضر في جلسات ذلك المؤتمر، ومنحت مليونين من أموال المسلمين لأعضائه، وسمحت لأبناء المدارس الفرنسيين في تونس أن يتجولوا في الشوارع مُرْتدين لباس الصليبيين الذين أتوا فيما مضى لفتح تونس مع القديس لويس! ! فهل تستطيع الأهرام أن تصف فرنسة بأنها (لا دينية) ؟ ! [١] . أما قضية المغرب الكبرى التي تقيم اليوم العالم الإسلامي وتقعده - نعني القضية البربرية - فهي ليست بنت اليوم، بل خاض فيها من قبل كثير من الساسة والكتاب الفرنسيين، بل الموظفين في الحكومة المغربية، نخص بالذكر منهم لوجلي في كتابه (فرنسا وتعليم البربر) ومارتجافي في كتابه (مغرب البربر) وسيكار في كتابه (الإسلام في الممتلكات الفرنسية) وأزار في مقالاته العديدة، وسوردون في كتبه عن (عوائد البربر) ولويس برينو في أبحاثه عن (مسألة التعليم في المغرب) ونزيد عليهم عضو الأكاديمية الفرنسية الكبرى لويس برطران في كثير من كتبه وعلى رأسها كتابه (أمام الإسلام) الذي نال فيه من كرامة مصر وسب فيه إخواننا المصريين سبًّا بذيئًا. اتفق رأي هؤلاء كلهم - ووراءهم جيش عظيم من القسيسين والمبشرين - على أن إسلام البربر المغاربة إنما هو إسلام سطحي، وأنه لا سلطة له على أرواحهم، وأنهم أعداء ألداء للعرب والشريعة الإسلامية، وأن ذكريات النصرانية لا تزال حية في نفوسهم، وأنهم لا يزالون يذكرون الحكم الروماني وسيادة القياصرة، وأن عصيان البربر في العصر الأخير لملوك المغرب ليس له من سبب إلا تخوُّفهم من سلطة الشريعة الإسلامية. ولا يخفى ما في هذه النظرية السيئة السريرة من كذب وبهتان وتحامل بعثته أهواء دينية تتعصب للمسيحية تعصبًا شنيعًا. كأن أصحابها يرون أن تاريخ المغرب ينحصر في ولاية السلطان عبد العزيز والسلطان عبد الحفيظ، التي كانت مضطربة أشد الاضطراب [٢] . وينسون أو يتناسون أيام المغرب الزاهرة تحت دول البربر، كالمرابطين والموحدين. فهاتان الدولتان العظيمتان لم تكتفيا بتعضيد الإسلام ونشر شريعته في المغرب فقط، بل ذهبتا لنشره وتعضيده في إسبانية والسنغال وإفريقية الشمالية كلها، ويتناسون أيضًا أن الدولة المرينية هي التي شيدت أجمل مدارس العلم وأفخمها في فاس ومكناس ومراكش وغيرها، وكذلك القصور البديعة التي يندهش السياح أمامها اليوم، فلماذا لم تقضِ هذه الدول البربرية - بما كان لها من السلطة والحرية - على الشريعة الإسلامية إذا كان البربر يبغضونها ويخشون سلطتها؟ . بل إن أولئك الفرنسيين المتبعين للهوى المتعبدين للغرض تناسوا ولاية المولى إسماعيل إذ كان المغرب موحدًا توحيدًا تامًّا، وتناسوا ولاية المولى الحسن على قرب عهد الناس بها، ولكن هي الأغراض تعمي وتصم، ولو أردنا أن نقيم الأدلة التاريخية على إسلام البربر وإخلاصهم للشريعة المحمدية لما وسعها المقام في هذا الرد الموجز. وقد اقترح أصحاب هذه النظرية الموظفون في الحكومة المغربية عدة اقتراحات عملية - بناءً على نظريتهم الفاسدة - من شأنها أن تبعد البربر من العرب والإسلام، وتبعثهم على الإخلاص لفرنسة والاندماج فيها وترجعهم إلى المسيحية (دين أجدادهم قبل الإسلام! !) [٣] وهنا نلخص مقترحاتهم فيما يلي: (١) يجب على فرنسة أن تبعد العربي عن البربري ما أمكن. (٢) يجب أن تُفتح مدارس فرنسية بربرية يحظر فيها تعليم الإسلام والعربية. (٣) تُغلق الكتاتيب القرآنية في القبائل البربرية وتُعرقل على رؤساء الطرق الصوفية والوعاظ المسلمين وسائل الوصول إلى هذه القبائل. (٤) تشجيع التبشير في القبائل ومنح إعانات مهمة للجمعيات التبشيرية والسعي في تسهيل أعمالها. وآخر ما وصل إليه تفكير هؤلاء المقترحين اقتراح تأسيس محاكم عرفية لا يحكم فيها قضاة الإسلام ولا تطبق فيها الشريعة الإسلامية وإنما تعتمد على عادات تكونت عند البربر مدة ثورتهم على السلطان وخروجهم عن أحكامه، مع قوانين فرنسية أحدثت في المغرب لمصلحة الاستعمار، ولهذا تتكون إدارة تسمى (إدارة العدلية البربرية) تقابل (وزارة الحقانية الإسلامية) وبهذا تستطيع فرنسة أن تبعد الإسلام من قبائل البربر الإبعاد الأخير. ماذا كان موقف الحكومة الفرنسية إزاء هذه المقترحات؟ ! الواقع أنها في أول الأمر لم يكن لها موقف واضح، بل إن المارشال ليوطي - المقيم العام سابقًا - كان يحبذ في كثير من الأحيان تعريب البربر، ثم جاء بعده (ستيغ) فاستغوته النظرية البربرية ففتح مدارس فرنسية بربرية يتعلم فيها البربر كل شيء - كما قال (لوجلي) - إلا اللغة العربية والإسلام، وصارت لغة البربر تُكتب فيها بالحروف اللاتينية بعد ما كانت تكتب بالحروف العربية، ومن المعلوم أن المسيو (ستيغ) بروتستنتي متعصب لمذهبه، فأجاب طلبات المبشرين البروتستانتيين، واضطر أن يعين معهم الجمعيات الكاثوليكية، ودخل بهذا العمل برنامج البربر في طور التنفيذ، وصار المراقبون الفرنسيون في القبائل البربرية يمنعون تأسيس المساجد، ويعينون على إقامة الكنائس في عقر تلك القبائل التي لا يوجد فيها مسيحي واحد، ومنع فعلاً تجول رؤساء الطرق الصوفية في تلك النواحي، وأبعد منها أصحاب الكتاتيب القرآنية، وجُعلت للعرب - سكان المدن وبعض القبائل - جوازات خاصة لا يتمكنون من السفر إلى القبائل البربرية إلا بعد الحصول عليها بعد جهد جهيد ومشقة عظيمة، وظلت حكومة فرنسة جادة في عملها وتنفيذ خطتها ضد الإسلام مجردة من كل عاطفة سامية أو شعور شريف. وكان المغاربة يعلمون نيتها ويلاحظون أعمالها متألمين من ذلك أشد الألم، غير أن عقلاءهم مطمئنون لاعتقادهم أن البربر سيظلون معتصمين بدينهم، وأن علاقاتهم بإخوانهم العرب لا يمكن انفصامها، بل ستجعلهم يستعربون حتمًا؛ لأن البربري لا يرى في العربي عدوًّا مبينًا - كما يدعي الفرنسيون - بل يرى فيه أخًا مخلصًا في الوطنية والدين. يعيش كما يعيش ويفكر كما يفكر. ويُضطهد كما يضطهد. ويشتركان في عداوة عدو واحد. وهؤلاء العقلاء لا يسلِّمون أن فرنسة ستعزل البربر بنوع من العزل بل يرون أن البرابرة لا يمكنهم الإخلاص لفرنسة ما دامت لا بد من أن تفقرهم وتجردهم من كل ما يملكونه من ثروة وأرض ومال، وأن تعاملهم بأشد أنواع القساوة والطغيان. عندما رأت الحكومة الفرنسية أنها أمكنها تنفيذ الفكرة السابقة بدون أن تلقى معارضة قوية من المغاربة ظنت أن الوقت مناسب لتنفيذ آخر اقتراح وصل إليه المشتغلون بالقضية البربرية من الفرنسيين ليكون (مسك الختام) في هذه القضية، فأعلنت باسم السلطان المعظم أمرًا عاليًا (ظهير شريف) يقال إنه وُقع بطرق غير مشروعة، يقضي منطوقًا ومفهومًا بعزل البربر - أكثرية البلاد الساحقة - عن بقية إخوانهم المسلمين، وتجريدهم رسميًّا من شريعة القرآن. وبذلك يهدم في هذه البلاد أعظم شطر من الإسلام وهو الشطر التشريعي الاجتماعي على حين يكفل سعي المبشرين هدم الشطر الآخر (وهو الروحي الاعتقادي) ولا يخفى ما في هذا (الظهير) من العدوان على الشعب المغربي المسلم، والمس بسيادة السلطان التي تحميها العهود الدولية، وعهد الحماية الذي عقده المولى عبد الحفيظ بنفسه، وأصدرت الإقامة العامة (دار المندوب السامي) بهذه المناسبة قرارًا للصحف الاستعمارية في المغرب تهنئ فيه نفسها بهذا النجاح العظيم ووصولها إلى إنقاذ البربر من قانون الإسلام! هياج المغاربة على فرنسة لأجل البربر ومقاومتهم بالقوة شاع هذا الخبر السيئ في طول البلاد وعرضها وعم الاستياء في جميع نواحي المغرب، لا فرق بين المدن والقبائل، أما في المدن فأخذ الناس يتجمهرون في المساجد يتلون صيغة مخصوصة يرددونها جماعات بأصوات مرتفعة: أنهم لا يرضون أبدًا (أن يفرق بينهم وبين إخوانهم البربر) واتخذ الناس من أوقات صلاة الجماعة فرصة للقيام بإعلان الاحتجاج والسخط العظيم ضد مشروع التمسيح (التنصير) الفرنسي الذي يريد أن يكتسح الإسلام من قلوب المغاربة المسلمين [٤] فأمر ولاة الأمور الفرنسيون أن تُقفل تلك المساجد التي {أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (النور: ٣٦) وفعلاً أقفلت في مراكش وألقي القبض على ثلاثين شخصًا في مدينة الدار البيضاء وزجوا في السجون، وعزل مؤذن وإمام مسجد في مدينة تطوان لسماحهما للمسلمين بالاجتماع في المسجد وقراءة صيغة الاحتجاج. والحركة في الرباط وفاس وسلا كانت أقوى وأهم، فقد وقع اجتماع كبير احتشد فيه ما ينيف على ٧٠٠٠ شخص وألقيت فيه خطب تبين خطر الموقف الحاضر، ولم يمض وقت يسير حتى زجّ من كان يخطب في السجن مع المجرمين. ووقع في فاس أعظم اجتماع من أجل هذه القضية، انعقد في كلية القرويين (الجامعة الإسلامية الوحيدة في المغرب) وخطب في ذلك الجمع الحاشد خطيب بيّن المصيبة الكبرى ونتائجها الوخيمة على مستقبل الإسلام. وبعد ذلك خرجت تلك الجموع متجمهرة تتضرع إلى الله تعالى وتوجهت إلى المشهد الإدريسي ضريح مولاي إدريس، حيث ألقيت الخطب الحماسية على الشعب وتليت آي الذكر الحكيم، ومن هنالك خرج الجمهور متوجهًا لبيت شيخ الإسلام يطلب رأيه وموقفه في هذه المسألة الكبرى. وكانوا في طريقهم يرفعون أصواتهم هاتفين: (تحيا شريعة الإسلام تحت راية الإمام) وعندما وصلوا إلى دار الشيخ رجعوا متوجهين إلى بيت حاكم المدينة (باشا فاس) وبلغهم وهم في الطريق أن أحد الخطباء ألقي القبض عليه، ولما انتهوا إلى بيت هذا الحاكم ومحكمته أمرهم أن يعينوا من بينهم وفدًا خاصًّا يتقدم إليه، وأمر المتظاهرين أن يتفرقوا فأبوا، فأمر عساكره أن يستعملوا العصي في تفريقهم، وأما الوفد فقد قابله الحاكم بالسب والإهانة، وأمر بجلد أفراده مئات من الأسواط، وكل ذلك بمحضر المندوب الفرنسي في المحكمة وبأمره الخاص، مع أن أعضاء هذا الوفد كلهم من الأشراف والأعيان والتجار والمفكرين. ثم أمر بإلقاء القبض على آخرين حتى بلغ عدد المقبوض عليهم ما فوق الخمسين ودون المائة، ألقوا جميعهم في غيابات السجون، وكان هذا التصرف المرهق من أهم الأسباب لاشتداد الحركة وارتفاع مقياس الحرارة، وصار الناس يعلنون أن السلطان - الذي باسمه صدر هذا الأمر - قد خالف شروط البيعة التي كان على رأسها: (احترام الكتاب والسنة ومناصرة الإسلام) وأصبح مسؤولاً عن هذه المخالفة (وقالوا) إن البيعة التي قُدمت للسلطان هي باسم الشعب المغربي كله لا فرق بين العرب والبربر، فمن الواجب على السلطان إذن أن يطبق شريعة الإسلام في القبائل البربرية كما يجب أن يطبقها على الآخرين ولو بالجبر ما داموا يعترفون بالإسلام دينًا، على أن البربر يطالبون أن يحكم بينهم بالشريعة الإسلامية دون غيرها، ولم يعلنوا في يوم من الأيام نفورهم من أحكام الإسلام. وقد أثارت هذه الحادثة في نفوس المغاربة ذكرى مصيبة الأندلس، فإن عدو الإسلام عندما دخل غرناطة تعهد أن يحترم الإسلام والمسلمين، ولما استقر له الأمر كان أول ما قام به هو القضاء على الإسلام. وأصبحوا يحدثون أنفسهم بأنه إذا كانت أغلبية سكان المغاربة من البربر الذين يراد إجبارهم على مفارقة إخوانهم المسلمين فسيصبح العرب أقلية ضئيلة في هذه البلاد، ولا يبعد أن تجبرهم فرنسة يومًا ما على اتباع هذه القوانين التي وضعتها للبربر، والتي تجبر المغاربة جميعًا على قبولها اليوم. مخاطبة الوفود للسلطان في مسألة البربر وأما جلالة السلطان فقد كان مصطافًا في فرنسة عندما كانت هذه الحوادث الكبرى تمثل في المغرب، وكان للبلاد أمل عظيم في أوبته، وبمجرد قدومه أعدت وفود عظيمة فيها أكابر العلماء والأشراف والأعيان تألفت في فاس والرباط وسلا، واتفقت جميع الوفود على مطالب واحدة تقدم باسم (الشعب المغربي المسلم) وكل مادة منها هي سعي إلى استرجاع حقوق ضيعها على المغاربة ولاة فرنسة في المغرب، وقد كان على رأس الوفد الفاسي أحد علماء المغرب المشاهير وأحد كبار الهيئة العلمية في كلية القرويين الشريف السيد عبد الرحمن بن القرشي وزير الحقانية سابقًا. وعندما تشرف بمقابلة جلالة السلطان خطب خطبة ضافية بصفته رئيسًا للوفد، وبيَّن فيها ما كان للبربر من سوابق عظيمة في إعلاء كلمة الإسلام، والتضحية في سبيل إعزازه، وبين أن الحكم بينهم كان بالشريعة الإسلامية في كل أدوار التاريخ، مستندًا في ذلك إلى حجج تاريخية مقنعة. فأجابه جلالة السلطان: (إنه سيتأمل في الأمر وينظر في المسألة) وبمجرد ما شاع هذا الرد ورجع الوفد إلى فاس من غير نتيجة معينة - هاج الشعب هيجانًا عظيمًا، وأقفلت الأسواق، ووقعت مظاهرات كبرى، واصطدم البوليس مع الجمهور، وسقط كثير في الطرقات والشوارع. وعلى إثر ذلك ألقي القبض على رئيس الوفد (ابن القرشي) وزير الحقانية فيما قيل. وعلى رئيس الغرفة التجارية (ابن عبد السلام الحلو) أحد أعضاء الوفد الكبار، وظلت الحكومة تقبض وتسجن إلى أن بلغ عدد المسجونين بهذه المناسبة نحو مائة وخمسين شخصًا، كلهم من خاصة الأمة وأعيانها. وبعد أن أودعتهم في سجن فاس رأت أنهم يستحقون أن يكونوا في سجن آخر فيه من أنواع العذاب ما ليس في سجن فاس! فنقلتهم إلى سجن تازة العسكري وحكمت عليهم بالسجن إلى أجل غير مسمى. وقد أشارت حتى الجرائد الفرنسية في باريس إلى هذه الحادثة الأخيرة وذكرت بعض أسماء المسجونين. هياج البربر وإعلانهم الاعتصام بالإسلام أما القبائل البربرية نفسها فلا تسأل عما قامت به من الهيجان العظيم، بل قد أقامت المناحات في كل جهة إظهارًا لاستيائها العظيم مما يراد بها، وتجمعت قبائل كثيرة حول المحاكم التي أقامتها فرنسة هناك وأعلنت للولاة الفرنسيين أنها على الإسلام تحيا وعليه تموت، ولم تكتفِ بذلك بل أرسلت وفودًا إلى جلالة السلطان تطالبه بإرسال القضاة الشرعيين وإقامة محاكم شرعية إسلامية على أساس متين، وبينما جلالته يعدهم بإرسال القضاة الشرعيين إذا بولاة فرنسة يسجنون جميع الأفراد التي جاءت موفدة، ولا يكتفون بذلك بل يجبرون المديرين لتلك القبائل من المسلمين (العمال) على توقيع رسائل مضمومها شكر فرنسة والامتنان لها من هذا العمل المجيد، ونحن نعرف أفرادًا من هؤلاء امتنعوا من التوقيع على مثل هذه الرسائل فكان عقابهم أن يسجنوا في بيوت الأدب (الكنف) وأن تسلَّط الأيدي الفرنسية على وجوههم بالضرب واللطم حتى دميت تلك الوجوه. وهنا نجد الفرصة سانحة لعرض مطالب الشعب المغربي التي قدمتها وفود البلاد بصيغة واحدة وهي وحدها كافية في إطلاع إخواننا من أبنا الشرق على مظالم فرنسة وعدوانها على الإسلام في المغرب، ففي كل مطلب احتجاج صارخ على عمل قامت به فرنسة ضد ذلك المطلب، ولا يعقل أن يتجه شعب كامل إلى مطالب بعينها وهو حاصل عليها، وإنما يطلب ما كان مفقودًا ولا نتيجة رغبة شعب بأسره إلى هذه الناحية بخصوصها إلا بعد ما رأى أن كيانه ضائع، وأن حياته آيلة إلى الفناء وهي هذه: مطالب الشعب المغربي المسلم ١- احترام نفوذ جلالة السلطان بالإيالة الشريفة وتثبيت سلطته الدينية والدنيوية، وذلك بجعْل سائر الولاة المخزنيين (ولاة الدولة) من قضاة وقواد وباشاوات ومحتسبين ونظار وأمناء الأملاك مسئولين أمام الحكومة الشريفة (لا أمام غيرها من الموظفين الأجانب) . ٢- إصدار ظهير شريف بجعل سكان سائر الحواضر والبوادي خاضعين لحكم الشريعة الإسلامية. ٣- تنظيم المحاكم الشريفية وإصلاحها وتولية الأَكْفَاء فيها، سواء محاكم القضاة أو محاكم الباشاوات والقواد والمحتسبين وتعميمها في سائر القطر المغربي لا فرق في ذلك بين حواضره وبواديه. ٤- توحيد برامج التعليم في جميع المدارس والتي تؤسس لتعليم الوطنيين في المدن أو في القبائل، وتعميم اللغة العربية التي هي لغة القرآن، وتعميم التعليم الديني الإسلامي في كل هذه المدارس. ٥- احترام اللغة العربية - لغة البلاد الدينية والرسمية - في جميع الإدارات بالإيالة الشريفة، وكذلك في سائر المحاكم وعدم إعطاء أي لهجة من اللهجات البربرية أي صبغة رسمية، ومن ذلك عدم كتابتها بالحروف اللاتينية. ٦- إيقاف حركة المبشرين على اختلاف جنسياتهم ومذاهبهم، ومنعهم من التجول في القبائل والحضور في أسواقها ومواسمها، وعدم السماح لهم بنشر أي شيء يمس كرامة الإسلام وكرامة النبي صلى الله عليه وسلم بأي نوع من أنواع النشر. ٧- عدم منح أي إعانة من ميزانية الدولة الشريفية أو إعطاء أي ملك من أملاك المخزن الشريف للجمعيات التبشيرية، وللساعين في تشييد الكنائس وأندية التبشير في أطراف البلاد المغربية. ٨- عدم السماح للمبشرين بإحداث ملاجئ للأيتام وللقطاء المسلمين وإحداث مدارس صناعية وعلمية (كما يسمونها) للبنين والبنات، والإنفاق على ذلك من المال المعد للمصالح العامة من أموال جماعة المسلمين (كما هو مقرر في الشريعة الإسلامية) أما ما سبق تأسيسه من هذا النوع فإما أن تقوم به الحكومة الشريفية وإما أن يُقفل، وعلى كل حال لا ينبغي أن يبقى تحت نفوذ المبشرين. ٩- لا يعيَّن الرهبان والمبشرون مدرسين في مدارس الحكومة الشريفية أو قائمين بإدارتها. ١٠- عدم التعرض لفقهاء المكاتب والمشارطين لتعليم (اللغة العربية والقرآن الكريم بالقبائل) وإعطاء الحرية للوعاظ والعلماء وشيوخ الطرق الصوفية للتجول في الأنحاء المغربية بقصد تعليم الناس أحكام دينهم وحثهم على شعائره. ١١- إسقاط جوازات التنقل بداخل الإيالة المغربية (وخصوصًا فيما بين المدن والقبائل البربرية) والاكتفاء بورقة التعريف الشخصية حتى لا يظل الحضري بعيدًا عن أخيه البدوي، ويتعذر بذلك التفقه في الدين. ١٢- اعتبار جميع السكان الموجودين بالبلاد المغربية - ما عدا الأجانب - تحت رعاية مولانا السلطان وسلطته، خاضعين للمحاكم الشرعية والمخزنية التي تؤسس باسمه الشريف، وكذلك اعتبار جميع المغاربة مسلمين، ما عدا يهود المغرب؛ بمعنى أنه لا توجد ملة ثالثة معترف بها للمغاربة الوطنيين. ١٣- منح العفو العام عن جميع المسجونين والمنفيين في هذه القضية البربرية وعدم التعرض بسوء لكل من خاض فيها. وبعد: فهذه هي مطالب الشعب المغربي التي يتعذب من أجلها عدد كبير من عظمائه وشيوخه وشبانه في غيابات السجون. وهذا هو الملخص البسيط الذي نقدمه لإخواننا الشرقيين عن حركة المغرب الكبرى التي تثير شعور العالم الإسلامي أجمع، وعلى رأسه الأمة المصرية الكريمة، وجامعة الأزهر الشريف معقل الإسلام وحصنه الحصين، والجمعيات الإسلامية المخلصة في مصر. فهل لمفوضية فرنسة في مصر أن تكذب هذه الحوادث التي ذكرناها تكذيبًا صريحًا؟ ! وهل لها أن تقول: إن فرنسة لا تأخذ من مالية المسلمين المغاربة ومن أحباسهم (أوقافهم) الإسلامية إعانة مهمة للجمعيات التبشيرية التي تنشرها في كل أنحاء المغرب؟ وهل تستطيع أن تنفي أنَّ عددًا من المراقبين الفرنسيين على رأسهم المراقب المدني في قبيلة زمور منع البربر من بناء مسجدهم الإسلامي وأعان المبشرين على إقامة الكنيسة هنالك بدل المسجد؟ وهل لها أن تكذِّب أن هذا المراقب نفسه ومراقب قبيلة بني نطير (إحدى القبائل البربرية) خطبا في دائرتي نفوذهما قائلين: (إن العرب إنما هم غزاة غرباء، وإن فرنسة إنما أتت للمغرب رغبة في إنقاذ الشعب البربري من العرب وشريعتهم وسلطتهم؟) وهل لها أن تقول: إنه لا يوجد في القبائل البربرية مدارس فرنسية تجبر البرابرة على تسليم أولادهم إليها جبرًا وهي خالية من الإسلام ومن العربية؛ بل فيها تبغيض الإسلام للبربر والتنفير من العرب؟ فما قول جريدة الأهرام المحترمة ومِن ورائها مفوضية فرنسة؟ هل تقول بعد هذا: إن ما يُنسب إلى فرنسة لا يمكن يعتقده إلا البسطاء السذج؛ في معرض ردّها على جمعية الشبان المسلمين التي تعرف الحقيقة وتساعد على نشرها لا تبغي من وراء ذلك جزاءً ولا شكورًا؟ اللهم إن الحقائق واضحة لا يمكن أن ينكرها إلا مَن في قلبه مرض، أو في صدره غرض. وأخيرًا نتقدم باسم الشعب المغربي إلى الأمة المصرية الكريمة وعلى رأسها رجال الأزهر الشريف والمشتغلون بمسائل التدين والإسلام وقادة التفكير في مصر شاكرين مغتبطين على مشاركتنا الفعلية لنا في أحزاننا واحتجاجاتنا ضد الحكومة الفرنسية العاتية. ونود أن يظل الرأي العام المصري واقفًا على الحقيقة الواقعة في المغرب اليوم، وأن يناصر الأمة المغربية المسكينة في موقفها الجدي ضد فرنسة التي اعتدت على دينها ووحدتها، كما اعتدت على جميع حرياتها، فليس هنالك أكذب من ظالم ولا أصدق من مظلوم. ونتقدم إلى إخواننا من أبناء الشرق الإسلامي وأممه راجين منهم أن يعينونا على نشر هذه الحقائق بين أممهم وأن يساعدونا على رفع احتجاجاتنا الصارخة إلى العالم شرقيه وغربيه وأن يناصرونا ضد طغيان فرنسة، ويعرفوا جميع الشرقيين بالموقف الحاضر في المغرب الأقصى. ولنا أقوى الأمل في إجاباتهم هذا الرجاء الصادر من أعماق قلوب شعب مظلوم، وقيامهم بالواجب معنا جنبًا لجنب. وحسبنا الله ونعم الوكيل. ... ... ... ... ... ... ... ... الطلبة المغاربة بباريس