كلمة صدق أقولها، وإن كنت أعلم أن الصدق قد صار تقريعًا والنصح والإخلاص تضييعًا. إن جل شباننا (وأخص من يدعي التنبه منهم) تائهون في فيافي الغرور، زائغون عن محجة السداد، لا يعرفون هريرًا من غرير، ولا قبيلاً من دبير، إن بحثوا فبغير رابطة تربط عروة بحثهم، ولا ثبات على فكر يؤيد حجتهم، وإن سكتوا فبغير نتيجة ولا وصول إلى حقيقة، وإن انتقدوا فمن وراء حجاب، وإن استصوبوا فبغير اهتداء إلى الصواب. بينما ترى المتمدن منهم يطنب في فوائد العلم العصري ومزاياه وذم كل شيء سواه، إذ تراه خاض بذم ما مدحه، ومدح ما ذمه من غير أن يشعر، وإن ادعى أنه شاعر، فلا نكاد نعرفه هل هو عدد للعلم ما له هم ولا سلام، أم حليف له يدافع عنه بالسيف والقلم، وفي الحقيقة هو لا في العير ولا في النفير، وهذه على ما أرى من النقط الموعرة التي وقفنا بها وتعذر علينا قطع مجاهلها ومفاوزها، والسير في جدد التقدم والنجاح، والتدرج في معراج الترقي والفلاح. وما تلك إلا نتيجة الجهل وعدم دراسة العلم الصحيح وسوء التربية الحقة، وإن شئت التفصيل فقل: هو نتيجة حب الأثرة ممن لا نسميهم ... ، وعدم الاعتناء بتعميم العلوم وتسهيلها للعموم والاكتفاء بشقشقة اللسان، ولوك الألفاظ المصنعة الموهمة بالعلم، والانكباب على حب الترقي الشخصي مع الجهل والرغبة في التنافس والتحاسد، والمزاحمة بالمناكب في المراتب، والافتخار بما يوجب العار، والعار بما يوجب الافتخار، والادعاء ولو بغير حق، وغمط الحقوق، وعدم الاعتراف بالجميل، والذهاب مع ... وعدم الانقياد لمن يصدع بالحق، وتفرق الكلمة وتشتت الآراء، والاكتفاء من العلوم العصرية باللباس الفاخر والفرش الباهر، والتحلي بالأحجار الثمينة التي لو قومت كلها لبلغت ما استهلكته من الدراهم مبلغًا يقوم بفتح المصانع العمومية والمدارس العلمية، من طبية وصناعية وزراعية وتجارية ونحو ذلك. فإن افتخارنا معشر الشرقيين بآثار أسلافنا لا يجدينا نفعًا ما دمنا لا نرى شيئًا من حاجياتنا - فضلاً عن كمالياتنا - إلا وهو من صنع الأغيار الذين استنزفوا منا البصائر والأبصار، فضلا عن الدرهم والدينار، ومع ذلك لم يزل أكثرنا مكتفيًا بقوله: إن التمدن الغربي استمد من التمدن الشرقي، نعم إن هذه الحقيقة لا ينكرها الغربي، فضلاً عن الشرقي، لكن يا ترى هل يفيدنا مجرد معرفتها إن لم تكن آثارها ظاهرة علينا، وهل يا ترى لو كانت معنا جوهرة ثمينة وسلبها الغير منا واستفاد وأفاد غيره، وعجزنا نحن عن الاستفادة منها - فضلاً عن استردادها - فأي فخر يبقى لنا، بل أي عار يبقى علينا، فليجبني المفتخر بعظام أجداده من الشرقيين بشرط إنصاف الضمير، وصفاء الفكر عن شوائب التحيز لأضوائه، ومزالق الاستبداد بمنشوراته، بعد أن يعلم أن الفخر بالهمم العالية لا بالرمم البالية. ورب منصف حلب الدهر أشطره وسبر حلوه مره أسمعه في عالم الخيال يقول: لقد أصبت وصمصام الحق كبد الحقيقة، وسلكت من صراط الصدق أقوم طريقة، وشخصت المرض العضال الذي أصاب جسم أكثر الشرقيين وتركهم يتخبطون كالذي تتخبطه من المس الشياطين، ولكن أين من يسمع، أين من يعي، أين من يتفكر؟ وكل يدعي وصلاً بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا بل كل يغني على ليلاه، والعارف معهم يقول: وا ويلاه، خشب مسندة، لا تجر بالآلات الميكانيكية التي تجر الأثقال، وقلوب موصدة، لا تنفذ فيها أشعة رانتجن التي تخرق الجبال، وعقول عقم لا تعرف نتيجة الاختراع، وألسن بكم، لا تعرف من الإفصاح إلا وصف المقرطق أو ذات القناع، وآذان صم لا تسمع بالتليفون الذي يسمع الصم الجماد، وعيون عمي لا تنظر بالمكبرات (المكروسكوبية) التي تقرب الأبعاد، بل لا تنظر بنور الكهرباء التي هي كالقمر، ولا بالغاز الذي هو كالزهر أو الزهر، حتى ولا بشمس النهار هي التي تُستمَد منها الأنوار، بل ولا بنور الذي خرق طبقات الأرض، بل اخترق ما فوقنا من الطباق، فأرانا سير الكواكب في الأفلاك، والبرق في الآفاق، وتموج صدى الإنسان تحت الماء، حيث تنقله الأسلاك، وتسمع صريره الأسماك، إنك لا تجني من الشوك العنب، كما لا تستنشق رائحة العود من الحطب. مَساوٍ لو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق هذه آيات القرآن العظيم، هذه أحاديث الرسول الكريم، هذه الكتب المقدسة كالتوراة والإنجيل، كل ما ذكر يأمر بجلب الخير لبني الإنسان، وتحصيل العلم ولو بالصين، بل أينما كان، والتقاط الحكمة حيثما وجدت. هذه جرائدنا تنادي بالنصح على رءوس الأشهاد على حد قول القائل: أنادي فلا ألقى مجيبًا سوى الصدى ... فأحسب أن الحي ليس بآهل منها ما هو له ربع قرن ونحو ذلك (كالثمرات والأهرام) ، ومنها ما هو له أقل من ذلك (كالمؤيد) ومنها ما هو ابن سنته لكنه يعد في مصاف الكهول (كالمنار) ومنها ومنها إلخ، فأين الذي جنى ما أثمرته (الثمرات) وأين الشعب الذي أيد استقلاله بإرشادات (المؤيد والأهرام) وأين الأمة التي استنارت من (المنار) وأين وأين إلخ ... ، فأقول له مجيبًا: مهلاً مهلاً أيها المنتصر للحق والحقيقة، فلعلنا نجد للإقناع بالحسنى طريقة، فإن الحقيقة بنت البحث، ولا تتولد إلا بازدواج در الأفكار، وتصادم زند البصيرة، حتى يندلع منها لسان الحق بساط الأنوار، وقد يركب الصعب من لا ذلول له، ويستصحب الإنسان من لا يلائمه. إذا لم يكن إلا الأسنة مركبًا ... فما حيلة المضطر إلا ركوبها والاعتدال في الكلام أوقع في النفوس من وقع السهام، وليس من العدل سرعة العذل (لعل لهم عذرا وأنت تلوم) فإن الغربى دخل بيننا أيها الشرقي باللطف والملاينة، فنال منا ما أراد، أفلا يجدر بنا ونحن من وطن واحد وعنصر واحد المجاملة بقيام الحجة حتى نصل إلى المحجة. من المعلوم أن الغير بلغ من التقدم شأوًا بعيدًا ليس بعده شأو لراكب ولا مجال لطالب، بل لا أبالغ إذا قلت: زاحم الكواكب بالمناكب (شأن أسلافنا الأندلسيين والمصريين وسواهم) وهو مع ذلك لم يخرج عن الطور البشري، ولا تنزلنا عنه، غير أن تقاعسنا عن تحصيل العلوم وإهمال الآباء عن تعليم الأبناء، وعدم اتحاد قلوبنا على نجاحنا ونجاح بلادنا هو الذي أخرنا وثبط همم رجالنا وشبابنا، فإن أحدًا منا لو جاء بنصيحة أو قام بمشروع يفيد البلاد ويستفيد هو منه بالطبع، لعكر عليه آحاد بل عشرات بل مئات بل ألوف وأفسدوا عمله وقاموا ضده وظنوا فيه الظنون، غير ناظرين إلى نصيحته أو مشروعه، بل إلى شخصه، وهو عين الغفلة عن حقوق الأشخاص نحو البلاد، والعبث بمصالحهم ومصالحها، وهو الداء القتال الذي فتك فينا وفي بلادنا فتكًا ذريعًا، وما علينا إلا أن نتداركه قبل أن يزمن ويتعذر علينا علاجه بأن نكون يدًا واحدة على نفع البلاد، وجلب كل ما يعود بالخير عليها وعلى متوطنيها أيًا كانوا، مقتفين بذلك آداب الشرائع الغراء، وأثار من ساروا على آثارنا وجاسوا خلال ديارنا واستمدوا من أنوارنا - وهو أمر سهل على الكل - بأن ينبذ كل منا النفع الخاص، ويتمسك بالنفع العام الذي يدخل فيه الخُلّص، فإننا باحتياج زائد إلى ترقية بلادنا بنشر العلوم والمعارف فيها، وترويج مصنوعاتها، حتى نستغني عن مصنوعات الغير، وتبقى ثروة البلاد في البلاد، واتحاد القلوب وحده هو الكفيل بحسن الاستقبال وبلوغ البلاد معارج الكمال. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محيي الدين الخياط