أصله ونسبه ومولده هو محمد بن عبده بن حسن خير الله من مديرية البحيرة في القطر المصري. وبيت خير الله تركماني الأصل كما أخبرنا الفقيد رحمه الله تعالى ولا أذكر عنه شيئًا من تاريخ قدوم عشيرتهم إلى القطر المصري إلا أنهم كانوا يقيمون في الخيام وأن علي باشا مبارك أخبره أن عبد اللطيف البغدادي المؤرخ الشهير ذكر في الرحلة الكبرى أنه جاء (محلة نصر) ونزل ضيفًا في بيت التركماني، وأمه من عشيرة كبيرة في مديرية الغربية تعرف بعائلة عثمان وتنسب إلى بني عدي قبيلة سيدنا عمر بن الخطاب ويقال: إنها من ذريته. وكان والده شهمًا شجاعًا وقورًا سخي النفس وكانت والدته برة رحيمة بالمساكين ذكية الفؤاد شديدة الحياء ولا أبعد إذا قلت: إن والديه كانا من أسلم الناس فطرة وأحسنهم خلقًا. وكانت هذه الأخلاق فيهما موروثة ومكتسبة بالمعاشرة والقدوة لا بتعليم المدارس ولا بتأديب المعلمين. وهذا أصل عظيم في استعداد الرجل لما وصل إليه من الكمال الذي لم نر ولم نسمع بمثله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) رواه البخاري ومسلم. ولد قدس الله تعالى روحه في أواخر سنة خمس وستين أو ست وستين ومائتين وألف من الهجرة الشريفة (روايتان من كتابته) في قرية من قرى مديرية الغربية كان والده هاجر إليها هو وأخوه بهنس فرارًا من ظلم حكام مديرية البحيرة في أواخر حكم محمد علي باشا الكبير وكان له قرابة في تلك القرية، وفي أثناء إقامته فيها كان يتردد إلى بعض القرى القريبة فيها ويتعارف هو وأهلها؛ فأدى ذلك التعارف إلى المصاهرة إذ تزوج بوالدة الفقيد وهي من قرية تسمى (حصة شبشير) قريبة من مدينة طنطا وأقام معها في قرية تسمى (شتر) إلى أواخر مدة عباس باشا الأول والي مصر ثم ألجأته الحوادث بعد ذلك إلى الرجوع إلى بلده وهي قرية تسمى (محلة نصر) في البحيرة وفيها نشأ وترعرع. *** تعليمه وتربيته نشأ كما ينشأ أمثاله من أبناء البيوت المعروفة في القرى ولم يدخل المكتب لتعلم القراءة والكتابة إلا بعد أن جاوز العاشرة من سنه وقد كتب هو عن مبدأ تعلمه وتأدبه ما نصه: (تعلمت القراءة والكتابة في منزل والدي ثم انتقلت إلى دار حافظ قرآن قرأت عليه وحدي جميع القرآن أول مرة ثم أعدت القراءة حتى أتممت حفظه جميعه في مدة سنتين أدركني في ثانيتهما صبيان من أهل القرية جاءوا من مكتب آخر ليقرأوا القرآن عند هذا الحافظ ظنًّا منهم أن نجاحي في حفظ القرآن كان من أثر اهتمام الحافظ. بعد ذلك حملني والدي إلى طنطا حيث كان أخي لأمي الشيخ مجاهد رحمه الله لأُجَوِّد القرآن في المسجد الأحمدي لشهرة قرائه بفنون التجويد وكان ذلك في سنة ١٢٧٩ هجرية) . (ثم في سنة إحدى وثمانين جلست في دروس العلم وبدأت بتلقي شرح الكفراوي على الأجرُّومية في المسجد الأحمدي بطنطا وقضيت سنة ونصفًا لا أفهم شيئًا لرداءة طريقة التعليم فإن المدرسين كانوا يفاجئوننا باصطلاحات نحوية أو فقهية لا نفهمها ولا عناية لهم بتفهيم معانيها لمن لم يعرفها فأدركني اليأس من النجاح وهربت من الدرس واختفيت عند أخوالي مدة ثلاثة أشهر، ثم عثر عليَّ أخي فأخذني إلى المسجد الأحمدي وأراد إكراهي على طلب العلم فأبيت وقلت له: قد أيقنت أن لا نجاح لي في طلب العلم ولم يبق عليّ إلا أن أعود إلى بلدي وأشتغل بملاحظة الزراعة كما يشتغل الكثير من أقاربي. وانتهى الجدال بتغلبي عليه فأخذت ما كان لي من ثياب ومتاع، ورجعت إلى محلة نصر على نية أن لا أعود إلى طلب العلم وتزوجت في سنة ١٢٨٢ على هذه النية. فهذا أول أثر وجدت في نفسي من طريقة التعليم في طنطا وهي بعينها طريقته في الأزهر وهو الأثر الذي يجده خمسة وتسعون في المائة ممن لا يساعدهم القدر بصحبة من لا يلتزمون هذه السبيل في التعليم - سبيل إلقاء المعلم ما يعرفه أو ما لا يعرفه بدون أن يراعي المتعلم ودرجة استعداده للفهم غير أن الأغلب من الطلبة الذين لا يفهمون تغشهم أنفسهم فيظنون أنهم فهموا شيئًا فيستمرون على الطلب إلى أن يبلغوا سن الرجال، وهم في أحلام الأطفال، ثم يبتلى بهم الناس وتصاب بهم العامة فتعظم بهم الرزية؛ لأنهم يزيدون الجاهل جهالة، ويضللون من توجد عنده داعية الاسترشاد ويؤذون بدعاويهم من يكون على شيء من العلم ويحولون بينه وبين نفع الناس بعلمه. بعد أن تزوجت بأربعين يومًا جاءني والدي ضحوة نهار وألزمني بالذهاب إلى طنطا لطلب العلم وبعد احتجاج وتمنع وإباء لم أجد مندوحة عن إطاعة الأمر ووجدت فرسًا أُحضر فركبته، وأصحبني والدي بأحد أقاربي وكان قوي البنية شديد البأس ليشيعني إلى محطة (إيتاي البارود) التي أركب منها قطار السكة الحديدية إلى طنطا. كان اليوم شديد الحر والريح عاصفة ملتهبة سافياء، تحصب الوجه بشبه الرمضاء، فلم أستطع الاستمرار في السير فقلت لصاحبي: أما مداومة المسير فلا طاقة لي بها مع هذه الحرارة ولا بد من التعريج على قرية أنتظر فيها أن يخف الحر، فأبى علي ذلك فتركته وأجريت الفرس هاربًا من مشادته وقلت: إني ذاهب إلى (كنيسة أدرين) - بلدة غالب سكانها من خؤولة أبي - وقد فرح بي شبان القرية [*] لأنني كنت معروفًا بالفروسية واللعب بالسلاح وأملوا أن أقيم معهم مدة يلهو فيها كل منا بصاحبه. أدركني صاحبي وبقي معي إلى العصر وأرادني على السفر فقلت له خذ الفرس وارجع وسأذهب صباح الغد وإن شئت قلت لوالدي: إنني سافرت إلى طنطا فانصرف وأخبر بما أخبر وبقيت في هذه القرية خمسة عشر يومًا تحولت فيها حالتي، وبدلت فيها رغبة غير رغبتي. ذلك أن أحد أخوال أبي واسمه الشيخ درويش سبقت له أسفار إلى صحراء ليبيا، ووصل في أسفاره إلى طرابلس الغرب وجلس إلى السيد محمد المدني والد الشيخ ظافر المشهور الذي كان قد سكن الأستانة وتوفي بها وتعلم عنده شيئًا من العلم وأخذ عنه الطريقة الشاذلية، وكان يحفظ الموطأ وبعض كتب الحديث ويجيد حفظ القرآن وفهمه، ثم رجع من أسفاره إلى قريته هذه واشتغل بما يشتغل به الناس من فلح الأرض وكسب الرزق بالزراعة. وإن هذا الشيخ جاءني صبيحة الليلة التي بتها في الكنيسة وبيده كتاب يحتوي على رسائل كتبها السيد محمد المدني إلى بعض مريديه بالأطراف بخط مغربي دقيق، وسألني أن أقرأ له فيها شيئًا لضعف بصره فدفعت طلبه بشدة ولعنت القراءة ومن يشتغل بها ونفرت منه أشد النفور، ولما وضع الكتاب بين يدي رميته إلى بعيد لكن الشيخ تبسم وتجلى في ألطف مظاهر الحلم، ولم يزل بي حتى أخذت الكتاب، وقرأت منه بضعة أسطر فاندفع يفسر لي معاني ما قرأت بعبارة واضحة تغالب إعراضي فتغلبه وتسبق إلى نفسي. وبعد قليل جاء الشبان يدعونني إلى ركوب الخيل واللعب بالسلاح والسباحة في نهر قريب من القرية فرميت الكتاب وانصرفت إليهم. بعد العصر جاءني الشيخ بكتابه وألح علي في قراءة شيء منه فقرأت وفسر، ثم تركته إلى اللعب وفعل في اليوم الثاني كما فعل في الأول أما اليوم الثالث فقد بقيت أقرأ له فيه وهو يشرح لي معاني ما أقرأ نحو ثلاث ساعات لم أملّ فيها فقال لي: إني في حاجة إلى الذهاب إلى المزرعة ليعمل بعض العمل فيها فطلبت منه إبقاء الكتاب معي فتركه، ومضيت أقرأه وكلما مررت بعبارة لم أفهمها وضعت عليها علامة لأسأله عنها إلى أن جاء وقت الظهر وعصيت في ذلك اليوم كل رغبة في اللعب وهوى ينازعني إلى البطالة، وعصر ذلك اليوم سألته عما لم أفهمه فأبان معناه على عادته، وظهر عليه الفرح بما تجدد عندي من الرغبة في المطالعة والميل إلى الفهم. كانت هذه الرسائل تحتوي على شيء من معارف الصوفية وكثير من كلامهم في آداب النفس وترويضها على مكارم الأخلاق وتطهيرها من دنس الرذائل وتزهيدها في الباطل من مظاهر هذه الحياة الدنيا. لم يأت عليَّ اليوم الخامس إلا وقد صار أبغض شيء إلى ما كنت أحبه من لعب ولهو، وفخفخة وزهو، وعاد أحب شيء إلى ما كنت أبغضه من مطالعة وفهم وكرهت صور أولئك الشبان الذين كانوا يدعونني إلى ما كنت أحب ويزهدونني في عِشْرة الشيخ رحمه الله فكنت لا أحتمل أن أرى واحدًا منهم بل أفر من لقائهم جميعًا كما يفر السليم من الأجرب. في اليوم السابع سألت الشيخ ما هي طريقتكم فقال: طريقتنا الإسلام فقلت أو ليس كل هؤلاء الناس بمسلمين؟ قال لو كانوا مسلمين لما رأيتهم يتنازعون على التافه من الأمر ولما سمعتهم يحلفون بالله كاذبين بسبب وبغير سبب. هذه الكلمات كانت كأنها نار أحرقت جميع ما كان عندي من المتاع القديم - متاع تلك الدعاوى الباطلة والمزاعم الفاسدة، متاع الغرور بأننا مسلمون ناجون، وإن كنا في غمرة ساهين، سألته: ما وردكم الذي يتلى في الخلوات أو عقب الصلوات؟ فقال: لا ورد لنا سوى القرآن تقرأ بعد كل صلاة أربعة أرباع مع الفهم والتدبر. قلت: أنى لي أن أفهم القرآن ولم أتعلم شيئًا؟ قال: أقرأ معك ويكفيك أن تفهم الجملة وببركتها يفيض الله عليك التفصيل وإذا خلوت فاذكر الله على طريقة بينها. وأخذت أعمل على ما قال من اليوم الثامن فلم تمض عليَّ بضعة أيام إلا وقد رأيتني أطير بنفسي في عالم آخر غير الذي كنت أعهد [١] واتسع لي ما كان ضيقًا، وصغر عندي من الدنيا ما كان كبيرًا، وعظم عندي من أمر العرفان والنزوع بالنفس إلى جانب القدس ما كان صغيرًا، وتفرقت عني جميع الهموم ولم يبق لي إلا هم واحد وهو أن أكون كامل المعرفة كامل أدب النفس ولم أجد إمامًا يرشدني إلى ما وجهت إليه نفسي إلا ذلك الشيخ الذي أخرجني في بضعة أيام من سجن الجهل إلى فضاء المعرفة، ومن قيود التقليد إلى إطلاق التوحيد، - هذا هو الأثر الذي وجدته في نفسي من صحبة أحد أقاربي وهو الشيخ درويش خضر من أهالي (كنيسة أدرين) من مديرية البحيرة. وهو مفتاح سعادتي إن كانت لي سعادة في هذه الحياة الدنيا، وهو الذي رد لي ما كان غاب عن غريزتي، وكشف لي ما كان خفي عني مما أودع في فطرتي. وفي اليوم الخامس عشر مر بي أحد سكان بلدتنا (محلة نصر) فأخبرني أن والدتي ذهبت إلى طنطا لتراني فعلمت أن سيقول لوالدي أنني لا أزال في الكنيسة فأصبحت مبكرًا إلى طنطا خوف عتاب الوالد واشتداده في اللوم؛ لأنني لو كنت أقمت له ألف دليل على أنني وجدت في مهربي مطلبه ومطلبي لَمَا اقتنع. ذهبت إلى طنطا وكان ذلك قرب آخر السنة الدراسية في شهر جمادي الآخرة من سنة ١٢٨٢ هجرية لكن اتفق أن بعض المشايخ كانت ماتت بنته فعاقه الحزن عليها عن إتمام شرح الزرقاني على العزية وآخر عرض له عارض منعه عن إتمام شرح الشيخ خالد على الأجرومية فأدركت كلاًّ منهما في أوائل الكتاب الذي كان يدرسه وجلست في الدرسين فوجدت نفسي أفهم ما أقرأ وما أسمع والحمد لله. وعرف ذلك مني بعض الطلبة فكانوا يلتفون حولي؛ لأطالع معهم قبل الدرس ما سنتلقاه. وفي يوم من شهر رجب من تلك السنة كنت أطالع بين الطلبة وأقرر لهم معاني شرح الزرقاني فرأيت أمامي شخصًا يشبه أن يكون من أولئك الذين يسمونهم بالمجاذيب فلما رفعت رأسي إليه قال ما معناه: ما أحلى حلوى مصر البيضاء: فقلت له وأين الحلوى التي معك؟ فقال: سبحان الله من جد وجد. ثم انصرف فعددت ذلك القول منه إلهامًا ساقه الله إليَّ ليحملني على طلب العلم في مصر دون طنطا. وفي منتصف شوال من تلك السنة ذهبت إلى الأزهر وداومت على طلب العلم على شيوخه مع محافظتي على العزلة والبعد عن الناس حتى كنت أستغفر الله إذا كلمت شخصًا كلمة لغير ضرورة. وفي أواخر كل سنة دراسية كنت أذهب إلى (محلة نصر) لأقيم بها شهرين - من منتصف شعبان إلى منتصف شوال - وكنت عند وصولي إلى البلد أجد خال والدي الشيخ درويشًا قد سبقني إليه فكان يستمر معي يدارسني القرآن والعلم إلى يوم سفري. وكل سنة كان يسألني، ماذا قرأت؟ فأذكر له ما درست فيقول: ما درست المنطق؟ ما درست الحساب؟ ما درست شيئًا من مبادئ الهندسة؟ وهكذا وكنت أقول له بعض هذه العلوم غير معروف الدراسة في الأزهر فيقول: طالب العلم لا يعجز عن تحصيله في أي مكان، فكنت إذا رجعت إلى القاهرة ألتمس هذه العلوم عند من يعرفها فتارة كنت أخطئ في الطلب وأخرى أصيب إلى أن جاء المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني إلى مصر أواخر سنة ١٢٨٦. وقد صاحبته من ابتداء شهر المحرم سنة ١٢٨٧ وأخذت أتلقى عنه بعض العلوم الرياضية والحكمية (الفلسفية) والكلامية وأدعو الناس إلى التلقي عنه كذلك وأخذ مشايخ الأزهر والجمهور من طلبته يتقولون عليه وعلينا الأقاويل، ويزعمون أن تلقي تلك العلوم قد يفضي إلى زعزعة العقائد الصحيحة، وقد يهوي بالنفس في ضلالات تحرمها خيري الدنيا والآخرة فكنت إذا رجعت إلى بلدي عرضت ذلك على الشيخ درويش فكان يقول لي: إن الله هو العليم الحكيم ولا علم يفوق علمه وحكمته وإن أعدى أعداء العليم هو الجاهل، وأعدى أعداء الحكيم هو السفيه وما تقرب أحد إلى الله بأفضل من العلم والحكمة فلا شيء من العلم بممقوت عند الله ولا شيء من الجهل بمحمود لديه إلا ما يسميه بعض الناس علمًا وليس في الحقيقة بعلم كالسحر والشعوذة ونحوهما إذا قصد من تحصيلهما الإضرار بالناس. هذا ما كتبه الفقيد عن مبدأ تربيته وتعلمه في ترجمته التي كتبها لي قبل اشتداد مرضه الأخير، وكان حدثني قبل بشيء من ذلك ومنه أنه لم يكن يواظب على حضور دروس من لا يفهم أو لا يستفيد منهم وأنه ربما كان يحضر درس أحدهم وفي يده كتاب آخر يطالع فيه مدة الدرس وأن من شيوخه الذين فهم منهم واستفاد في أول تحصيله الشيخ محمد البسيوني وأنه بعد الحضور في الأزهر ثلاث سنين مل الدروس المعتادة كأنه أخذ حظه منها، وصارت نفسه تطلب شيئًا جديدًا وتميل إلى العلوم العقلية ولكنه حضر جميع الكتب وفهمها ولم يكن يرتاح إلى إعادة شيء منها. وكان الشيخ حسن الطويل ممتازًا في الأزهر بعلم المنطق فحضره عليه ولم يكن يشفي ما في نفسه بل كانت تتشوف دائمًا إلى علم غير موجود فكان يبحث في خزائن الكتب الأزهرية عن طلبته المجهولة فيظفر ببعض الشيء ومما ظفر به القطب على الشمسية ناقصا. وقرأ الشيخ حسن الطويل لهم شيئا من الفلسفة ولكن لم يكن يجزم بأن المعنى كذا بل كان الدرس احتمالات أو أشبه بالحرز فيما بينهم حتى جاء السيد جمال الدين فسكنت إليه نفسه من اضطرابها ووجدت عنده جميع طلبتها، وأقصى أمنيتها، وأخبرني رحمه الله تعالى أن الذي أخبره بقدوم السيد جمال الدين هو أحد المجاورين في رواق الشوام قال له إنه جاء مصر عالم أفغاني عظيم وهو يقيم في خان الخليلي فسر بذلك وأخبر الشيخ حسنا ودعاه إلى زيارته معه فألفياه يتعشى فدعاهما إلى الأكل معه فاعتذرا فطفق يسألهما عن بعض آيات القرآن وما قاله المفسرون والصوفية فيها ثم يفسرها لهم، فكان هذا مما ملأ قلب فقيدنا به عجبًا وشغفه حبًّا؛ لأن التصوف والتفسير هما قرة عينه أو كما قال مفتاح سعادته. وأخبرني رحمه الله تعالى أنه قرأ على السيد كتاب الزوراء للدواني في التصوف، وشرح القطب على الشمسية والمطالع وسلم العلوم من كتب المنطق، والهداية والإشارات وحكمة العين وحكمة الإشراق من الفلسفة، وعقائد الجلال الدواني والتوضيح مع التلويح في الأصول، والجفميني في الهيئة القديمة وكتابا آخر في الهيئة الجديدة نسيت اسمه. ثم إن السيد أرشده كغيره من تلامذته إلى الإنشاء وكتابة المقالات الأدبية والاجتماعية والسياسية ومرنهم على الخطابة فبرع فقيدنا في ذلك حتى صار أبرع من أستاذه نفسه؛ لأن عبارة السيد رحمه الله تعالى كانت على متانتها وبلاغتها لم تصف من كدورة العجمة إلى صفاء الانسجام العربي الخالص كعبارة الشيخ، ثم إن مجالس السيد في ناديه وسامره كانت كلها مجالس علم وحكمة وأدب وسياسة وقلما كان يفوت فقيدنا شيء منها إذ كان يلازمه ملازمة ظله وما يستفيده المرء بالمذاكرة في ساعة لا يستفيده بالدرس في ساعات؛ لأن المدرس يكلفك كل ما يلقيه إليك سواء كنت تشعر بالحاجة إليه وتعتقد الاستفادة منه أم لا وسواء كنت مستعدًّا لفهمه أم لا، وأما المذاكرة فهي مشاركة اختيارية في البحث والإنسان لا يختار إلا ما يرى نفسه محتاجة إليه ومستعدة لفهمه فمثل الدرس يلقى إليك كمثل من يكلفك أن تأكل مقدارًا معينًا من الأطعمة التي قد تعاف بعضها ولا تستطيع تناولها إلا بكلفة وغثاثة فأنت لا تتغذى إلا ببعضها والباقي إما أن يضر وإما أن لا ينفع ومثل المذاكرة كالطعام الذي تشتهيه وتتناول منه ما يكفيك فيكون كله غذاءً نافعًا. وقد قال بعض علماء التربية من الإفرنج: إنه قلما يفلح من يقيم في مدارس العلم زمنًا طويلاً. ولقد كانت مجالس أستاذنا الفقيد كمجالس أستاذه (رحمهما الله) تفيض علمًا وحكمةً وأدبًا، ولكن الفصل بينهما في هذا هو أن السيد كان يلقي الحكمة لكل أحد، وأما الشيخ فكان تخاطب كل أحد أو كل فريق بما يرى أنه مستعد له ومتوجه إليه، وقد قال لي رحمه الله تعالى: إن السيد جمال الدين كان يلقي الحكمة لمريدها وغير مريدها، ومن خواصه أنه يجذب مخاطبة إلى ما يريد وإن لم يكن من أهله وكنت أحسده على ذلك لأنني تؤثر فيَّ حالة المجلس والوقت فلا تتوجه نفسي للكلام إلا إذا رأيت له محلاًّ، وهكذا الكتابة إلخ ما قاله وسنذكره في محله من تاريخه إن شاء الله تعالى. تدريسه ودعوته إلى إصلاح التعليم في الأزهر كان عفا الله عنه قبل أخذ شهادة التدريس يطالع مع بضع الطلاب الدروس التي يحضرونها في الأزهر، ثم اتفقت الرغبة على أن يقرأ لطائفة منهم بعض الكتب فقرأ لهم إيساغوجي في المنطق، ثم شرح العقائد النسفية للسعد التفتازاني مع حواشيه ثم مقولات السجاعي بحاشية العطار وغير ذلك من الكتب التي لم تكن تقرأ في الأزهر فكثر سواد المجتمعين عليه، وكان يدعوهم إلى مطالعة ما لم يتعودوا من الفنون والكتب ويفتح لهم أبواب المذاكرة والمناقشة ليلاً فكانوا يغتالون الليل ولا يشعرون بطوله وفُتن الأذكياء بحسن بيانه ودقة فهمه وحسده أناس منهم فأحفظوا عليه قلب الشيخ عليش فكان ما كان من حادثته معه إذ ذهب ابن للشيخ عليش مع طالب آخر فقالوا: إن فلانًا يقرأ شرح العقائد النسفية وقد رجح في درسه أمس مذهب المعتزلة على مذهب الأشعرية وكان الشيخ عليش رحمه الله أذنًا يصدق بكل ما سمع، وكان شديد الغيرة في الدين حديد المزاج سريع الغضب فكبر عليه أن يقرأ أحد الطلاب مثل ذلك الكتاب الذي لم يكن الشيوخ الكبار يتسامون لقراءته فأرسل إلى الفقيد فجاءه وهو يقرأ الدرس في المسجد الحسيني فقال الشيخ عليش: بلغني أنك تقرأ شرح العقائد النسفية درسًا قال نعم. قال الشيخ عليش: وبلغني أنك رجحت مذهب المعتزلة على مذهب الأشعرية قال إذا كنت أترك تقليد الأشعري فلماذا أقلد المعتزلي إذًا أترك تقليد الجميع وآخذ بالدليل قال الشيخ عليش: أخبرني الثقة بذلك قال هلم الثقة الذي يشهد بذلك فليميز أمامنا هنا بين المذهبين وليخبرنا أيهما رجحت، قال الشيخ عليش: أوَمثلك يفهم شرح العقائد؟ قال الكتاب حاضر وأنا حاضر فسلني إن شئت. فكبُر على الطلبة الحاضرين مثل هذه المراجعة من طالب للشيخ عليش المهيب وقال بعضهم: إن هذا يرسل شعره ويجمعه تحت عمامته وأخذ عمامته عن رأسه ولغط الحاضرون فتركهم الفقيد رحمه الله تعالى وذهب حاسرًا عن رأسه فقال أناس: إن الشيخ عليشًا ضربه، وقال آخرون: إنه منعه من الدرس وكثرت الإشاعات والأقوال والرؤى والأحلام فيه وفي السيد جمال الدين، والصواب أن هذا كل ما حصل وأن الفقيد لم يمتنع من قراءة الدرس ولكنه كان يضع بجانبه عصا وقال إذا جاء الشيخ بعكازه فله هذه العصا وكان من الشجاعة على ما يعهد عارفوه كما سنبين ذلك في الكلام على أخلاقه. أما تأثير هذه الحادثة فقد كان أكبر منها بل كان هو مبدأ خوض بعض الجامدين في دين كل من السيد الحكيم والأستاذ الإمام رحمهما الله تعالى وسنعقد لذلك فصلاً خاصًّا في تاريخ الفقيد، نبين فيه أنه لم يسلم أحد من أئمة الدين ولا من كبار الحكماء والصوفية من مثل هذا الطعن وأنه من مناقب حكيمينا قدس الله روحهما وأن الذين يتشفون بمثل هذا الخوض من الأعداء والحاسدين ومن يقلدهم من المساكين والمجانين لو عقلوا لكتموه وسعوا في إزالته. نعم إن ذلك الخوض والتقول مما نزين به تاريخ هذين الحكيمين ولكن لا ننكر أن تأثيره السيئ وقع على الأمة الإسلامية عامة وعلى الأزهر خاصة دون الرجلين اللذين لم يحترم الناس لا سيما عقلاء الأمة الإسلامية في هذا العصر أحدًا من أهل المشرق كاحترامهم لهما ذلك أنه كان عقبة في سبيل إصلاحهما واستفادة الأمة منهما وهما مأجوران عند الله تعالى بحسن نيتهما وبذلهما جهد المستطاع في خدمة أمتهما وملتهما. وقد كاد يترتب على ذلك حرمان فقيدنا من شهادة العالمية ومرتبة التدريس في الأزهر لولا عدل الشيخ العباسي وإنصافه. كتب الأستاذ الإمام رحمه الله عن امتحانه ما نصه: (عرضت نفسي على مجلس الامتحان في ١٣ جمادى سنة ١٢٩٤ هجرية وابتليت في الامتحان أشد الابتلاء لتعصب الأكثر من أعضائه مع المرحوم الشيخ عليش وكان يعاديني على الغيب اتباعًا لآراء من لا رشد عندهم من بلداء الطلبة، وكانوا قد أجمعوا أمرهم على أن لا يمنحوني درجة ما في العلم وجرت أمور قبل الامتحان يطول شرحها، ولكن كان أمر الله أغلب فخرجت من هذا الامتحان بالدرجة الثانية وصرت مدرسًا من مدرسي الجامع الأزهر وأخذت أقرأ العلوم الكلامية والمنطقية) إلخ. وقد أخبرني رحمه الله أن بعض الشيوخ تقاسموا قبل الامتحان يمينًا مؤكدة لا يأخذنَّ فلان درجة ما ولما وقع الامتحان ورأوا من حسن الجواب عما سألوه فوق ما كانوا ينتظرون، طفقوا يناقشون ويراجعون، وينتقلون به ويستطردون حتى صار الامتحان مناظرة، تتولاها المشاغبة والمكابرة، فعند ذلك حلف الشيخ العباسي أنه لم ير أحدًا امتحن في عصره مثله وأنه لو كان فوق الدرجة الأولى درجة ممتازة لاستحقها فأراد أحد الشيوخ وأظنه الشيخ الرافعي أن يوفق ويصلح فأخذ الورقة، وكتب له بالدرجة الثانية وطفق يعرضها على إخوانه الذين كانوا متفقين على حرمانه ليوقعوا عليها فوقعوا ثم أعطوها للشيخ العباسي فأمضاها لهم ولم يحب أن يراجعهم بعد أن رأى منهم ما رأى فظفروا ببعض المطلوب وهو حرمانه من الدرجة الأولى، وما كانوا ضائرين. طلبه العلم بعد التدريس والدخول في الأعمال هذا مجمل سيرة الرجل في تلقي العلم عن الشيوخ منذ بدأ إلى أن صار مدرسًا وإنك لتجد أكثر طلاب العلوم عندنا يعدون أخذ شهادة العالمية غاية التحصيل والتعلم فلا تتوجه همتهم بعده إلا إلى استغلال العلم وطلب المال به وإحراز الجاه والمكانة عند الناس بما ينالون به من وظيفة وعمل. وإن صاحبنا لم يسلك مسلكهم بل سار على سبيل سلفنا الصالح الذين يؤثر عنهم: اطلب العلم من المهد إلى اللحد، فكان يقول إلى آخر حياته: إنني لا أزال طالب علم أبتغي المزيد منه في كل يوم. فكان له في طلب العلم ثلاثة أدوار أولها الطلب على طريقة الأزهر المعروفة من المناقشة في عبارات كتب المؤلفين وقراءة المتون مع الشروح والحواشي والتقارير - سلكها زمنًا حتى ملَّها وتوجهت نفسه إلى علم أعلى وفهم أجلى فقبض الله تعالى له ذلك العلامة الحكيم السيد جمال الدين فقرأ له علومًا أخرى على طريقة أسهل مسلكًا وأقرب غاية، فانتاشه من الإخلاد إلى أرض العبارات الركيكة والأساليب الضعيفة، والاحتمالات البعيدة، ورفعه إلى سماء عرفان الحقيقة والإفصاح عنها بالعبارة الرشيقة، بعد إطلاقه من قيود تقليد المؤلفين، وتعويده على الحكم باليقين، فهذا هو الدور الثاني وهو خاص كسابقه بالعلوم الإسلامية التي كتبت باللغة العربية مع شيء قليل من العلوم الحديثة، وتطبيق العلم على حال المسلمين الأخيرة، وأما الدور الثالث فهو النظر في علوم الإفرنج، قرأ رحمه الله كثيرًا مما ترجم من الكتب ثم تعلم اللغة الفرنسية فصار يقرأ الكتب فيها لا يكاد يتركها يومًا من الأيام. وكانت عنايته بعلوم الأخلاق والنفس وأصول الاجتماع الإنساني والتاريخ وفلسفته وفن التربية أشد من عنايته بسائر العلوم وقلما علم بكتاب لإفرنجي يتكلم فيه عن الإسلام والمسلمين إلا واستحضره وقرأه وقد قرأ عدة كتب في تربية الإرادة خاصة، وفي سفره الأخير إلى سويسره تعلم هناك القلم المسند؛ لأنه علم أن في بعض المكاتب الأوربية كتبًا فيه وأن الإنكليز نقلوا من حضرموت بعض ما هنالك من الآثار الحميرية؛ ولذلك دخل شأن في تاريخ العرب والإسلام. وهذه العلوم الإفرنجية هي التي أعطته القوة العظيمة في المدافعة عن الإسلام وفي زيادة البصيرة بخدمته؛ لأنه عرف من أين يهاجمه أعداؤه وكيف ترد هجماتهم. وكان يقول: من لم يعرف لغة من لغات العلم الأوربية لا يعد عالمًا في هذا العصر وقد كتب لي في ترجمته عن تعلمه اللغة الفرنسية ما نصه: (بدأت بتعلم اللغة الفرنساوية عندما كانت سني أربعًا وأربعين سنة ولكن ميلي إلى تعلم لغة أجنبية ابتدأ في أثناء الحوادث العُرابية فتعلمت الهجاء ثم تركته ونسيته تقريبًا وعندما سافرت إلى فرنسا أول مرة أقمت هناك عشرة أشهر كنت أحرر فيها جريدة (العروة الوثقى) ولم أتعلم شيئًا من الفرنساوية؛ لأن اجتماعي كان بالسيد جمال الدين وبرفاق من العرب واشتغالي بتحرير تلك الجريدة كان لا يسمح لي بوقت كاف للتعلم بدراسة منتظمة فذهب عليَّ ذلك الزمن بدون فائدة في اللغة لا كثيرة ولا قليلة. أما بعد عودتي من النفي إلى مصر واشتغالي بالقضاء في المحاكم الأهلية والحكم بها خصوصًا في الجنايات على أصول القوانين الفرنساوية وجلوسي بين قضاة يغلب عليهم العلم بتلك القوانين في لغتها فقد قوي عندي الميل إلى تعلم اللغة الفرنساوية حتى لا أكون في معرفة القوانين أضعف ممن أجلس معهم مجلس القضاء، وبعد مجيئي إلى القاهرة واشتغالي بالقضاء في إحدى محاكمها وجدت الوقت والحال مناسبين للبدء في العمل فبحثت عن معلم فوجدت أستاذًا لا بأس به فدعوته فجاءني حاملاً كتاب نحو في يده (كرامير) فسألته ما هذا فقال كتاب نحو فقلت له لا وقت عندي لأنْ أبتدئ، وإنما عندي زمن لأنْ أنتهي، ثم ناولته قصة من تأليف ألسكندر دوماس وقلت له: أنا أقرأ وأنت تصلح لي النطق وتفسر لي الكلم وما عدا ذلك فهو عليَّ والنحو يأتي في أثناء العمل، وهكذا أتممت الكتاب وكتابًا بعده وثالثًا عقبه وكنت أطالع وحدي بصوت مرتفع كلما وجدت نفسي في بيتي خاليًا فتعلمت مبادئ اللغة الفرنساوية، وحصلت منها ما كان يمكنني من القراءة والفهم لكن ما كنت أستطيع الكلام. سافرت بعد ذلك إلى فرنسا وإلى سويسرا عدة مرات في أيام العطلة الصيفية وكنت أحضر دروس العطلة في كلية جنيف، وبهذه الطريقة تعلمت اللغة الفرنساوية في أوقات الفراغ مع اشتغالي بالقضاء في المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف. ثم إن الذي زادني تعلقًا بتعلم لغة أوربية هو أني وجدت أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أنه على شيء من العلم يتمكن به من خدمة أمته ويقتدر به على الدفاع عن مصالحها كما ينبغي إلا إذا كان يعرف لغة أوربية كيف لا وقد أصبحت مصالح المسلمين مشتبكة مع مصالح الأوربيين في جميع أقطار الأرض، وهل يمكن مع ذلك لمن لا يعرف لغتهم أن يشتغل للاستفادة من خيرهم أو للخلاص من شر الشرار منهم؟) اهـ. الكلام في تربيته خاصة هذا ما يقال في طلبه للعلم، وأما تربيته فقد عُلم مما مر شيء منها وهو أنه نشأ في بيت يوصف أهله بالأخلاق الفطرية الحميدة التي لا ينقصها إلا نور العلم وقد كان له ولم يعن في صباه إلا بالفروسية وأعمال الرجولية، فكان يلعب بالسلاح ويسابق الناشئين معه على ظهور الجياد ويكثر من السباحة وهذه الألعاب مما يحسن أن يربى عليها الولدان بالقصد كما قال الحكماء وعلماء التربية وهي مما يربى عليه أولاد الملوك والأمراء في أوربا. بعد أن أخذ حظه من هذه التربية الفطرية أخذه الشيخ درويش خضر بالتربية الدينية فألزمه العزلة ومجاهدة النفس. وكان من جبلته أن يأخذ كل شيء بقوة فكان في مدة طلبه للعلم يصوم النهار ويقوم الليل بالصلاة والتلاوة والذكر، ويمشي مطرقًا لا ينظر إلا حيث يضع قدميه ولا يكلم أحدًا إلا لضرورة وقد ظل عدة سنين لا يلقي نظره على امرأة أجنبية حتى في الطريق. وقد كان لكثرة الانهماك في الذكر والفكر والنظر في كتب التصوف والتنقل في أحوال القوم ومقاماتهم يخرج عن حسه ويزج في عالم الخيال أو عالم المثال كما يقولون فيناجي أرواح السابقين. ولو كان يجيز شرح ذلك لشرحناه، ولكنه كان يقول: إن ما يحصل للصوفية من الأحوال غير الطبيعية لا يجوز ذكره لغير العارف به ولا تجوز كتابته بحال ولو كنت ملكًا لحكمت بقتل الذين يكتبون ذلك؛ لأنهم يفتنون كثيرًا من الناس ولا يفيدون به أحدًا. وقال ما معناه ما زَجَّ أحد نفسه في عالم الخيال ثم قدر على الخروج منه إلا أن يجذبه جاذب آخر ويخرجه منه وذلك قليل. وأقول: إن السيد جمال الدين هو الذي أخرجه منه، ورقى به إلى ما هو خير منه، ولم يتمكن من ذلك إلا بعد أن جاراه عليه زمنًا عرفه به أنه أعرف بتلك المعاهد، وأسبق إلى تلك المشاهد بما كان يحل له من عقد كلام الصوفية التي يعجز عن حلها، حتى أقنعه بأنه من أفراد أهلها، وسنذكر في التاريخ الكبير الذي نضعه لفقيدنا شيئا مما كتبه على طريقة الصوفية. وأقول هنا لو كان الجماهير من الناس يعرفون في أيام حادثة الشيخ عليش شيئًا من أمر الرجل في تصوفه وتنسكه لهاجوا على الشيخ عليش وإن كانت شهرته بالصلاح عظيمة وعلى من وشى إليه من فساد المجاورين، ولما خاضوا في فقيدنا بالذي خاضوا ولكنه كان يبالغ في كتمان ذلك خوفًا من الرياء وحب السمعة والأمة مستعدة للشر والشبهة عليه حضور كتب الفلسفة والكلام على عالم غريب وهو السيد رحمهم الله أجمعين. قلنا: إن السيد جمال الدين هو الذي نقل فقيدنا من حال إلى حال في التربية كما نقله في العلم، وكان الشيخ درويش هو الذي مهد له السبيل للأمرين. وقبل أن ننتقل من الكلام في تربيته وتعليمه إلى الكلام في عمله وإصلاحه نذكر أن الشيخ درويشًا هو الذي رباه أيضًا على التعرض للإرشاد الديني والتصدي لنصيحة الناس فمهد السبيل التي سلكها به السيد جمال - سبيل الإصلاح العلمي والسياسي - ذلك أن الشيخ درويشًا رأى أن مريده قد كملت نفسه بعد العزلة الطويلة وكمل سلوكه فصار بمأمن من المعاشرين الذين يقطعون الطريق على المريدين فأمره بمخالطة الناس والتعرض لإرشادهم وقد كتب رحمه الله في ذلك ما نصه. (قلت: إنني كنت في أوائل مدة طلب العلم بعد مجيئي إلى الأزهر في عزلة عن الناس إلا من استفيد منه علمًا أو نصيحة لكن بعد مضي سبع سنين على ذلك - والشيخ يقودني في سبيل الرياضة وقهر النفس على المكاره بالصوم تارة وبلبس الخشن والتعرض لانتقاد الناس تارة أخرى - قال لي عندما رجعت إلى محلة نصر في سنة ١٢٨٨ إلى متى العزلة وما الفائدة في العلم وتحصيله إذا لم يكن لك نورًا تهتدي به ويهتدي به الناس؟ إن المكروه أن تستأثر بالفائدة دون أهل ملتك وإن من لم ينفع بما تعلم فقد أضاع أهم ثمرة تقصد من غراس المعرفة فعليك أن تخالط الناس وتعظهم وترشدهم إلى الطريق القويمة والسنة الصالحة: فذكرت له اشمئزازي من الناس وزهادتي في معاشرتهم وثقلهم على نفسي إذا لقيتهم وبعدهم عن الحق ونفرتهم منه إذا عرض عليهم فقال لي: هذا من أقوى الدواعي إلى ما حثثتك عليه فلو كانوا جميعهم هداة مهديين لما كانوا في حاجة إليك. ثم أخذ يستصحبني في مجالس العامة ويفتح الكلام في الشؤون المختلفة ويوجه إليّ الخطاب لأتكلم فيتكلم الحاضرن فأجيبهم وأنطلق في القول على وجل في أول الأمر، وما زال بي حتى وجد عندي شيئًا من الألفة مع الناس والاستئناس بمكالمتهم وفي شوال من تلك السنة ودعني وبكى بكاءً شديدًا ومات في السنة الثانية رحمه الله تعالى) اهـ. أقول: يظهر أنه أحس بأن عمله قد تم بتكميل تربية مريده وأنه ألهم بأنه قد دنا أجله إذا تم عمله فبكى بكاء مودع، وللصوفية من هذا الإلهام والشعور ما هو معروف مشهور. طور العمل والإصلاح (تمهيد) لو سأل سائل: أي الرجال أعظم في الأمة وأفضل؟ لاختلف الجواب باختلاف أفهام الأفراد ومذاهبهم، فهذا يقول أعظمهم العالم وذاك يقول بل الفيلسوف، ويقول ثالث: بل هو الرجل الصالح فينبري رابع قائلاً بل القائد الفاتح ويخالفهم رجل آخر يدعي أن أفضل الناس السياسي الحاذق ويقول آخرون أقوالا أخرى. وإذا رجعت بالجميع إلى البرهان رأيتهم يتفقون على أن أعظم الرجال وأفضلهم المصلحون الذين يوجهون عزائمهم إلى رفع الأمة من الدرجة الدنيا إلى الدرجة العليا، وهؤلاء قلما تجود الأجيال بواحد منهم على كثرة العلماء والصلحاء والقواد والسياسيين في كل زمان. إنما يكون الرجل عظيمًا بأمرين أحدهما فطري لا يأتي بالكسب وهو الاستعداد الذي يكون له بكمال الخلقة واعتدال المزاج، وحسن الوراثة الموالدين والأجداد، وثانيهما كسبي وهو التربية القويمة والتعليم النافع، وقد كان استعداد الأستاذ الإمام لكل أمر عظيمًا حتى كان استعداده هو الأصل في حسن تربيته وتعلميه. فقد علمت مما مر أن فطرته السليمة لم تقبل الاستمرار على حضور دروس لا تفهمها ولم يعرف هذا عن غيره من المبتدئين بطلب العلم حتى أذكيائهم الذين استفادوا بعد العناء فقد كانوا يصبرون على ما لا يفهمون زمنًا طويلاً، وإذا حفظ أحدهم شيئًا بالتكرار ظن أنه هذا فهم وعلم لا سيما إذا حفظ تفسير المتن من شرحه وحاشيته. ولكن صاحبنا لم يكن يترك المسألة حتى يفهمها ويوقن أو يرجح أن الحكم فيها كذا ولذلك أسرع إليه الملل من دروس مشايخ الاحتمالات. وكان يقول: إن حضور كتب العربية على طريقتهم قد أضر بذهنه وعقله وإنه ظل يكنس ذهنه وينظفه منها بضع سنين فلم ينظف تمام النظافة. وأما السيد جمال الدين فإنه كثيرًا ما كان يشرح معنى المسألة حتى تتجلى للأفهام ثم يقرأ عبارة الكتاب ويطبقها عليها فإن انطبقت وإلا أبان ما فيها من التقصير أو يقرأ العبارة ويبحث في دليلها فيقره أو يفنده ويجزم بغيرها وبهذه الطريقة ارتقى إلى أن يحكم بنفسه في المسائل ولا يرضى بالفهم مع التسليم لمؤلف الكتاب فالذي امتاز به صاحب الترجمة على إخوانه الأزهريين هو أنه في بدايته لم يرض أن يحضر شيئًا لا يفهمه، وفي نهايته لم يرض بما يفهمه إلا بعد أن يستشير فيه الدليل فيرضاه له، وأنه لم يقنع بالعلوم المتداولة في الأزهر بل كان من أوائل عهده بالعلم إلى يوم وفاته يطلب العلوم ويقدم منها ما يزيده كمالاًً في نفسه ويعينه على رفع شأن ملته وأمته، ولو أنه تعلم في حداثته على طريقة قويمة كما تعلم النابغون من حكماء أوربا وعلمائهم في المدارس النظامية ولم يضيع ذلك الوقت الطويل في البطالة وفي الطريقة الأزهرية الملتوية لرأينا من آياته العلمية أضعاف ما رأينا على أن ما رأيناه يكاد يكون من الخوارق فإنه لم يكن يتكلم في علم إلا وتراه صاحب القدح المعلى فيه حتى كأنه هو الواضع له، فمن شاء أن يقتدي بطريقته المثلى من الأزهريين وغيرهم فليفعل عسى أن يكون من المفلحين، وأما تربيته فقد علمت مما تقدم آنفًا أنه تربى على طريقة الصوفية القويمة الخالية من البدع والخرافات حتى ملك نفسه وكملت أخلاقه وصار الدين وجدانًا له، ثم انتقل من ذلك إلى أخذه بالبرهان. وأهم ما اتفق له تربية الإرادة أي ملكة العزيمة والإقدام فقد كان فيها نسيج وحده في أمته. تقدم أن الرجل توجهت نفسه إلى العمل والإصلاح قبل أن يصير مدرسًا رسميًّا فبدأ بإحياء اللغة ونفخ روح العلم والدين في الأزهر، ثم إن السيد جمال الدين وجه وجهه إلى الإصلاح الاجتماعي والسياسي فجعله ساعده وعضده في ذلك فاشتغل بها مدة، ثم استقر رأيه على أن الإصلاح محصور في إحياء لغة الأمة وإصلاح نفوسها بالتربية والتعليم النافع. ((يتبع بمقال تالٍ))