للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: جمال الدين الأفغاني


المقالات الجمالية

ننشر تحت هذا العنوان ما جمعناه من مقالات موقظ الشرق وحكيم الإسلام
السيد جمال الدين الأفغاني الحسيني حفظًا لها من الضياع.

الشرق والشرقيون
نشرها السيد في جريدة (أبو نظارة زرقاء) التي كانت تصدر بباريس أيام
وجوده فيها سنة ١٣٠٠ (١٨٨٣) , وهي مصدرة بمقدمة حكيمة في العقل والنفس
والأخلاق , التي هي يتفاضل بها البشر أفرادًا وجماعات , ويعلو بعض الأمم بعضًا
في ارتقاء الحضارة , ويتسابقون في جلبة السعادة السيادة , ويلبها المقصد في
شعبتين: إحدهما: بيان ما كان للشرقيين من حظ ارتقاء العقل في العلم والبصيرة ,
وارتقاء النفس في الأخلاق العالية , ثم ما انتهى إليه حالهم من إهمال النعمتين
والتدهور عن القمتين , والشعبة الثانية في الشواهد التاريخية على ذلك بما كان من
إضاعتهم لممالكهم , وتخريب بيوتهم بأيديهم , قال رحمه الله:
(المقدمة)
الإنسان إنسان بعقله وبنفسه , ولولا العقل والنفس لكان الإنسان أخس جميع
الحيوانات وأشقاها؛ لأنه في حياته أضيق مسلكًا , وأصعب مجازًا , وأوعر طريقًا
منها، قد حفت به المكاره , وأحاطت به المشاق , واكتنفت به الآلام , لا يمكنه أن
يقوم بمعاشه وهو منعزل عن أبناء نوعه , لا يطيق الحر ولا يتحمل ألم البرد , ولا
يقدر على الذود عن نفسه , وليس له من الآلات الطبيعية ما يثقف به معيشته , وهو
محتاج في ضروريات حياته , ومفتقر في الكمال فيها إلى الصناعة , ولا يمكن
الحصول عليها إلا بإجالة الفكرة , والتعاون بمن يشاركه في العقل من النوع
البشري.
والعقل أن تستنبط المسببات من أسبابها , ويستدل بالعلل على معلولاتها ,
وينتقل من الملزومات إلى لوازمها , وتستكشف الآثار حين ملاحظة مؤثراتها ,
وتعرف العواقب ضارها ونافعها , وتقدر الأفعال بمقاديرها على حسب ما يمكن أن
يطرأ عليها من الفوائد والخسائر في عاجلها وآجلها , ويتميز الحق من الباطل في
الأعمال الإنسانية نظرًا إلى عواقبها.
العقل (أي: بهذا المعنى) هو الهادي إلى مهيع السعادة , ومنهج الأمن
والراحة , لا يضل من استرشده , ولا يغوي من استهداه , ولا يحوم الشقاء حول
من ركن إليه , ولا يعثر في المداحض من اعتمد عليه , ولا يلتبس الحق بالباطل
على من استنار بنوره , وإن الخير به، وليس الشر إلا بالحيدان عن صراطه القويم،
من فقده فاتته السعادة لا محالة , ولو أخرجت له الأرض أفلاذها , وأسبغت عليه
الدنيا نعيمها , وإن الأمم ما سادت إلا بهدايته , وما ذلت بعد رفيع مقامها وعظم
منزلتها إلا بعد أن عرضت عن خالص نصحه , وتوغلت في بيداء غوايتها ,
واستعملته في مسالك ضلالتها , واستخدمته لقضاء أوطار طبائعها الخسيسة , التي
تجلب عليها الشنار , وتوجب المعرة والصغار.
والنفس هي منشأ أخلاق كريمة , وأوصاف عقلية , هي قوام الاجتماعات
المدنية والمنزلية , وأساس التعادل , وميزان التكافؤ في الموازنات , ومقياس
التوافق في المعاونات , ولا يمكن التآلف بين القوى المتفرقة لاقتناء ما تقوم به
حياة الإنسان إلا بها , ولا تلتئم أهوية النفوس المختلفة؛ لاكتساب ضروريات
معاشها إلا بسببها , وهي التي تجعل الأفراد الإنسانية مع تضاد طبائعها بمنزلة
شخص واحد , يسعى بأعضائه المتخالفة في أشكالها , وجوارحه المتباينة في هيئاتها
إلى مقصد واحد , لا يمكن الوصول إليه إلا باستعمالها بحركات , قد اختلفت مع
وحدة جهتها أوضاعها , وسيادة الأمم الغابرة والحاضرة , هي من أخص نتائجها،
لأنها لا يمكن حصولها إلا باتفاق كلمة آحادها , واجتماع آراء أفرادها , ولا تتفق
الكلمة ولا تجتمع الآراء إلا بالتكافؤ في المساعي , والتوازن في تحمل المشاق،
والاشتراك في المنافع , والمساواة في الحقوق , والتعادل في التمتع بثمرات الأعمال
بلا تفاضل ولا استئثار.
وكل هذه في وجودها وبقائها تحتاج إلى الأخلاق الكريمة والأوصاف
العقلية التي يعرف الإنسان حقه , ويقف عنده , ولا تشتت أمة , ولا اضمحلت
سلطة , ولا تفرقت جمعية إلا بفساد أخلاقها , وتطرق الخلل في سجاياها؛ لأنها
بفسادها وتطرق الخلل فيها , توجب تخالف الأيدي , وتباعد الأهواء وتضارب
الآراء , وتباين الأفكار , فيستحيل حينئذ الاجتماع ويمتنع الاتفاق.
وإذا أمعن البصير في حقيقة الأخلاق الرذيلة يعلم أنها بذاتها تبعث على التفرق
والاختلاف , وتمنع من الاجتماع والائتلاف , وما ينشأ عن ذات الشيء لا يمكن
زواله ما دامت ذاته باقية , فإذا تمكنت الأخلاق الرذيلة من أمة , فلا يرجى لها
نجاح , ولا يحصل لها فلاح , ما لم تسع في تعديلها , وتدأب في تقويمها.
ويمكن أن يقال: إن بين كمال العقل وطهارة النفس وتخلقها بالأخلاق الفاضلة
تلازمًا؛ لأن العقل إذا بلغ كماله يقهر الطبيعة , فحينئذ تسلم النفس من سوراتها ,
وتخلص عن عكر قذفاتها , فتنقاد للعقل مستسلمة له خاضعة لحكمه , ويستعملها
العقل على نهج الحق والعدل , وليست الأخلاق الفاضلة إلا أن تزن النفس أعمالها
بميزان العدل , ولا تحيد في هواها عن صراط الحق.
الشعبة الأولى من المقصد في أسباب انحطاط الشرق:
وبعد هذه المقدمة يمكن لنا أن نقول: إن الشرق بعد ما كان له من الجاه
الرفيع , والمقام المنيع , والسلطنة العظيمة , وبسطة الملك , وعظم الشوكة ,
وكثرة الصنائع والبدائع , ووفور الأمتعة والبضائع , ورواج سوق التجارة , وذيوع
العلوم والمعارف , وشيوع الآداب والفنون؛ ما هبط عن جليل مرتبته , وما سقط
عن رفيع منزلته , ولا استولى الفقر والفاقة على ساكنيه , ولا غلب الذل والاستكانة
على عامريه , ولا تسلطت عليه الأجانب , ولا استعبدت أهله الأباعد إلا لإعراض
الشرقيين عن الاستنارة بنور عقولهم , وتطرق الفساد في أخلاقهم.
فإنك تراهم في سيرهم كالبهائم , لا يتدبرون أمرًا , ولا يتقون في أفعالهم
شرًّا , ولا يكدون لجلب النافع , ولا يجتنبون عن الضار [١] , طرأ على عقولهم
السبات , ووقفت أفكارهم عن الجولان في إصلاح شؤونهم , وعميت بصائرهم عن
إدراك النوازل التي أحاطت بهم , يقتحمون المهالك , ويمشون المداحض [٢] ,
ويسرعون في ظلمات أهوية نفوسهم التي نشأت عن أوهامهم المضلة , ويتبعون
في مسالكهم ظنونًا قادهم إليها فساد طبائعهم , لا يحسون المصائب قبل أن تمس
أجسادهم , وينسونها كالبهيمة بعد زوال آلامها , واندمال جراحها.
ولا يشعرون؛ لاستيلاء الغباوة على عقولهم , واكفهرار ظلمات غشاوة
الجهل على بصائرهم , باللذائذ التي خص الإنسان بها من حب الفخار في طلب
المجد والعز , وابتغاء حسن الصيت , وبقاء الذكر، بل لاستيلاء الغفلة على
عقولهم يحسبون أن يومهم دهرهم , والتقمقم كالسارحة [٣] شأنهم , لا يدرون
عواقبهم , ولا يدركون مآل أمرهم , ولا يتداركون ما فاتهم , ولا يحذرون ما
يتربصهم [٤] من أمامهم ومن خلفهم , ولا يفقهون ما أمكن لهم الدهر من الشدائد
والمصاعب , ولذا تراهم قد رئموا الذل , وألفوا الصغار وأنسوا الهوان , وانقادوا
للعبودية , ونسوا ما كان لهم من المجد المؤثل , والمقام الأمثل.
وبعد انحدارهم عن ذروة العقل الذي لا كرامة للإنسان إلا به , غلبت عليهم
الخسة والنذالة , ورانت على قلبهم القسوة والجفاء , وتمكن من نفوسهم الظلم
والجور , واستولى عليهم العجب , لا عن جاه يدعو إليه , ولا عن فضيلة تبعث
عليه , وتظاهروا مع الذل المتمكن من قلوبهم بالكبر والعظمة , وفشا بينهم
الشقاق والنفاق , وتلبسوا بالغدر والخيانة , واستشعروا الحسد والنميمة , وتسربلوا
بالحرص والشره , وتجاهروا بالوقاحة والشراسة , واتسموا بالخشية والجبانة ,
وانهمكوا في الشهوات الدنية , وخاضوا في اللذات البدنية , وتخلقوا بالأخلاق
البهيمية , متوسدين الكسالة والفشل , واتصفوا بصفات الحيوانات الضارية ,
يفترس قويهم ضعيفهم , ويستعبد عزيزهم ذليلهم , يخونون أوطانهم , ويظلمون
جارهم , ويستلبون أموال ضعفائهم , ويخوسون بعهدهم [٥] , ويسعون في خراب
بلادهم , ويمكنون الأجانب ديارهم , لا يحمون ذمارًا , ولا يخشون عارًا , عالمهم
جاهل , وأميرهم ظالم , وقاضيهم خائن , ليس لهم هادٍ فيرشدهم إلى سبيل نجاتهم،
ولا زاجر فيكفون عن التمادي في غيهم , ولا وازع يقدع الجائرين عن نهش عظام
فقرائهم , وصاروا جميعًا بسخافة عقولهم , وفساد أخلاقهم , عرضة للهلاك.
(لها بقية وهي الشواهد التاريخية)
((يتبع بمقال تالٍ))