جاء في جريدة ثمرات الفنون الغراء تحت هذا العنوان ما نصه: ما استعمر الأوروبيون قرية أو بلدة إلا واستبدلوا أخلاق أهليها واستنزفوا ثروتهم إذا لم نقُل دماءهم، وارتكبوا فيها أنواعًا من الفظائع المنكرة، مما تستك من هوله الأسماع وتتبرأ منه المدنية الحقة، وذلك بزعم إرهاب البلاد التي يستعمرونها، فلا يعصون لهم أمرًا، ومن المشهور عن عدلهم أنهم لا يعاملون أهالي المستعمرات معاملة رعاياهم الأصليين، فالذي يجوز للإنكليزي الأصل مثلاً أن يعمله في الهند لا يجوز للهندي عمله، أو أن يتمتع هذا بالحقوق التي يتمتع بها ابن التاميز، وبالأخص إذا كان سكان المستعمرة من المسلمين، وكثيرًا ما يقتلون الأنفس بغير ذنب أو بمجرد الوهم والتصور إلى غير ذلك من الأعمال الوحشية. ومن العجيب أنهم مع هذا كله ينادون (نداءً جهوريًّا عريضًا) أنهم نصراء الإنسانية وحلفاء المدنية، وأنهم لا يودون إلا خير بني الإنسان وراحتهم بوجه عام، دون الالتفات إلى الأجناس والأديان. دعوى باطلة وتشامخ كاذب، فيا شقاوة العباد الذين قضى عليهم الدهر فكانوا سكان بلاد اتخذها الأوروبيون مستعمرة لهم. ولكيلا يذهب الوهم بالقارئ الكريم أننا امتطينا في قولنا هذا مطية المغالاة، نورِد له هنا حادثة قالها القوم أنفسهم، ومعلوم أن الإنسان قد لا يذكر فظائع نفسه بالتمام، بل كثيراً ما يسدل عليها ثوبًا من التمويه. قالت جريدة التيمس وألايكو بتاريخ ٣٠ حزيران سنة ١٨٩٤ عدد ٨٦١ صحيفة ٥١٨ تحت عنوان: (الفرنسيس في غربي إفريقية) ما تعريبه: (نقل إلينا ركاب الباخرة المسماة (ايل رمز) وبحَّارتها حادثة حدثت في مستعمرة جبون الإفرنسية، وهي أن أحد التجار الفرنسويين قد عامل أربعة رجال من أهالي المستعمرة بسلع تجارية، ولما استحق له عندهم مبلغ قليل من المال ذهب إلى قريتهم وطالبهم بذلك، فاستمهلوه مدة ريثما يتأتى لهم جمع المال، فأبى وشدد عليهم النكير بالطلب وأخذ يؤنبهم ويشتمهم مما أفضى إلى المخاصمة، فاستلَّ الفرنسي مسدسًا وأطلق رصاصة على أحد الأربعة فقتله، ولما رأى الثلاثة رفيقهم يتخبط بدمه قبضوا على القاتل الإفرنسي ونزعوا المسدس من يده وراموا وثاقه وتسليمه إلى الحكومة، فلم يستطيعوا ذلك إذ فر من بينهم بواسطة ... ولم يكتفِ القاتل بما عمل، بل ما بلغ مقر حكومة المستعمرة إلا وشكَا أولئك الثلاثة، فأرسلت الحكومة إليهم عدة من رجال الدرك فجاءوا مكبلين دون أن يعبأ أحد بالدم المسفوك ظلمًا وعدوانًا. ولما أُحضر الثلاثة لدى المحكمة الفرنسوية وقصوا عليها دعواهم بالحق لم يستطع الفرنسي القاتل الإنكار، بل أقر بفعله وقال: إنني قتلت منهم نفسًا غير أنهم أوسعوني بعد ذلك ضرباً وراموا وثاقي والإتيان بي إلى هنا موثقًَا ففررت، فصدر حكم المحكمة العادلة إذ ذاك: لا يُقتل القاتل، بل يُقتل الثلاثة الذين ضربوه لقتله رفيقهم بدعوى أن ليس لهم حق بإماتة رجل إفرنسي ولو كان قاتلاً. ولما كان اليوم التالي سِيقَ أولئك الثلاثة المساكين إلى فسحة في ظاهر البلدة، ورُبطوا بالأشجار وأطلق عليهم الجندي الفرنسي الرصاص حتى فارقوا الحياة، وتُركوا مدة على حالهم هذا دون أن يُوارَوا التراب ليُعتبر بهم، ولا يتجاسر أحد على إهانة الفرنسوي وإن كان قاتلاً. اهـ. هذه ثمرة من ثمر الاستعمار الأوروبي، وهذا هو نظام تمدنهم وشغفهم بخير النوع الإنساني ونصرتهم للمدنية، فليتدبره أولو الألباب. ومن غريب الاتفاق أنه في ذلك الشهر الذي حدثت فيه هذه الحادثة التي لم يرو لنا التاريخ أفظع ولا أقبح منها، حتى ولا من أشر خلق الله وأشدهم غلظة وهمجية - فرجت دولتنا العلية العثمانية عن كثير من أشقياء الأرمن الذين سعوا في الأرض فسادًا. وقالت الجريدة الإنكليزية ذاتها بتاريخ شهر آب سنة ١٨٩٣ تحت عنوان (قتال شديد) ما نصه (مترجمًا) بالحرف: لما وصلت المدرعة الإنكليزية (بنش) أنزلت بحارتها مدججين بالسلاح وذهبوا بقيادة الكونت لوفاتلي مع من عنده من الجند إلى التل المعروف بتل الأتراك، ومن ثم إلى مدينة هجوان وداهموها على حين غفلة من أهلها، فلم ينجُ منهم أحد، ثم أوقدوا النار بمنازلها، فمن لم يمت بالرصاص قتلاً مات بالنار حرقًا، ولم يمض عليها بضع ساعات حتى أصبحت قاعًا صفصفاً، كأنها لم تكن بالأمس، ثم قالت الجريدة: ولقد أحسن الكُنت المذكور في عمله هذا غاية الإحسان، إذ بهذه الأعمال يُرهب أهل البلاد ويفزعون. اهـ. هاؤم أيها القوم نغمة أخرى من نغمات المدنية الأوروبية في مستعمراتها، ولو رامت دولتنا العلية قصاص أحد المفسدين من الأرمن وغيرهم ممن ارتكبوا ما ارتكبوه من أنواع الفظائع وضروب المنكرات لثار ثائر القوم في أوروبا ينادون: يا للإنسانية، يا للمدنية، يا.... يا.... .، ولما كانوا هم قاتلي الأبرياء الذين بينهم الأطفال الرضع والعجائز كما مر آنفاً، قاموا يحمدون هذا الفعل الفظيع الذي لا يسعنا إلا أن نعده ضربًا من ضروب التمدن الجديد، وقانا الله شره. قال حضرة المطران كولونصو الإنكليزي في كتابه المدعو (خراب بلاد الزولو) وهو مجلدان مطبوع في عاصمة البلاد الإنكليزية عام ١٨٨٤، وقد صدر الوجه الأول من المجلد الأول منه برسمه وكتب تحته ما تعريبه بالحرف: (إنه لمخيف ومحزن أن نرى تيار الشرور قد طغى طغيانًا عظيمًا في البلاد (أي بلاد الزول) وليس بالإمكان إيقافه، وأن أمنع من إظهار المظالم وبيان الجور من هذه الحرب الزولية، حتى كان ما كان، ولم يتمكن من إيقاف سفك الدماء ومنع خراب البلاد وتدميرها ظلمًا وعدوانًا، حتى فات الوقت لحفظ حياة ألفي جندي إنكليزي ووطني (ممن يستخدمه الإنكليز) وعشرة آلاف رجل من الزوليين. كما فات حفظ اسم إنكلترا من أن يصبح عَلمًا عند أهل هاتيك البلاد للظلم والجور والخيانة، والعسف بعد أن كان علمًا للعدالة والأمانة والرأفة والإحسان. اهـ. وذلك كلام رئيس روحي ترجم التوراة إلى لغة الزولو، وقد كان بودِّنا نشر ما أودعه في كتابه هذا من أنواع المظالم وضروب الرشوة وسفك الدماء، إلى غير ذلك مما نرجع إليه إن شاء الله. اهـ.