ومانع الزكاة من الإيمان جمع أدلته من الكتاب والسنة / محمد علي أبو زيد الطالب بكلية دار الدعوة والإرشاد (٣)
فها أنت ذا قد سمعت من الآيات ما يدلك على أن مانع الزكاة مشرك بالله، لأنه آثر المال على الله [١] ، وكافر بيوم المعاد؛ لأنه لو كان عنده جزم بل ظن به لَحَمَلَهُ على الإنفاق، فلا أخالك تشك في أنه محروم من الجنة، وأن {مَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ} (الأنفال: ١٦) . وهاك أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدالة على ما قلنا، المؤيدة لما ذكرنا. أخرج ابن عساكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (أقسم الله تعالى ألا يدخل الجنة بخيل) وفي رواية للخطيب (يحلف الله بعزته وجلاله ألا يدخل الجنة شحيح ولا بخيل) . وأخرج ابن أبي شيبة، وهناد، والنسائي، والحاكم، والبيهقي عنه - صلى الله عليه وسلم - (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا) ، وفي رواية لابن عدي: (لا يجتمع الإيمان والبخل في قلب رجل مؤمن أبدًا) . فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبين للدين، الناطق عن الله، أراك أن البخيل لا يدخل الجنة، ولم يأت بالخبر إلا مؤكدًا بالقسم عن الله تعالى. ولا يخفى أن البخل خلق في النفس يمنع صاحبه من بذل فضله لمن يحتاج إليه، والشح أشد من البخل، فهو أكثر منعًا منه لصاحبه، وكلاهما ضد للإيمان الذي يحمل صاحبه على بذل روحه في سبيل ربه، فضلاً عن بذل ماله وفضله، فكيف يكون المانع للزكاة مؤمنًا، وهو لم يمنع الزكاة إلا حرصًا على المال، وإيثارًا له، وشحًّا به على الله؟ فلا شك في كفره وحرمانه من الجنة كما أخبر الله ورسوله. وهنا ربما تقول: أتيتنا بآيات في الصلاة وصفت تاركها بالشرك والكفر والنفاق، ولم تصف آيات الزكاة مانعها إلا بالشرك والكفر فقط، فأقول لك: قد جاء في القرآن أيضًا وصف المنافقين بمنع الزكاة، قال عز شأنه في سورة التوبة: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} (التوبة: ٦٧) فقبض اليد هو إمساكها عن الإنفاق الواجب من زكاة وغيرها، وقد علمت حال المنافقين ودرجتهم مما سبق، فلا حاجة إلى الإعادة، وإلى هنا ننتهي من أدلة الزكاة وحدها. وإني أتلو عليك آيات في الصلاة والزكاة معًا (قال) الله تعالى في سورة البقرة: {لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (البقرة: ١٧٧) إلى أن قال: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} (البقرة: ١٧٧) فانظر كيف جعل البر الإيمان بالله واليوم الآخر، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهد، والصبر في الشدائد، وتراه قد ابتدأ بالإيمان، وعقَّبه بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة لأنهما تابعان له، لا ينفكان عنه، ثم ذكر بعدهما الوفاء بالعهد، والصبر في الشدائد، وهما من الأخلاق التي تدعو إليها الصلاة، وتثبتها في النفس، وقد عرفت ذلك فيما تقدم من الحكمة. ولما كان الإيمان يستلزم إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وما يتبعهما من الأعمال والأخلاق، وكان محالاً - بحسب سنة الله تعالى - أن يوجد الإيمان في قلب المرء، ويستقر من غير أن يحرك الجوارح لتلك الأعمال، ذيل الآية بقوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} (البقرة: ١٧٧) أي أولئك الذي أقاموا الصلاة، فأتوا بها معدلة مقومة، وآتوا الزكاة لمستحقيها بنفس طيبة، واتصفوا بهذه الأخلاق الفاضلة، هم الذين صدقوا في إيمانهم، وهم الذين فعلوا ما يقيهم عذاب ربهم، دون غيرهم، وهذا نص صريح في أن من يدعي الإيمان من غير أن يكون مصليًا لله مزكيًا، تكون دعواه باطلة كاذبة، إذ لم يأت عليها من أعماله بشاهد أو بينة [٢] . وقد قضت حكمة الله تعالى أن يكون الإيمان حياة للروح، كما أن الدم حياة للجسم، وكلاهما يحتاج إلى ما يمده ويقويه، فكما أن الدم يطلب بطبيعته أن تأتي له الأعضاء بمواد تجهزها له، وتمده بها ليقوى ويزاد صلاحًا لتقوية الجسم على حاجاته، كذلك الإيمان يطلب عملاً صحيحًا تقوم به الجوارح من الصلاة والزكاة وغيرهما ليغذيه ويزيده قوة؛ فتقوى بقوته الروح، وتستعد بزيادته النفس لأن تكون ملكية صالحة لجوار الله تعالى، وأهلاً للتمتع بجناته ورضوانه. وهذا هو السر في أن الإيمان متى قام بالنفس صرّف الجوارح في العمل حتمًا، وأن الإيمان لا يوجد في قلب امرئ لا يصلي أو لا يزكي، كما سمعت من الآيات التي تقرن الإيمان بالعمل على الدوام، وتكذب من يدعي الإيمان ولا يعمل؛ لأنه لو كان صادقًا لأتى بالصلاة والزكاة التي تصدقه وتشهد له، وقد علمت أن غير الصلاة والزكاة من الفضائل هو تابع لهما بالضرورة؛ ولذلك تجد الآيات تقرنهما بالإيمان، وتذكر غيرهما بعدهما، وفي كثير من الآيات يُستغنَى بذكرهما بعد الإيمان، للإشارة إلى ذلك. (قال) تعالى في وصف المؤمنين في سورة النساء: {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} (النساء: ١٦٢) . س: لِمَ قال (والمقيمين) فأتى بها منصوبة على غير المألوف لنا من قواعد النحو في العطف؟ ج: لتنبيه الذهن، فهو تخصيص يظهر لك به قيمة المقيم للصلاة، وتأكيد للعناية بها،إذ هي الأصل للفضائل كما أسلفنا، والناهية عن الفحشاء والمنكر، وقد أردفها بأختها الزكاة وجعلهما معًا وسطًا بين الإيمان بالكتب المنزلة من السماء وبين الإيمان بالله وبالجزاء، ليفيد أنهما مظهر الإيمانين، وأن المؤمن لا بد أن يتصف بالصفتين. وكأنه يقول: إن من لم يتحل بالصلاة والزكاة، لا يكون مؤمنًا بالله، ولا خائفًا من عذاب الله، اسمع قوله تعالى في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} (النور: ٣٦- ٣٨) الآية. تجد أنه جعل خوف هؤلاء الرجال من يوم القيامة وهوله، وما يلاقيهم هناك من حسابه، سببًا في ذكرهم ربهم، وإقامة صلاتهم، وإيتاء زكاتهم، كما أن فعلهم الصلاة والزكاة نتيجة ثقتهم بأن الله يشكرهم على فعلهم، ويمتعهم بثمرة أعمالهم، فالآيات تنادي بأن من لم يقم الصلاة، ولم يؤت الزكاة، ولا يخاف ذلك اليوم - يوم الدين - ولا يثق بثواب رب العالمين، إذ النفس مفطورة على فعل الشيء متى ترجح لها فيه الخير، والابتعاد عنه إذا علمت منه الضرر، وهذه قاعدة نفسية، تجرى عليها جميع الأعمال البشرية، فمن ادعى خلافها فهو كاذب، ألا تراك حين تعلم أنك إذا وضعت يدك في جحر الثعبان؛ فإنه يلدغك، أو أكلت طعامًا فيه سم؛ فإنه يقتلك، لا تستطيع بحسب فطرتك أن تقدم عليه البتة، اللهم إلا إذا زال من نفسك هذا العلم بالضرر، أو أصابك شيء في العقل؛ فترجح لك النفع في الموت، ولكن ما دام العقل سليمًا، والضرر مرجحًا؛ فإنك لن يمكنك الإقدام عليه، فارجع إلى وجدانك، وحقق منه ذلك، فإنك لا تشكّ في أن تارك الصلاة ومانع الزكاة، لم يمنعه من أدائهما، إلا ما قام بنفسه من ترجيح الخير في تركهما، وعدم يقينه بأنه سيعذب على عدم المبالاة بهما، ولو قرأت قوله تعالى عقب هذه الآية مباشرة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} (النور: ٣٩) الآية؛ لرأيت أنه يقابل الآية التي قبلها، ومن المعلوم في سنة القرآن أن يذكر الكافرين، في مقابل المؤمنين، فيريك أن من يتخلى عن تلك الصفات إنما هم الكفار، ولا بد للمؤمنين من الاتصاف بها، فبها يعرفون، وبها يميزون. قال تعالى في سورة المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (المؤمنون: ١-٤) . جعل الفلاح للمؤمنين الخاشعين في صلاتهم، الفاعلين لزكاتهم، فافهم ألا فلاح لغير المؤمن، كما أنه لا إيمان لمن لا يصلي خاشعًا، ويزكي محبًّا. س: عهدنا من القرآن أن يذكر الزكاة بعد الصلاة من غير فصل، فلماذا فصل بينهما هنا بقوله: ( {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون: ٣) ج: لينبهك إلى نكتة جميلة وحكمة جليلة، وهي أن الصلاة التي ليس فيها خشوع لا يعبأ بها وأنها لغو يتنزه المؤمنون عنها، فليكن لك من كلام الله عبرة ترجع فيما تطالبك به نفسك إليه، وتقيس أخلاقك وما تأتي به من الأعمال عليه، فما لك من قسطاس مستقيم يزن الأعمال بالضبط غيره، ولا مقياس صحيح يحدد الصفات بالحق سواه {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ} (الجاثية: ٢٩) ، {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (المؤمنون: ٦٢) . (وقال) تعالى في سورة النمل: {طس تِلْكَ آيَاتُ القُرآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (النمل: ١-٣) . (وقال) في سورة لقمان: {الم * تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (لقمان: ١-٥) . تراه هنا قد حصر الفلاح فيهم، وأفادك أمرًا آخر، وهو أن الصلاة والزكاة مع ملازمتهما للإيمان بالآخرة، قد يأتي بهما المرء عن غير داعية الإيمان، إما للرياء أو الإكراه، وحينئذ لا يكون له حظ في هداية القرآن، ولا البشرى بالجنة والرضوان، ومن كان هذا حاله، لا تنفعه صلاته، ولا تقبل منه نفقاته. (قال) تعالى في سورة براءة: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ * فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة: ٥٤-٥٥) . أنزل الله ذلك في شأن المنافقين الذين لم تكن صلاتهم عن إيمان؛ فينشطوا إليها، ويرتاحوا بها، ولم تكن نفقاتهم عن إخلاص؛ فينفقوا عن طيب نفس ورغبة في القبول؛ فبذلك كفروا، وجعل الله أموالهم وأولادهم فتنة لهم، ووبالاً عليهم، وسينتقم منهم {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء: ٨٨-٨٩) من عيوب الشرك والنفاق. هذا وقد تضافرت الآيات الناطقة بأن الصلاة والزكاة هما علامتا الإيمان بالله، ودليلا الإخلاص له، وأنه لا يصح إيمان بدونهما، كما أنهما لا تقبلان من غير أن يكون الإيمان باعثًا عليهما، وها أنا ذا أزيدك على ما تقدم منها ما تقطع بعد تدبره بأن تارك الصلاة ومانع الزكاة لم يمس الإيمان قلبه. قال العزيز الحكيم في سورة السجدة الم: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (السجدة: ١٥-١٦) (وقال) تعالى في سورة الأنفال {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاًّ} (الأنفال: ٢-٤) وقد أتى في الآيتين بلفظ (إنما) الذي يدل على الحصر، كأنه يقول سبحانه: إنه لا يوجد الإيمان الصحيح إلا فيمن يكون هذا شأنهم، وتلك صفاتهم، فمن لم يهتز قلبه لذكر الله، ولا يخضع ويذعن لأوامره، فيرجو ثوابه، ويخاف عقابه، فليس بمؤمن، وإن سمى نفسه مؤمنًا؛ لأن المؤمن يدور دائمًا بين خوف ورجاء، فخوفُه عذابَ ربه يزجره عن المنكرات، ورجاؤه ثوابه يدعوه إلى المسارعة في الخيرات، فمن لم يك كذلك، فاعتقد كذبه في دعوى الإيمان، وحسبك شهادة الله لمن يقيم الصلاة ويعطي الزكاة بعد ما تقدم بقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاًّ} (الأنفال: ٤) بالحصر المؤكد بالحق، فهل بعد هذه أدلة، تشفي من الغلة، أو ينتظر برهان، أرقى من القرآن؟ ولنختم الموضوع بآيات أخرى ودلائل، ولا تدع بعدها قولاً لقائل، فنتلو قول الله الكريم: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ} (التوبة: ١) الآيات، ففيها يقول الله للمسلمين {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: ٥) ، وفيها يقول: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (التوبة: ٧) - إلى أن قال -: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ * فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: ١٠-١١) . أمرهم بألا يَعْتَدُّوا بتوبتهم من الشرك والاعتداء، إلا إذا اتبعوا التوحيد بإقامة هذين الركنين للدين؛ لأنهم بهما يصيرون مسلمين متآخين، وعلى هذا سار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -، وقتال الخليفة أبي بكر بإجماع الصحابة لمانعي الزكاة، وعده إياهم خارجين بتركها مشهور، وبه علم أن الإسلام أركانه متضامنة، لا يقام إلا بإقامتها جميعها، وينهدم بهدم أي ركن منها، وقد عزز ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضًا بالحديث الذي خرَّجه الإمام أحمد [٣] (أربع فرضهن الله في الإسلام فمن جاء بثلاثة لم تغنين عنه شيئًا حتى يأتي بهن جميعًا: الصلاة والزكاة وصوم رمضان وحج البيت) ، وقد علمت مما تقدم أن من يقيم الصلاة بالخشوع، ويؤتي الزكاة بالإخلاص، لا يسعه أن يترك غيرهما من الفروض، ولا يمتنع عن تقوى الله ما استطاع، ولذلك اختصرنا عليهما إذ يوشك أن تضيع كل فضيلة بضياعهما، وعدم المبالاة بهما. فاتقوا الله يا معشر المسلمين، واعملوا أنكم لستم بمأجورين، حتى تحذوا حذو سلفكم الصالحين، فتكونوا بالصلاة والزكاة آمرين مؤتمرين، وعلى يد التاركين لهما ضاربين، ( {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: ١١) تتعاونون على نشره، وتتكاتفون في إحياء شعائره، فتعلون كلمته، وتجنون ثمرته. هذه نصيحتي أقدمها إليكم، عسى أن تكون وسيلة لديكم، فتطلبوا الحق من القرآن، ولا تستبدلوا التقليد بالبرهان. هداني الله وإياكم ... ... ... ... ... ... ... ... محمد علي أبو زيد (المنار) عنوان هذه الرسالة، والكثير من عباراتها مخالف في ظاهره لمذهب أهل السنة في عدم تكفير المسلم بترك فريضة أو فعل معصية، وموافق لمذهب الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة، كترك أحد أركان الإسلام، أو اقتراف القتل، أو الزنا، أو شرب الخمر، وقد تعارضت ظواهر نصوص الكتاب والسنة في هذا الباب، فأطلق اسم الكفر في بعض أحاديث صحيح مسلم على ترك الصلاة، وعلى الطعن في النسب والنياحة على الميت، وفي حديث الصحيحين " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " (وفيهما) (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) ، وقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (الحجرات: ٩) فسماهما مؤمنين، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: ٤٨) فجمع أهل السنة بين هذه النصوص وأشباهها بأن لفظ الكفر - ومثله الفسق والظلم - ورد في الكتاب والسنة بالمعنى اللغوي، فأطلق على كفر النعمة، وعلى الشرك، وما في معناه من منافيات الإيمان بالله ورسوله، وتصديق ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الله تعالى، وكذلك الفسق والظلم، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: ١٣) ، {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: ٢٥٤) ، {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (يونس: ٣٣) ، وقال {َ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ} (البقرة: ١٩٧) فهذا الفسق دون ما قبله، وكذلك لفظ الشرك، وهو أقبحها أطلق على ما دون اتخاذ إله مع الله فسمي الرياء شركًا. وجملة القول: إن أهل السنة لا يكفرون أحدًا من المسلمين بمعصية يرتكبها فعلاً كانت أو تركًا وإن كانت من الكبائر، إلا أن بعض أئمة أهل السنة من الصحابة والتابعين قالوا بكفر تارك الصلاة كما تقدم في تعليقنا على حديث مسلم في أول هذه الرسالة، وأطلق جمهورهم كلمة (المرتدين) على مانعي الزكاة بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما أطلقوه على من رجعوا عن الإسلام إلى الشرك أو الإيمان بنبوة الكذابين مسيلمة والأسود العنسي؛ ولكن قال علماء السنة: إن الذين منعوا الزكاة تأولاً بأن أخذها خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسموا مرتدين إلا بالتبع لغيرهم، أو بمعنَى الارتداد اللغوي، وإن الإجماع انعقد في عهد الصحابة بأن من منع الزكاة متأولاً - ومثله من جحد ما في معناها وحكمها - تقام عليهم الحجة أولاً فإن اعترفوا بوجوبها ولم يؤدوها لا يحكم بكفرهم بل يقاتلون قتال البغاة لا الكفار، كما قاتل الصحابة الخوارج ولم يكفروهم، ولا عاملوهم معاملة الكفار في القتال. هذا، وإن وراء هذه المسالة بحثًا آخر وهو: أنه لا يعقل أن يكون المرء مؤمنًا بالله تعالى، وبرسوله، وباليوم الآخر على الوجه الحق الذي دعا إليه القرآن، ومسلمًا مذعنًا في ظاهره وباطنه لما جاء به النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو يترك الصلاة التي هي عماد الإسلام، وركنه الأعظم للعبادات الشخصية، والزكاة وهي ركنه الأعظم الذي تقوم عليه حياته الاجتماعية، غير مبال بنصوص الكتاب والسنة التي قرنتهما بالإيمان، وعدتهما أعظم أركان الإسلام، وقد عد السلف العمل بما أمر الله ورسوله داخلاً في مفهوم الإيمان، والإذعان شرط لصحة الإيمان بالاتفاق، وكيف يكون مذعنًا من لا سلطان للأمر والنهي على قلبه، ولا يظهر لهما أثر في عمله؟ لقد أحسن من عبر عن المسألة بقوله (لا نكفر أحدًا من أهل القبلة) أي من ثبت إسلامه بإذعانه لما جاء به نبينا، بأن كان يصلي معنا إلى قبلتنا، ويلتزم أحكامنا وشعائرنا؛ فإننا لا نحكم بكفره لذنب يقترفه بجهالة كثورة غضب، أو نزوة شهوة، أو فريضة يتركها بشغل عارض، أو برد قارس، ثم يتوب من قريب، إذعانًا لمقتضى الوعد والوعيد {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (النساء: ١٧) ، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: ١٣٥) لا إيمان لمن لا إذعان له، ولا إذعان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا عمل له، وأعمال الإسلام قسمان أركان كأركان البيت يتوقف عليها وجوده، وواجبات ومندوبات يتوقف عليها كماله، فهذا هو الإسلام الديني. وهناك إسلام آخر هو عبارة عن جنسية سياسية أو اجتماعية تنال بالوراثة، أو بالانتماء إلى قوم يسمون مسلمين، وهذا الإسلام لا يشترط فيه العلم بعقائد الإسلام الديني، ولا القيام بأركانه وشعائره الظاهرة، ولا ترك محرماته المجمع عليها، ولا استقباحها، ولا ينافيه إنكار شيء من القرآن، ولا استقباح شيء من شرعه كتحريم تبرج النساء والخمر والقمار، وإنما يُعْرَف بالاسم وبمشاركة المسلمين في بعض احتفالات أعيادهم، ومواسمهم المشروعة والمبتدعة، وبعدم التزام شعائر دين آخر، وإننا نرى بعض الملاحدة من هذا الجنس يريدون هدم الإسلام الديني بالإسلام الاصطلاحي الجنسي، حتى أنهم يبيحون جحد المجمع عليه المعلوم منه بالضرورة، وأولئك هم المرتدون المنافقون.