هذا هو حديثنا بالأمس، جلوناه على منصة (المنار) الأغر، وضممناه إلى ما يكتب فيه من قلم منشئه، صديقنا الفاضل، ورَفَعْنَا صوتنا على ذروته مع أصوات أولئك الكتبة الأكارم الذين يلقون إليه بمنشآتهم، ويتخذونه منبرًا لإبلاغ خطبهم وعظاتهم، ولا أكتم القراء أني لم أقتصر فيما كتبته على مجرد الحديث الذي دار بيننا، بل أضفت إليه ما كان يسنح في الخاطر، ويهجس في النفس أثناء كتابته، وزدت فيه بعض أمور يتطلبها المقام، وشيئًا من الشواهد التي توضح خفايا الكلام، وقد أتيت على ذكر معظم الأخطار التي تحدق بالشعوب الإسلامية، والمهاوي التي يُخشى أن يواقعوها، ولم آلُ جهدًا في التحذير، وإمحاض النصح، واستنهاض الهمم؛ لملاقاة الخلل والفساد الذي لصق بنفوسنا، ولابَسَ أعمالنا، صرحت بذلك في بعض المواطن، وفضلت التلميح والتعريض في مواطن أخر. وليس من رأينا ما يراه البعض من وجوب كتم مساوي الأمة، وإخفاء عللها وأمراضها، صونًا لحرمتها عن الابتذال، وكرامتها من الامتهان، وذهابًا إلى أن في الإشادة (رفع صوت والإعلان) بالتشنيع عليها، وتشهير عوراتها، واللهج بسوء حالتها، ووخامة عاقبة توانيها - توهينًا لعزائم آحادها، وتثبيطًا لهممهم، مع ما في ذلك من اطلاع العدو على ضعفها، والإشراف به على تراخي شؤونها، فيحدث له طمع فيها، ويتوسل بذلك للتسجيل عليها بالانحطاط الأدبي والتأخر المدني، وأن الطريقة المثلى في خدمة الأمة إنما هي التمويه والتأويل، والتخييل والتعليل، وإرخاء الحبال على الغوارب، ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً. كذا يزعم البعض، ولا أراه إلا خطأ وغبانة (أي ضعفًا في الرأي) من يقول: إن الجهل المركب خير من الجهل البسيط؟ إن كان يقوله أحد فزعم الزاعم صحيح. من يقول: الأحسن في حق المريض الجاهل بفن (الهيجين) أن لا يخبر بمرضه ولا يعرَّف بدرجاته وتطوراته، ولا يحذر من عاقبة إهماله؟ إن كان يقول أحد فزعم الزاعم صحيح. من يقول: إن تربِيت [١] الغلام والبشاشة في وجهه عندما يقترف ذنبًا ويأتي منكرًا، هو الأفضل في تربيته وأقرب طريق لتقويم طباعه؟ إن كان يقوله أحد فزعم الزاعم صحيح. لا يقول بشيء من ذلك أحد فزعم الزاعم باطل. إن اهتمام عقلاء الأمة ونبهائها في إصلاح شؤون أمتهم، وتشخيص أمراضها، وتحديد درجات المرض، وتحذيرها مغبة التفريط في تناول العلاج، والاعتراف بأن هناك خللاً تجب مداركته، وصدعًا ينبغي شعبه، والإقرار بأن البدع التي خالطت تعاليم الأمة وعقائدها، والفساد الذي سرى في عادها وسائر شؤونها يؤدي إلى اضمحلالها، ويودي بحياتها والنعي على أفرادها انحطاط هممهم، وصغر نفوسهم، والتسجيل عليهم بالحرمان من مزايا الأمم الحية إن لم ينشطوا للعمل، ويقوموا بما وجب عليهم، كل ذلك مما تقوى به في الاحتجاج على أوروبا وينهض دليلاً على أن في الأمة رمقًا يتموج، وأنفاسًا من الحياة تترقرق [٢] ولا تلبث إن أُمهلت حتى يقوى ذلك الرمق، وتنتعش تلك الحياة، فتنهض بالأمة إلى ذرى المجد والعزة، وتعرج بها في معارج السعادة. مسافر أمامه طريق ذات تضاريس وأشواك، وفيها عواثير وهُوًى، وعلى جنابتيها أضباس [٣] تزأر فيها الأسود، وأدغال وأجم تدب تحتها الهوام والأفاعي وعدوه يترصده في معاطف تلك الطريق ومخارمها، ويعترض سيره مجاهل وقفار لا يجد فيها حسوة ماء، ولا لماظة قوت، وذلك المسافر مضطر لسلوك تلك الطريق وبلوغ الغاية التي ينتحيها وهو خالى الذهن مما يوشك أن يشارفه على غفلة من وعورة الطريق وأخطارها، هل من وفاء الذمم ترك نصيحته؟ هل من سداد الرأي ونفاذ البصيرة ترك تحذيره وتخويفه؟ أليس إخباره بما سيلاقيه يكون أدْعَى لأخذ أهبته، وإيقاظ نفسه، وإثارة عزيمته؟ لا جرم أنه حينئذ يبذل من الاهتمام والتأهب، ويستنزف من الحذر والتيقظ على قدر ما يعلم من مخاطر تلك الطريق، وما يصل إلى سمعه من أهوالها ومخاوفها، ويوفر من وسائل الدفاع وأدوات الصيال، ومواد الغذاء ومرافق المعيشة ما يأمن معه على حفظ حياته وبلوغ غايته، بل يبلغ به الحزم وأصالة الرأي أن يستصرخ إخوانه، وكل من يؤم وجهته ويستفز هممهم للمشايعة في العمل، والمرافقة في السير؛ كي يقووا جميعًا على مدافعة الصائل، ومقاومة الغوائل؟ والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. (انتهى)