ذكرنا في عدد سابق أن تقصيرات العلماء التي وصلت بنا إلى ما نحن فيه اليوم عشرة، ووعدنا بالكلام عليها تفصيلاً في مقالات متعددة، وأهمها: أولها في الذكر وفي سوء التأثير، وهو التفرق في الدين واختلاف المذاهب في أصوله بالأخص، ولما كان هذا يحتاج إلى شهادة التاريخ رأينا أن نذكر بعض الوقائع التاريخية في الموضوع؛ لما فيها من الفائدة والاعتبار، ولرغبة النفوس في الاطلاع عليها وعنايتها بقراءتها. وهاؤم اقرءوا في أولها هذه الواقعة التي وقعت في مثل هذا الشهر المبارك، إنها من أهون الوقائع وهي: (الواقعة الأولى) : لما اتصل بالملك الأشرف موسى ابن الملك العادل في دمشق (قبل خروجه إلى مصر) ما عليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام من العلم والدين، وأنه سيد أهل عصره وحجة الله على خلقه - أحبه وصار يلهج بذكره، ويؤثر الاجتماع به، والشيخ لا يجيب إلى الاجتماع به، وكانت طائفة من مبتدِعة الحنابلة القائلين بالحرف والصوت، ممن أحبهم السلطان في صغره، يكرهون الشيخ، ويطعنون فيه، وقرروا في ذهن السلطان الأشرف أن الذي هم عليه اعتقاد السلف واعتقاد أحمد بن حنبل وفضلاء أصحابه، واختلط هذا بلحم السلطان ودمه، وصار يعتقد أن مخالفه كافر حلال الدم. ولما مال السلطان إلى الشيخ عز الدين دست إليه هذه الطائفة أن الشيخ أشعري العقيدة، يخطِّئ من يعتقد الحرف والصوت ويبدِّعه، ومن جملة اعتقاده أنه يقول بقول الأشعري: (إن الخبز لا يشبع، والماء لا يروي والنار لا تحرق) . فاستهول ذلك السلطان واستعظمه ونسبهم إلى التعصب عليه، فكتبوا فتيا في مسألة الكلام وأوصلوها إليه مريدين أن يكتب عليها فيسقط وصفه عند السلطان، وكان الشيخ قد اتصل به ذلك، فلما جاءته الفتيا قال: هذه الفتيا كتبت امتحانًا لي، والله لا أكتب فيها إلا ما هو الحق، فكتب العقيدة المشهورة، فلما فرغ منها رماها إليهم وهو يضحك عليهم، فطاروا بالجواب وهم يعتقدون أن الحصول على ذلك من الفرص العظيمة التي ظفروا بها، ويقطعون بهلاكه واستباحة دمه وماله، فأوصلوا الفتيا إلى الملك فاستشاط غضبًا وقال: صح عندي ما قالوه عنه، وهذا رجل كنا نعتقد أنه متوحد في زمانه في العلم والدين، ويظهر بعد الاختبار أنه من الفجار، لا بل من الكفار، وكان ذلك في رمضان عند الإفطار، وعنده على سماطه عامة الفقهاء من جميع الأقطار، فلم يستطع أحد منهم أن يرد عليه، بل قال بعض أعيانهم: السلطان أولى بالصفح، ولا سيما في مثل هذا الشهر، وموه آخرون بكلام موجه يوهم صحة مذهب الخصم يظهرون أنهم بموافقته (انظر إلى علماء السوء وفقهاء الضلال كيف استُعبدوا للسلاطين وأغضبوا الحق لإرضائهم فضاع بينهم الدين) فلما انفصلوا تلك الليلة من مجلسه بالقلعة اشتغل الناس في البلد بما جرى في تلك الليلة عند السلطان، وأقام الحق سبحانه وتعالى الشيخ العلامة جمال الدين أبا عمر بن الحاجب المالكي، وكان عالم مذهبه في زمانه، وقد جمع بين العلم والعمل، فتكلم في هذه القضية ومضى إلى القضاة والعلماء الأعيان الذين حضروا هذه القضية عند السلطان وشدد عليهم النكير. وقال: العجب أنكم كلكم على الحق وغيركم على الباطل، وما فيكم من نطق بالحق وسكتُّم وما انتصرتم لله تعالى وللشريعة المطهرة، ولمَّا تكلم منكم من تكلم قال: السلطان أولى بالعفو والصفح، وهذا غلط يوهم الذنب، فإن العفو والصفح لا يكونان إلا عن جرم وذنب، هلا أعلمتم السلطان بأن ما قاله ابن عبد السلام مذهبكم ومذهب أهل الحق، وأن جمهور السلف والخلف عليه لم يخالفهم فيه إلا طائفة مخذولة يُخفون مذهبهم ويدسونه على تخوف إلى من يستضعفون علمه وعقله، وقد قال تعالى {وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: ٤٢) ولم يزل يعنّفهم ويوبّخهم إلى أن اصطلح معهم على أن يكتب فتيا بصورة الحال، ويكتبوا فيها بموافقة ابن عبد السلام، فوافقوه على ذلك وأخذ خطوطهم بموافقته. والتمس ابن عبد السلام من السلطان عقد مجلس للشافعية والحنابلة ويحضره المالكية والحنفية وغيرهم من علماء المسلمين، وذكر أنه يعتقد أن السلطان إذا ظهر له الحق يرجع إليه ويعاقب مَن قوّى الباطل عليه، وأنه أولى الناس بموافقة والده السلطان الملك العادل تغمده الله برحمته، وأنه عزر جماعة من أعيان الحنابلة المبتدعة، وأنه أخذ خطوط الفقهاء الذين كانوا بمجلس السلطان في ذلك الوقت. فلما وقف السلطان على ذلك أجابه كتابة بجواب يذكر فيه أنه رأى من عقيدته ما يغنيه عن الاجتماع به، وأنه (أي السلطان) يتبع ما عليه الخلفاء الراشدون، وذكر فيه ما إذا كان الشيخ يدعي الاجتهاد. فأجابه الشيخ بجواب مطول يصدع فيه بالحق، فاستشاط السلطان غضباً، وأمر أن لا يفتي الشيخ ولا يخرج من بيته، وأن لا يجتمع بالناس، ففرح الشيخ لما بلغه ذلك فرحًا شديدًا وقال لرسول السلطان: لو كان عندي خلعة تليق بك لخلعت عليك، ولكن خذ هذه السجادة فصلِّ عليها ونحن على الفتوح، فقبِلها وقبَّلها (وكان الرسول يعتقد صلاح الشيخ) ولما ذكر للسلطان ما دار بينه وبين الشيخ قال لمن حوله: قولوا لي ما أفعل به، هذا رجل يرى العقوبة نعمة اتركوه بيننا وبينه الله، وبقي الشيخ على هذا ثلاثة أيام. ثم إن الشيخ العلامة جمال الدين الحصري شيخ الحنفية في زمانه، وكان قد جمع بين العلم والعمل ركب حمارًا له وحوله أصحابه وقصد السلطان، فتلقاه خاصته وأدخلوه إلى دار الملك راكبًا كما أمرهم، ولما رآه السلطان مشى إليه وأنزله عن حماره وأكرم مثواه، وكان ذلك في رمضان قريب غروب الشمس، فلما صلوا المغرب أحضر السلطان قدح شراب وناوله للشيخ فقال له الشيخ: ما جئت إلى طعامك ولا إلى شرابك، فقال له السلطان: (يرسم الشيخ ونحن نمتثل مرسومه) فقال له: إيش بينك وبين ابن عبد السلام؟ هذا رجل لو كان في الهند أو في أقصى الدنيا كان ينبغي للسلطان أن يسعى في حلوله في بلاده ليتم بركته عليه وعلى بلاده، ويفتخر به على سائر الملوك. فقال السلطان: عندي خطه باعتقاده في فتيا، وخطه أيضاً في رقعة سيَّرتُها إليه فيقف الشيخ عليهما ويكون الحكَم بيني وبينه، ثم أحضر السلطان الورقتين فقرأهما الشيخ إلى آخرهما وقال: هذا اعتقاد المسلمين، وشعار الصالحين ويقين المؤمنين، وكل ما فيهما صحيح، ومن خالف ما فيهما وذهب إلى ما قاله الخصم من إثبات الحرف والصوت فهو حمار. فقال السلطان: نحن نستغفر الله مما جرى ونستدرك الفارط في حقه، والله لأجعلنه أغنى العلماء، وأرسل إلى الشيخ واسترضاه وطلب محاللته ومخاللته. وكان الحنابلة قد استنصروا به على أهل السنة وعلت كلمتهم عليهم، بل صاروا يسبونهم ويضربونهم، فأمر السلطان الفريقين بالإمساك عن الكلام في مسألة الكلام، وأن لا يفتي فيها أحد سدًّا لباب الخصام، فانكسرت نفوس المبتدعة بعض الانكسار، وفي النفوس ما فيها، ولم يزل الأمر على ذلك حتى قدم السلطان الملك الكامل من مصر إلى دمشق، وكان اعتقاده صحيحًا ومتعصباً لأهل الحق، فاستقصى ما وقع في المسألة وقال للملك الأشرف: يا خوند، ماذا صنعت في أمر الشافعية والحنابلة؟ فقال: يا خوند، منعت الطائفتين من الكلام وانقطع بذلك الخصام، فقال الملك الكامل: والله مليح، ما هذه إلا سياسة وسلطنة تساوي بين أهل الحق والباطل وتمنع أهل الحق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يظهروا دين الله وأن يشنق من هؤلاء المبتدعة عشرون نفسًا ليرتدع غيرهم، وأن يمكَّن الموحدون من إرشاد المسلمين وأن يبينوا لهم طريق المؤمنين. فعند ذلك زلت أعناق المبتدعة وانقلبوا خائبين ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا، وكفى الله المؤمنين القتال على يد الملك الكامل، وانقشعت المسألة للملك الأشرف، وصرح بخجله وحيائه من الشيخ وقال: لقد غلطنا في ابن عبد السلام غلطة عظيمة، وصار يترضاه ويعمل بفتاويه ويقرأ مصنفاته.