للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد زهران


الانتقاد على تفسير المنار
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي الجليل:
السلام عليكم ورحمة الله (وبعد) فقد أدهشني جدًّا وأضاق صدري كثيرًا
جملة جاءت بشرح آية {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (آل عمران: ٢١) من تفسيركم للجزء الثالث حاصلها أنه إذا أريد بكلمة حق في
الآية ما يشمل الحق العرفي كما هو مقتضى عموم النكرة في سياق النفي كان قيد
(بغير حق) مخرجًا لقتل نبي بحق كما لو قتل المصريون موسى لقتله القبطي، فإنه
بتقدير أن يكون عرفهم يقضي بقتل القاتل خطأ يكون قتلهم له بحق فلا يعاقبون عليه،
وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير عادلة اهـ.
وهذا مما يقتضي منه العجب لو صدر عن أي مسلم فكيف بصدوره عن
مصلح عظيم، وأستاذ محقق كبير مثل السيد، الحق واحد وهو ما طابق الواقع،
فالحق العرفي أي ما يعد في عرف بعض الأمم حقًّا إن كان مطابقًا للواقع فهو حق،
وإلا فهو باطل، فكيف يجوز قتل نبي لمجرد أن ما تواطأ أهل العرف على اعتباره
حقًّا يقضي بقتله؟ هذا مما لا يستجيزه أحد يؤمن بالأنبياء، ثم بعد فرض أن شريعة
الذين قتل موسى عليه السلام أحدهم تجيز قتله مع نبوته، كيف يتردد في كونها
عادلة أو غير عادلة حتى يصح قولكم: (وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير عادلة) .
العبارة لا مساغ لها في نظرنا بل هي نص في أن قتل النبي قد يكون بحق
وجائزًا، واعتقاد هذا كفر بلا ريب، فإن كان لكم فيها قصد صحيح فتكرموا
بشرحه وافيًا في أول عدد يصدر من المنار؛ إزاحة لهذه الغمة من القراء، ولا
تؤخروا هذا البيان إلى عدد ثان؛ لأنه أهم من كل مهم، وقد رأيت من القراء من
أبرق وأرعد لهذه العبارة الغريبة، ولم أجد ما أهون به عليه أمرها مع شدة حرصي
على مقاومة أعداء المنار، وعكوفي على بث الدعوة إليه في كل فرصة، وإني
أنتهز هذه الفرصة لتقديم أوفى عبارات الاحترام والإجلال لشخصكم الكريم.
(استدراك) : الظاهر أن موسى عليه السلام لم يكن نبيًّا حين قتل القبطي فلو
قتل إذًا لم يصدق على قاتله أنه قتل نبيًّا أصلاً فالتمثيل به لمرادكم لا يصح.
كتب على عجل شديد وفي حال تكاد لا تسمح خط سطر واحد فمعذرة.
... ... ... ... ... ... ... ... ١٦ المحرم سنة ١٣٤٧
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد زهران
... ... ... ... ... ... ... ... بالمحمودية بحيرة

(الجواب) : ما قلناه: ليس نصًّا ولا ظاهرًا في أن قتل النبي قد يكون حقًّا،
بل هو نص في أنه لا يكون حقًّا، ولو على سبيل العرف والاصطلاح، وإنما
أوتيتم من ضعف اللغة العربية، والعبرة في كل قول بمقصده الذي يقرره السياق،
فلا يصح أخذ مفرد أو جملة منه، واستنباط معنى منها ينافيه ما سيق الكلام لأجله
وإلا لأمكن أن يقال: إن تقييد القرآن ذم اليهود بكون قتلهم الأنبياء بغير حق يدل
بمفهومه على أن قتلهم قد يكون بحق في نفس الأمر، ولكن الذي وقع منهم وذموا
عليه كان قتلاً بغير حق، وهل يقول هذا أحد يفهم هذه اللغة بناء على أن مقدم القيد
كثيرًا ما يكون مقصودًا، وإلا كان القيد لغوًا.
وهذا نص عبارتنا: وقوله تعالى: {بِغَيْرِ الحَقِّ} (الأعراف: ٣٣) بيان
للواقع بما يقرر بشاعته وانقطاع عرق العذر دونه، وإلا فإن قتل النبيين لا يكون
بحق مطلقًا كما يقول المفسرون، وأقول: إن هذا القيد يقرر لنا أن العبرة في ذم
الشىء ومدحه تدور مع الحق وجودًا وعدمًا لا مع الأشخاص والأصناف، وإذا قلنا:
إن كلمة (حق) المنفية هنا تشمل الحق العرفي بقاعدة أن النكرة في سياق النفي
تفيد العموم يدخل في ذلك مثل قتل موسى عليه السلام للمصري، وإن لم يكن
متعمدًا لقتله، فإذا كانت الشريعة المصرية تقضي بقتل مثله وقتلوه يكون قتله حقًّا
في عرفهم لا يذمون عليه، وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير عادلة، واليهود لم
يكن لهم حق ما في قتل من قتلوا من النبيين لا حقيقةً ولا عرفًا اهـ.
هذه الجملة الأخيرة هي النتيجة المقصودة من السياق كله وهو أن مقتضى
بلاغة القرآن في التعريف والتنكير أن تنكير كلمة حق هنا تدل على أن أولئك
اليهود الذين كانوا يقتلون النبيين لم يكن لهم أدنى شبهة من الحق على قتلهم حتى ما
قد يسميه بعض الناس حقًّا في عرف يصطلحون عليه، وإن لم يكن حقًّا في الواقع
ونفس الأمر، هذا وقد صرَّحنا قبل ذلك بما قاله المفسرون كافة من أن قتل النبيين
لا يكون بحق مطلقًا.
فإذا كان هذا هو المقصود من السياق كله، فكيف فهمتم من تصوير ما يُعَدَّ
حقًّا عرفيًّا أنه نص في أن قتل الأنبياء قد يكون حقًّا؟ وهل هذا إلا قلب للموضوع
وإبطال للنص الصريح المقصود بالذات من العبارة مع التصريح به قبلها؟
على أن تمثيلنا لمسألة القتل والعقاب عليه بمقتضى شريعة عرفية بقتل
(موسى) للمصري لو عاقبوه عليه بالقتل بحسب شريعتهم لا يدل أيضًا على ما
فهمتم من تجويز كون قتل الأنبياء يكون بحق، فإن التمثيل ليس فيه ذكر الأنبياء
وموسى عليه السلام لم يكن نبيًّا عندما قتل المصري، وهو عَلَم شخص مفهومه
جزئي، والنبي اسم جنس ومفهومه كلي، فأي منطق أباح لكم أن تجعلوا القضية
الجزئية الشخصية قضية كلية؟
ومن العجيب قولكم في ذيل الانتقاد وقد تذكرتم أن موسى لم يكن نبيًّا: إن
التمثيل به لمرادنا لا يصح! إنه ليس لنا مراد من التمثيل إلا تصوير ما يسمى حقًّا
عرفيًّا، وأنه لم يكن مما يمكن أن يستند إليه قتلة الأنبياء من اليهود فصح أنه لم
يكن لهم أدنى عذر أو شبهة، هذا مرادنا لا مراد لنا غيره، ولكن حكمتم علينا
بسوء الفهم لا القصد، إن مرادنا التمثيل لقتل الأنبياء وهو ما ينافيه سابق الكلام
ولاحقه.
هذا وإن الواقع أن موسى عليه السلام قتل رجلاً مصريًّا بغير حق، ولكن
كان ذلك قبل نبوته ورسالته، وقد سمى هو ذلك ذنبًا بقوله في خطاب ربه: {وَلَهُمْ
عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} (الشعراء: ١٤) واعترف لفرعون بأنه فعل ذلك
وهو من الضالين، وأن الله مَنَّ عليه بعد ذلك وجعله من المرسلين، كما ترى في
أول سورة الشعراء، وكان أول ما أوحى الله تعالى إليه أن ذكَّره فيما ذكره به من
ماضيه أنه قتل نفسًا وأنه تعالى نجَّاه من الغم وفَتَنَه بعد ذلك فُتُونًا، أي محَّصَه
وطهَّره ثم جعله رسولاً كما ترى في أوائل سورة طه.
والظاهر من خوفه أن يقتلوه أنه كان من شريعتهم قتل القاتل وإن كان قتله
بوكز اليد كما فعل عليه السلام، وفي التوراة يقتل المرء بذنوب دون ذلك منها أنَّ
مَن سبَّ أباه أو أمه يقتل، فلو ظفرت حكومة فرعون به قبل أن يفر وقتلته ألا يعد
قتلها إياه حقًّا في شريعتها؟ وهل تسميته حقًّا في عرفها يدل على أن قتل الأنبياء
عليهم السلام يكون حقًّا مطلقًا أو مقيدًا؟
سبحان الله! إن القاتل المقتول في واقعة الحال غير نبي، وهب أنه نبي،
ولم يقتل لأجل نبوته، فهل يصح الاستدلال بقتله على أن الشريعة التى حكم بها
عليه تبيح قتل الأنبياء - والتعبير بقتل الأنبياء يفيد أن نبوتهم هي السبب المبيح
للقتل؛ لأن ترتيب الحكم على المشتق يؤذن بالعلة كما قالوه في قوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (المائدة: ٣٨) وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} (النور: ٢) الآية، وإذا كان الاستدلال على كون
الشريعة تبيح ذلك غير صحيح أفلا يكون من حكى الواقعة أحق بأن لا يعد مبيحًا
لذلك؟
وجملة القول أننا قد صرحنا في تفسير الآية أن قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير
حق كما يقول المفسرون كافة، وكما قلنا نحن أيضا في تفسير آية البقرة {وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ} (البقرة: ٦١) وفي غيرها، وأننا قد زدنا على هذا بأن
استنبطنا من تنكير (حق) في سياق النفي بأنه ليس لقاتليهم حق ما ولا شبهة حق
بأن يكون حقًّا عرفيًّا لا حقيقيًّا مطابقًا للواقع، فكيف تقول بعد هذا: إن ما ذكرناه
في تصوير الحق العرفي يدل على أننا نجوز أن يكون قتل الأنبياء حقًّا وأنه نص
في ذلك؟
إن من مدهشات العجائب أن يخطر هذا في بال أحد يفهم اللغة العربية، ولو
كانت العبارة توهم هذا وهمًا يخطر في البال مع وجود ما ينافيه فيها لما عدمنا،
وقد مضى على نشر تفسير الآية في المنار وفي التفسير ربع قرن من ينتقد علينا
هذا الإيهام ويوجب علينا رفعه بنص صريح، وفي الناس من ينظرون إلى هفواتنا
بالمناظير المكبرة، ولكن وجد في أصدقائنا من فهم ما فهم، وهو من أهل العلم
واللغة، فنستغفر الله لنا وله.
كتبت هذا وأنا مصاب بالحمى ومنهي عن الكتابة وأسأل الله العافية.