للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حالة المسلمين في جاوه والإصلاح

لا جرم أن من إخواننا الفضلاء قراء (المنار) من يحب أن يطلع على حالتنا
الحاضرة بجاوا؛ لأن وشيجة الرحم الدينية بل والطينية لما تنفصل بعد بيننا وبينهم
طالما وددت أن أزيح الغشاء عن حالتنا الحاضرة، حتى أصورها للقراء كما
هي؛ لولا أن العي والحصر قد ختما على فمي، وكدما رأس قلمي، فلا أستطيع
أن أبدي من الأمر إلا قليلاً.
نعم.. وقد يعتورني بعض الخواطر فأقول: ما لي ولعصر يافوخي في تدوين
حالة تتعثر الأقلام خجلاً من تسطيرها، ويتعلثم اللسان تنزهًا عن شرحها، على أن
شأننا لا يخفى على من له أدنى اطلاع على شؤون الأمم، وجمودنا العريق لا ينكره
من له أقل نظرة في سطح معترك الطوائف الحيوي.
ما كان في المخدع من أمرنا ... فإنه في المسجد الجامع
ومع هذا أجدني مرغمًا على القول بأن حالتنا سيئة، وأراني مضطرًّا إلى
شرحها والشكوى منها؛ بحكم العوامل التي تدفع المريض إلى الأنين والتأوه وشرح
مرضه إلى كل من يراه.
ولكن منا فئام هداهم الله يُحفظهم التنديد بحالتهم المحزنة، ويغيظهم نصح
الناصحين، وإصلاح المصلحين، وعليه فقد أصبحنا جامدين مغرورين (حشفًا
وسوء كيلة) .
بماذا أبتدي وعلام أنتهي؟ يقف بعض الجامدين هنا باهتًا مندهشًا أمام تلك
الكلمات؛ التي ملستها أقلام الكتاب من كل أمة على صفحات الجرائد والمجلات،
وصقلتها ألسن الخطباء على ذرى المنابر والمنصات، حتى أصبحت والحمد لله
فيهم سلوة كل كئيب، وعكازة كل خطيب.
هي تلك الكلمات التي يتبجح بها المتبجحون من الأمم الراقية بقولهم:
(عصر العلم، عصر التقدم) ... إلخ، فترى الجامدين منا يحسبونها من قبيل
الأماني والأحلام، حتى يدفعهم حسبانهم واندهاشهم الناشئين عن جمودهم وجهلهم
إلى تفنيد أولئك المتبجحين وتزييف أقوالهم، ويا ليتهم قاسوا ما جهلوه وما استمحلته
عقولهم من وجود معان لتلك الألفاظ، بما يشاهدونه ولا يشكون فيه مما اكتشفه العلم
الحديث من العجائب التي لم يحلموا بها؛ لا هم ولا قومهم المحرومون من أسرار
الطبيعة والمنبوذون من علوم الكون:
إن تقدم رجال الغرب وعلومهم ومدنيتهم أعظم مما تتوهم، وأضعاف ما قد
نعلم، وإننا لم نر إلا النزر اليسير من بخار تلك المدنية العظيمة التي لا تحتمل
تصديق مثلها عقولنا الضعيفة، ولو أنعم المنصف منا بصره وأعمل فكره في هذا
التقدم المادي والأدبي الذي أحرزته الأمم الغربية ومن ضارعها، ثم كر بصره في
حالتنا الحاضرة؛ لجزم جزمًا صارمًا بأنه مع صرف النظر عن كلمة الشهادتين
التي فضلناهم بها، لم تكن نسبة حالنا إلى تقدمهم إلا كنسبة حال متوحشي نيام إلى
تمدننا، وعلى هذا فلا نجد مسوغًا للوهم إذا هم عاملون بمثل ما نعامل به من هم
أحط أخلاقاً من الإهانة والاحتقار.
مهلاً مهلاً أيها القارئ، ولا تعجل بالوثوب حفظك الله إلى تفنيدي وتكذيبي؛
فإن الشواهد حاضرة، والأدلة قائمة، ولئن آلمك قولي ففي ما نحن عليه معاشر
الحضارة من التأخر والانحطاط ما هو أجدر بالتألم وأحرى بالتأسف، وإن منا والله
أقوام لا يضيرهم الهون، ولا تستفزهم الحمية ولا يؤلمهم القول.
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
إن لبني الغرب في هذا العصر علمًا جمًّا، وفكرًا دقيقًا، وإدراكًا عاليًا،
وهمة جزلة، وأموالاً طائلة، وممالك فسيحة، ومستعمرات ذهبية، وإن لهم من
نفع الإنسانية بل والبهيمية ما لا يستطيع هذا القلم الضئيل وصفه، ولا تدرك
معلوماتنا كنهه.
ليس هذا هو موضوع القلم اليوم، ولكني وددت لو أمثل للمغرورين من قومنا
بعض حال رجال أوربا؛ فيقابلوا بينها وبين حالنا التي نظل شامخين بأنوفنا تيهًا
بها وغرورًا على أنفسنا وزورًا! ! !
من آية وجهة أشرفت علينا معشر الحضارم لا تشاهد إلا منظرًا يصهر الفؤاد
ويذرف العيون، ويفتت الأكباد، ويرقق قلب الشامت.
أمور يضحك السفهاء منها ... ويبكي من مغبتها الحليم
أجل والله، من آية وجهة ألقيت بصرك على مجموع العرب هنا، تجدهم قد
أجادوا في تمثيل أدوار الهمجية الغابرة، والجهالة الفاضحة، وأحسنوا الارتطام في
حمأة التوحش، وأطربوا الشامتين بغطيطهم الناشئ عن سباتهم العميق بل موتهم
الفظيع، وإنه وأيم الحق لينبغي لإخواننا المصريين والسوريين والحجازيين
والمراكشيين وكل من الطوائف العربية؛ أن يبعث بعضهم لبعض مسنون التعزية
في إخوانهم الحضارم الذين ذهبوا ضحية الجهل، وفريسة الغرور، وماتوا
مجاهدين في سبيل الدينار والدرهم.
أخذ الجمود من كبرائنا مأخذه، وتمكن في نفوسهم اعتقاد أن كل جديد ضار،
وأن العكوف على العادات القديمة أنفع ما كان وما يكون، وأن ما سبقتنا إليه رجال
أوربا من الخير لا يجوز لنا فعله شرعًا. رسخ هذا الاعتقاد في قلوبهم، وامتزج
بعقولهم وأرواحهم، حتى صدهم عن استماع الدين، وسدوا فجاج الإصلاح،
ودفعوا في صدر الأمة، حتى قهقروها عن التقدم، زاعمين أن التحسين والتنظيم
وتسهيل وسائل التعليم مخل بالنسب الكريم أو الدين القويم، ومعاذ الله أن يكونوا في
هذا من الصادقين، فإن الفتن في الإصلاح شيء، والدين والأنساب شيآن آخران.
بلغ من تعصب كبرائنا أن حظروا جعل المدارس على الطريقة الحديثة من
إقامة طاولات ومكتبات قدام التلاميذ، توضع عليها أدواتهم، وسرر يجلسون عليها
ولوح خشبي توضح فيه مشكلات المسائل، وعدوا ذلك من المنكرات، والواجب
تغييرها باليد لمن قدر عليهم؛ لأن في هذا كما لا يخفى تشبهًا بالكفار ومجاراة
لأصحاب النار، بل الواجب علينا أن نقشف مداركنا ونهين تلاميذنا؛ فنجلسهم على
قاعة المدرسة مباشرة أو بواسطة حصير في هذه البلاد الندية، حتى يصابوا
بمرض البيري بيري المخوف فيموتوا قريبًا، وننفض أيدينا منهم نفض الأنامل من
تراب الميت، وحينئذ نستريح من انتظار نفعهم في المستقبل.
كنا لما أن رأينا العجمة الجاوية تمكنت جيدًا في أولاد العرب هنا، حتى إن
بعضهم لا يفهم لفظ الأعداد البسيطة بالعربية، ورأينا الأوربيين يدأبون في نشر
لغتهم وعقائدهم الدينية بين أولاد الجاويين، ويحاولون ردهم عن دينهم الإسلامي
الذي ما بقوا متمسكين إلا باسمه، ورأينا إخواننا العرب جامدين سامدين لا يتألمون
ولا يتكلمون، لما رأينا كل ذلك نهضنا على ما بنا بمساعدة بعض الإخوان،
وفتحنا مدرسة لتعليم اللغة إجمالاً: فأولاً يدرس فيها إتقان الألفاظ وتركيبها ثم النحو
والصرف وغيرها من الفنون العربية، ويدرس أيضًا فيها الجغرافية والتاريخ
الإسلامي والعقائد الإسلامية وطرفًا من اللغة الإنجليزية.
وقد باشرت التعليم العربي بنفسي، فجعلت تعليمهم اللغة على أحسن الطرائق
الناجعة الرائجة في هذا العصر؛ وهي طريقة برليتز الأمريكاني التي هي عبارة
عن نظر في المحسوسات والمشاهدات، وعلم في العمليات، (انظر المنار م٨ ج
٢٢ص٨٧) وهي أشبه شيء بطريقة تعلم الطفل لغة أبيه وأمه؛ إذ يدرس التلميذ
الأفعال بالأعمال كأن يحمل الكتاب ويفتحه، ثم يطبقه ويقوم ويذهب إلى اللوح
الأسود ويمسك الطباشير بيده ثم يكتب، وتعرض على سمعه مشاهد الحياة اليومية،
فيسهل عليه تأليف جمل صغيرة، يتزايد كل يوم عددها بسرعة عجيبة. وهذه
الطريقة هي بدون شك أحسن طريقة لتعليم اللغات، فقد جربناها فوجدناها نافقة
نافعة، كما شاهدنا تأثيرها فينا حينما تعلمنا اللغة الإنكليزية عليها، وكما يشهد
المنصفون تأثيرها أيضًا في تلاميذنا الذين يطلبون العربية عندنا على خطتها، بل
قد جربت هذه الطريقة في أجمل عواصم أوربا، وما برحت مدارسها تتكاثر بتلك
الأصقاع حتى صارت اليوم تعد بالمئات، وكلها أسفرت عن نجاح أكيد، وارتقاء
عظيم، واقتصاد في الوقت والمال (انظر المنار) وأما الذي تولى تعليم القسم
الإنجليزي فهو شاب من خيرة الناشئة العربية هنا؛ وهو حضرة الأستاذ عبد
الرحمن القدسي المتخرج من مدرسة المعلمين بسنغافورة والحامل للشهادة.
ولكن مع كل هذا نرى الجامدين والمتعصين من قومنا العرب؛ لم يرضهم
فعلنا، بل قاموا يشتموننا ويقدحون في أعراضنا، ويصادرون نهضتنا، وينفرون
الناس عن مدرستنا، في وقت نحن أحوج الناس فيه إلى مساعدتهم.
حقًّا أقول: إن للمنار هنا اليد الطولى في الإصلاح وترقية العقول، وإحداث
هذه الحركة الفكرية في أدمغة الشبان، فقد أثر معها أيما تأثير ما غذاها به من لبان
الغيرة، وأنشقها إياه من نسيم النهضة، وقذفه إليها من المعارف، فالمنار اليوم هو
أنشودة النابتة هنا ومورد أنظارهم؛ اعتمادًا على ما يرونه غير ما مرة على
صفحاته من ضروب الذكر للحضارم بجاوه، فتارة نصحيًا، ومرة موبخًا، وأخرى
مثنيًا، وطورًا باحثًا عن أحوالهم، متفقدًا لأمورهم، وكل هذا مالا تفعله معهم أية
جريدة أخرى، فالنابتة بهذا لا تعد المنار إلا أكبر أستاذ وأشفق والد.
نعم.. ظهرت أيضًا شبه حركة عربية بسنغافوره محصورة في بعض
الأفراد، فأنشأت منذ زمن غير بعيد جريدتين أو ثلاث، ولكنها والحق يقال: إنما
هي حركة عدائية، قام بها عباد الأهواء والأغراض بعضهم ضد بعض، فياليت
تلك الجرائد التي نحن أحوج الناس إلى إرشاداتها العمومية، واستنهاض الهمم إلى
المعالي، والقيام بالمشروعات المفيدة، عدلت خطتها ورجعت عن غيها إلى ما يعود
بالخير الجزيل على الحضارم وغيرهم.
ولكن من يسمع ما نقول وأنت ترى أولئك سادتنا وقادتنا: إما ساكتين أو
عاملين مثل تلك الأعمال، ولا شك أن سمعة العنصر العربي هنا ستكون سيئة جدًا
حينما يطلع الملايو وغيرهم على جرائدنا وما ينشر فيها، وعوائدنا وما ينجم عنها
فرحماك اللهم رحماك، اللهم لا تشمت بنا عدوًّا ولا تسئ بنا صديقًا، وأنزل
صاعقة من صواعق نقمتك على من قام عثرة في سبيل تقدم هذه الفئة المنكودة الحظ. آمين آمين.
... ... ... ... ... ... ... محمد بن هاشم طاهر
... ... ... ... ... ... مدرس العربية بفليمبغ سوماترا
(المنار)
كاتب هذه الرسالة من أذكى شبان الحضرميين المقيمين في تلك الجزائر ذهنًا،
وأزكاهم نفسًا، وأشهم غيره؛ فهو يحب أن يعمل ويخذله شيوخ من قومه، وأقوى
الخاذلين للإصلاح في تلك البلاد جاهًا وعضدًا الشيخ الهرم عثمان بن عقيل، وقد
يسوء الكاتب أن نصرح بذلك؛ لأنه من أسرته أو هو عمه كما أظن، ونحن
نكره أن نذكر المفسدين في الأرض بأسمائهم لولا الضرورة.
كان المسلمون يكتبون إلينا في السنة الأولى والثانية والثالثة للمنار (أي منذ
١٤ سنة) مقالات في بيان ظلم هولنده وضغطها على العرب واضطهادها لهم،
ويقولون: إن عونها عليهم هو واحد منه اسمه السيد عثمان بن عقيل؛ لأنها جعلته
جاسوسًا عليهم ومستشارًا لها في أمورهم، وما كنا ننشر شيئًا مما يكتبون لكراهتنا
الخوض في سيئات الأشخاص؛ ولأننا كنا نظن أن ذلك الطعن في الرجل يوشك أن
يكون لهوى أو غرض أو منافسة، وأما الضرورة التي دعتنا إلى التصريح باسمه
والتحذير منه بعد ذلك؛ فهي ما رأيناه من رسائله التي يطبعها وينشرها بين
المسلمين في التنفير من الإصلاح والمصلحين، الخبط والخلط في أحكام الدين،
وتحريم العلوم والفنون والنظام، وشبهته أن إنشاء المدارس المنتظمة وتعلم العلوم
الرياضية والطبيعية من التشبه بالإفرنج، وهو حرام مطلقًا في اجتهاده الجهلي،
وكذا يحرم عنده تعلم العلوم العربية والشرعية بطريقة جديدة وعلى هيئة صحية؛
كما عليه العمل في مصر والآستانة وغيرها، كل ذلك عنده من التشبه المحرم في
شرعه، وليس منه تعليقه هو وسام هولنده على صدره، وقد رسم فيه الصليب
علامة على خدمته له ولأهله! ! فهكذا يقتل هؤلاء الجهال المسلمين باسم الإسلام،
وقد زاد الطين بلة أن أنشأ بعض أنصاره جريدة في سنغافوره لعداوة الإصلاح
وأهله، والتبجح بخرافاته ودجل دجال بيروت المعروف.
كان أول من سلط عثمان بن عقيل على إغواء المسلمين ومنعهم من أسباب
الترقي عدو الإسلام الدكتور (سنوك فخرونية) الهولندي المنافق الذي ادعى
الإسلام، وسمى نفسه عبد الغفار، وأقام زمنًا في الأزهر، وذهب إلى مكة فأقام
فيها يتجسس على المسلمين، ثم أخرج منها بدلالة وكيل فرنسة السياسي في جدة،
ثم جعلته هولنده مستشارها في معاملة المسلمين فأعانه عثمان بن عقيل على ظلمهم
ومنعهم من الترقي، وعلى اضطهاد العرب، فكافأته هولنده بالمال وبوسام صليبي
يفتخر بوضعه على صدره، فهكذا يكون أنصار الإسلام! ! ولولا هذا المفسد
وأنصاره لتقدم الحضارمة هناك في العلم والعمل، وأصلحوا تلك الجزائر كلها وكانوا
أئمة العلم والنور والهداية فيها؛ لما أوتوه من الذكاء النادر، ولا بد أن يزيل الله
هذه العقبات من طريقهم، ويصدق رجاءنا فيهم، فليعلم السيد محمد بن هاشم أن الله
لا بد أن يظهر دينه كما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وأن ينصر حزبه
أنصار كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على الدجالين والمنافقين، ولتعلمن
نبأه بعد حين.
هذا، وإننا نحث محبي العلم وأنصار اللغة العربية على إمداد مدرسة فليمبغ
بالكتب والمال؛ لتكون ينبوعًا للترقي والإصلاح في تلك البلاد، وقد علمنا أن
جمعية نشر اللغة الإنكليزية قد ساعدتها بالكتب التعليمية، ألسنا نحن أولى بهذا
الخير وأحوج إليه.