للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


تعليم التاريخ الطبيعي
بتمثيل الفانوس السحري [*]

المكتوب (٣٦) من هيلانة إلى أراسم في ٢ نوفمبر سنة ١٨٦
فرغت من إقامة معهد التمثيل الصغير الذي كنت حدثتك عنه في بعض
مكاتيبي السابقة، ولي أن أقول ولا فخر إنه ناجح مؤدٍّ إلى الغاية المقصودة.
استحضر لي الدكتور وارنجتون من لوندرة فانوسًا سحريًّا، وهو آلة جميلة
معدَّة لأن تتجلى فيها المناظر المتعاقبة بواسطة الضوء واللون، ومن خواصها أنها
تكبر ما يمثل فيها من الأشياء تكبيرًا في غاية المناسبة، وترسم على حجابها الذي
هو من القماش صورًا لا يمكن أن يرى أظهر ولا أوضح منها؛ لذلك تراني قد قمت
بما أخذته على نفسي من رسم معظم الصور وتلوينها على زجاجها مختبرة ما يكون
للوهم من الأثر في النفس عند النظر إليها، وقد بدا لي أيضًا أن من المفيد أن أؤلف
بين ما تمثله هذه الآلة من المشاهد المختلفة بتنسيقها وجعلها على شكل قصة وجيزة
تجعل التمثيل مرتبًا متواصل الأطراف يستميل النفوس ويبهج الأنظار، ولما
انتهيت من هذا العمل دعوت إلى المعهد في الشتاء الماضي عشرين طفلاً من
الولدان والولائد مخالفة في ذلك سنة الكومتيس ديسكاريانياس؛ فإنها كانت تشخص
في بيتها القصص الهزلية وتأمر بوابها بأن لا يدخل أحدًا، وسبب هذا المخالفة أني
أعتقد أن الإنسان لا يمكنه أن يلتذ بشيء من مروحات النفس إلا إذا كثر عدد
حاضريها، وإنهم إذا كانوا أطفالاً تكون الاستفادة أعظم والنفع أتم.
ابتدأت التمثيل بعرض أشياء في غاية البساطة كداخل ضيعة أو طاحون
والمعيشة في سفينة، ثم مثلت هذه السفينة في يوم آخر وقد نقلتنا إلى بلاد بعيدة،
كان أبعدها عن أخلاقنا وعوائدنا أدعاها إلى إثارة الاستغراب وتهييج الشوق في
نفوس النظار الصغار، فكانوا يحبون أن يروا بيوتًا بنيت على خلاف طريقتنا في
البناء، وشوارع وساحات ورحبات عامة فيها رجال ونساء غريبو الأزياء والهيئات
وكان فيما عرضته عليهم صورة صيد الحيوانات الوحشية خصوصًا أضخمها
وأضراها كالفيل وفرس البحر والكركدن والأسد والنمر، فلم أعدم منهم تحمسًا في
الدهش والإعجاب بها، ثم أريتهم قافلة تجوب الصحراء فشاقهم منظرها كثيرًا،
ولقد كفتني هذه التجارب في الاقتناع بأن في فانوسي السحري عزيمة (يا سمسمة
انفتحي) [١] وإني إن لم أستعن به على فتح أبواب المجهولات لأصدقائي الأحداث
كنت مخطئةً ملومةً.
يتشوف الأطفال كثيرًا إلى معرفة كيفية تكون الحيوانات والنباتات والصخور
وتتشوق نفوسهم إلى معرفة طريقة نشوء جميع ما يشاهدونه كل يوم من ذلك، فقد
أذنت جماعة النظار جهرًا بأنا سنمثل على الدوام قصة ذات بهجة وجلال مؤلفة من
عدة فصول تسمى تاريخ الأرض.
استعنت عشية هذا التمثيل بجميع ما في النفوس من قوة الاستعداد وبصور
اُعتمد في رسمها على آراء علماء طبقات الأرض من الإنكليز، وبقليل ما حصلته
من العلم بمطالعة الكتب، واستقر رأيي على أن أجعل في التمثيل لفواعل الكون
وقوى الطبيعة لسانًا نفصح به عن الحقائق والحوادث، وهو تجوّز يمكن أن يسمح
به في قصص الغناء والتلحين الشعري على أنه لم يكن المقصود من ذلك قرض
الشعر بحال، بل كان الغرض منه إيضاح ما لم تكف آثار الضوء والألوان
المتنوعة في إظهاره على الحجاب إظهارًا تامًا بعبارات في غاية السهولة، مثال
ذلك أن أقول للنظار: أتدرون ماذا كان يقول المحيط الذي هو أصل الأشياء لما
غمر سطح عالم أزهقت روحه مياهه؟ الحق أقول إنني لم أقف على كلامه؛ ولكني
أخال أنه كان يدعو الحياة دعاء الأنبياء، ويسألها أن تزيل الوحشة من أعماقه
المظلمة ولججه القاحلة.
ولا جرم فقد بدا في أشعة الضوء السحري أقدم ما عُرف من أشكال الحيوانات
كالأوداميا [٢] ، واللنجولا [٣] ، والأورتوسيراتيت [٤] طاغية البحار السيلورية [٥]
والتريبوليت [٦] وغيرها من مخلوقات الكون الأولى التي رسمت صورها اعتمادًا
على بقاياها الأثرية، أو على ما انطبع على الصخور من تلك البقايا.
ثم تلا ذلك ظهور أول أرض انحسر عنها الماء، فنهدت على سطحه وكانت
طوائف من الجزر، كان يخيل للنظار بواسطة المغالطة البصرية أنهم يشاهدون
الأعشاب الشجرية تنبت منها وذلك كالسيجيلاريا [٧] والاستجماريا [٨] وغيرهما من
المُثُل الأصلية للنباتات القديمة، ولست أنكر أن جميع هذه المناظر هي صور في
نهاية الحقارة بالنسبة لما تمثله من المشاهد الكبرى للكون في عصره الأول، ولو أن
إنسانًا كان قُدِّر له أن يشهد خلق الأشياء حضر في معهد تمثيل تلك الصور لما
وسعه إلا أن يضحك منها؛ لأنها ليست إلا أشباح لاعب، ولكن لا يغرب عن ذهن
هذا الساخر أن هذا التمثيل إنما جُعل للأطفال، وأن القصد منه هو تعليمهم، وهو
غرض جليل يجب الإغضاء عن حقارة ما يُتخذ من الوسائل للوصول إليه.
كان يتلو كل عصر من عصور تاريخ الأرض فترة جهالة عمياء وسكوت عام
كانت تدل كما نبهت النظار إليه، على اشتغال الدهر بعمله البطيء الخفي.
ظهر في الفصل الثاني من القصة سلسلة مناظر مختلفة آذنت بحصول بعض
الحوادث الكبرى على سطح الأرض، منها أن جزرًا نتأت من الماء وتواصلت
فكانت بداية تكوُّن القارات المستقبلة، ومنها أن ظهرت نباتات وحيوانات جديدة لم
يكن عُهد لها وجود في العالم إلى ذلك الحين، وأخص ما أثار دهش النظار من تلك
الحوادث وهاج إعجابهم دور ظهور الزواحف، وقد حملني ما رأيته من ذلك على
اعتقاد أن بين طفولية الكون وطفولية الخيال مناسبة ومطابقة، لما خلته من ارتياح
نفوس تلامذتي الصغار لمشاهدة صور تلك المملكة الحيوانية الفانية؛ فإني قد مثلت
لهم الليبيرانتودون [٩] وهو ضفدعة كالثور في الضخامة، والإختوزيور [١٠] ذو العين
الهائلة، والبليزيوزيور [١١] الذي عنقه كعنق الثعبان والميغالوزور [١٢] فيل الزواحف
الذي رأسه كرأس الضب، والهيليوزور [١٣] ذو الظهر الشائك وصنوف الحيات
الطيارة المسماة بالبتروداكتيل التي تشابه ذلك الوحش الخرافي ذا الأجنحة الذي
وجهه وجه امرأة، وجسمه جسم عقاب واسمه الهاربي، فأثارت دهشتهم وإكبارهم
لها بمقادير أجسامها الهائلة وقوة الدفاع فيها، ثم تلاشت نوعًا بعد نوع كما تتلاشى
الأحلام.
كان النظار يعتقدون أن جميع هذه المخلوقات كانت عائشة على وجه الأرض
لأني كانت أؤكد لهم ذلك بذمتي، وكان هذا التأكيد مصدر استغراب جديد لهم،
على أني ما قصدت إضلال أحد منهم، ولا التمويه عليه، بل قصصت عليهم
بالإيجاز كيفية معرفتي إياها وبينت لهم ما أضفته من عندي إلى ما عرف حق
المعرفة من تركيبها وتاريخها، ولو أن سائلاً منهم سألني عن سبب انمحائها من
على وجه الأرض لأعضلني سؤاله، على أني كنت أجيبه أننا معشر الموجودات قد
زج بنا في محيط الدهر زجًّا شديدًا، والدهر كما تعلم منشأ التقلب، وقد وجد في
طبائعنا الاستعداد لجميع ما قُدِّر لنا من ضروب تصاريف الحياة واستحالاتها، فمهما
كان عمر الزواحف القديمة طويلاً فلا بد أنها قد مرت بما قُدِّر للكون من النظام العام
كما كانت تمر أشباحها الممثلة على الحجاب المعد لقبولها.
آذن الفصل الثالث من القصة بمناظر خلوية اجتهدت في أن أمثل في بعض
آيات العصر الذي يسميه علماء طبقات الأرض فجر حياة الأرض الحالية (أيوسين)
وظهر بعد الزواحف الضخمة جسام الحيوانات الثديية كالميجاتيريوم [١٤] الهائل
والدينوتيريوم [١٥] مارد المردة في عصرها والمستودونت [١٦] كبير الحيوانات البائدة
الصفيقة الجلود وغيرها مما لم أذكره، وإن كان من أغربها، أحضرها الفانوس
فعرضها على الأنظار برهة، ثم لما رأت أن هذا الكون الذي نعيش فيه لم يُخلق لها
حتى ما كان منه في حيز الوهم والمغالطة لم تلبث أن لبَّت دعوة العدم فزالت على
التعاقب كما بدت.
على أن ما تلا هذه العصور الأولى من الاستحالات والانقلابات في النباتات
والحيوانات التي كانت موجودة فيها قد آذن بأن الأرض صائرة إلى أحوال العصور
الحالية، فأنشأ الأطفال يتدرجون في الشعور بأنهم في أرض يعرفونها، مع ما كان
لا يزال يوجد من التباين بينما فيها وبين ما يعرفونه من أرضهم، كانت تتجلى
أمامهم غابات تقارب أشجارها أشجار غابتنا، تجول فيها أُيَّل ضخمة الأجسام تعدو
وراءها السباع التي لا يزال نسلها يفترس فرائسه إلى اليوم في الصحاري والقفار.
لم يكن البرد إلى ذلك الحين قد كدر صفاء هذه المشاهد التي كان يسبح فيها
ضوء الشمس ممزوجًا بحرارتها القوية؛ ولكن في آخر العشية بدت تباشير الثلج
فكان لها مناظر محزنة متعاقبة استعنت في إبرازها للعيان بكل ما في فانوسي من
قوة الاستعداد، ففهم منها النظار أن حيوانات العصور الأولى قد أهلكتها هذه
المؤثرات المبيدة أو أنها أوت إلى أقاليم أخرى أشد حرارة من أقاليمها الأولى،
وكان صاحب السلطان على هذه الأقاليم الباردة هو الوعل القطبي والفيل ذو الفروة
المسمى بالمموث، كان يخيل للأطفال أن الأرض صائرة إلى الفناء وخلتني أطالع
في عيون أكثرهم التفاتًا آيات القلق والحيرة، ولم أر من الضروري أن أسري عنهم
هذا القلق فقد تكفلت بذلك الحوادث، أستغفر الله بل صور الحوادث.
بدت أمامهم مغارة نحتتها يد الفطرة في سمك الصخور، فكانت ملجأ أوت إليه
الحيوانات الوحشية كالدب والضبع الذي هو نوع من الكلب وغيرهما من النزلاء
التي ترجع في نسبها إلى أنواع من الحيوانات قد أصبحت اليوم مستأنسة، ثم ظهر
لهم خلق جديد هو عجيبة الكون ذلك هو الإنسان رأوه على ضوء نار أوقدها لنفسه
في جانب منزل من الأرض، وهو شبه حي عرف كيف يختطه لنفسه، فليت
شعري ما هو ذلك الخلق ومن أين هو؟ لا شك أن مثل هذين السؤالين هما من
الأسئلة المعضلة التي يحار الإنسان في الجواب عنها والمناقشة فيها أمام أطفال لا
تتسع عقولهم لها على أني لست متثبتة في العلم بالإجابة عنهما، من أجل ذلك رأيت
من الحزم أن أطفئ فانوسي وأكف عن الخوض فيهما.
إجابةً لطلب العموم كما يقال في إعلانات معاهد التمثيل، قد استعد معهدنا
لإيجاد عدد عظيم من المشاهد ستمثل في قصتنا.
عقدت النية على الاستمرار في دروس التمثيل هذه، وعلى أن أحكي
لأصدقائي الأحداث بواسطة الفانوس تاريخ الإنسان ومغالبته لفواعل الكون، وما
اتخذه من آلات صيده أو أدوات عمله الأولى وتجاربه الصناعية مذ كانت الصناعة
في مهد طفوليتها، ثم أبين لهم بعد ذلك بهذه الطريقة عينها ما عُرف من المجتمعات
القومية والعوائد القديمة وآثار الفنون الأولى؛ فإني أرى أنه لا شيء إلا ويمكن أن
يفهمه الأطفال على شرط إطلاعهم على كل ما نحدثهم به من الأشياء، والنزول
معهم في التعبير إلى الحد الذي تطيقه أذهانهم.
لست أغبى عن قيمة صناعة رسم الأشباح، ولا أجهل ما تساويه تلك
الألاعيب الخيالية، ولا خفاء في أني لا أدعي أني إذا استعرضت أمام أميل بعض
صور لما كانت عليه الأرض والناس في عصورهم القديمة، أكون قد علَّمته علم
الطبقات الأرضية، أو علم التاريخ، وإني أعلم أيضًا أن كثيرًا من الصور السحرية
لا تلبث أن يزول أثرها من أذهان الأطفال كما يزول من حجاب الفانوس؛ ولكن
كل هذا لا شيء فيه فحسبي أن يثبت في أذهانهم صورة أو صورتان، فإن تم ذلك
رجوت لهم في مستقبلهم أن يجتهدوا في تحصيل العلم بأنفسهم من المدرسة الكونية،
أو من مدارسة الكتب، وعلى كل حال فليس الغرض من تعليمهم في الصغر أن
يحصلوا العلم؛ وإنما الغرض منه أن تبعث فيهم روح الشوق والميل إلى المعرفة
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))